معركة الوعي (257) كذبتم…! فإنّ الأقصى ليس بخير/ Al -aqsa Laysa Bkher
حامد اغبارية
يحاول الاحتلال بكل وسيلة خبيثة أن يُحدث اختراقا في وعي الناس بشأن كلّ قضيّة تخصّ مجتمعنا في الداخل وتهم شعبنا وأمتنا، وعلى رأس هذه القضايا، وفي مقدمتها وفي القلب منها قضية المسجد الأقصى المبارك، وما يتعرض له من انتهاكات يومية، ليس فقط من جانب المستوطنين، وإنما في الأساس من طرف المؤسسة الرسمية الإسرائيلية، ممثلة بوزراء وأعضاء كنيست وشرطة ومخابرات وغيرها.
قبل أيام انتشر فيديو قصير يحتوي على “مباركة وتهنئة من الحركة الإسلامية والموحدة باتفاقية السلام وعودة المختطفين”. إلى هنا الأمر عادي، و”طبيعي” عند الذين جعلوا كل السّفاهات والتّفاهات والنواقص أمرا طبيعيا، بعد أن باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم.
غير أن الأمر أكثر وساخة! فقد استخدمت الجهة التي أعدت ذلك الفيديو الذي يحتوي فيما يحتويه أنشودة للسلام… الخ الخ الخ الخ!! صورة شيخ الأقصى الشيخ رائد صلاح، إلى جانب صورة عضو الكنيست الصهيوني الدكتور منصور عباس، مع جملة تقول: “تبارك الحركة الإسلامية والموحدة اتفاقية السلام وعودة المختطفين”.
وبعد البحث اتّضح أنّ الفيديو منشور في صفحة على “انستغرام” تحمل اسم “الأقصى بخير” (Elaqsabker).
نفى شيخ الأقصى (بالصوت والصورة) أية علاقة له بتلك التهنئة السخيفة، وأعلن أنه سيعمل على مقاضاة الجهة التي استخدمت صورته دون إذن منه، وأوهمت الجمهور أنه قد أصبح جزءا من القطيع- حاشاه- وسار في التلم مع السائرين، هذا إضافة إلى أنّ الربط بين صورته وبين اسم “الحركة الإسلامية” جاء ربطا خبيثا، في الوقت الذي يعلم الجميع أن الحركة الإسلامية التي كان الشيخ رئيسا لها، محظورة منذ عام 2015.
لم تمض ساعات من نفي الشيخ لعلاقته بتلك التهنئة الخبيثة حتى عمد المسؤولون عن الصفحة إلى حذف الفيديو…….
أما عضو الكنيست منصور عباس، الذي ظهرت صورته مع صورة شيخ الأقصى في الفيديو، فلم يعلق ولم يؤكد ولم ينفِ واختار الصمت المطبق، وهذا شأنه، ولم أتوقع غير ذلك.
حتى هذه اللحظة لا أعرف إن كانت تلك الصفحة على “انستغرام” باسم “الأقصى بخير” هي التي تقف خلف الفيديو، أم أنها نشرته بعد أن حصلت عليه من جهة أخرى.
ولسوف يتضح لاحقا من هي الجهة المسؤولة عن الفيديو -بإذن الله- سواء كانت تلك الصفحة أم غيرها، والعمل جارٍ على هذه المسألة حتى النهاية.
غير أن اسم الصفحة يجعلك تتأكد أن الدنيا ليست بخير كما أن الأقصى ليس بخير، وأن هذه الصفحة هي جزء من مشروع خبيث يعمل على تزوير الحقائق وصناعة رأي عام مضلَّل، تحديدا فيما يتعلق بما يجري في المسجد الأقصى المبارك.
ويغلب على ظنيّ- وفي هذا لنا تجربة طويلة تمتد لعقود- أن جهات رسمية، أو شبه رسمية، أو جهة تخدم الجهات الرسمية تقف خلف هذه الصفحة ومضامينها. ويكفي أن تلقي نظرة عابرة على الفيديوهات المنشورة فيها (بكثافة غريبة!!) وتستطلع الوجوه التي تخاطب الجمهور وتقول له إن “الأقصى بخير”!! حتى تدرك الهدف والخطورة. ومن المؤكد أن هناك صفحات أخرى تسير في ذات الطريق الموحل وتغرق في ذات المستنقع.
فيما يلي سأناقش نماذج من الفيديوهات والمضامين المنشورة في تلك الصفحة المشبوهة، حتى تتضح حقيقة الصورة وحقيقة ما يجري فعلا في المسجد الأقصى المبارك. فالذي يكذب في نشر صور شخصيات اعتبارية في فيديوهات دون إذنها في محاولة خبيثة لتضليل الجمهور، يسهل عليه أن يبيع ضميره ونفسه بثمن بخس، وأن يكذب في كل شيء. في كل شيء.
ويمكن أن يستجلب كذّابين مثله، وأحيانا كذابين بعمائم، لينطقوا بلسانه ما يريد، وأحيانا أخرى يستخدم مقولات وردت على لسان شخصيات، ويُخرجها من سياقها ويقدمها للجمهور بما يخدم أجندته، أو يحاول إسقاط حالة من الماضي البعيد على واقع اليوم ليخاطب به الجهلة وصغار العقول.
1- في فيديو جديد (طخ) يحمل عنوان “امشوا معنا للأقصى بس هاي المرة من طريق باب الحديد “، يقولون لك التالي: “الطرق فيها برَكة خفية يصعب شرحها بالكلمات تمهدها الأقدار بلطف، فلا عثرات تعيق الوصول ولا هموم تثقل الخطى، وكأنها مرسومة من نور يجد السائرون عليها التيسير في كل خطوة”. طبعا الفيديو يظهر لك طريق باب الحديد خاليا مفتوحا على مصراعيه!!!
ما هي الرسالة التي يحملها الفيديو؟ إنه يريد أن يقول: ليست هناك عوائق أمام وصولك إلى الأقصى؟ أحقا؟!!
أليس هناك شرطة، ولا حرس حدود، ولا حواجز، ولا سحل، ولا ضرب، ولا اعتقالات، ولا إبعاد، ولا تحقيق، ولا إهانات، ولا شتائم، ولا سخرية، ولا مصادرة بطاقات هوية، ولا نظرات تقدح شررا؟ أحقا لا توجد هناك مطاردات من باب إلى باب آخر، ولا غاز مسيل للدموع، ولا هراوات؟ أيمكن أنه قد جاء زمن “الذيب يرعى مع الغنم” دون أن ندري؟!!
2- في فيديو آخر يحمل عنوان “هنا يُسمع صوت الهدوء… يوم عادي في الأقصى”، يعرض باحات الأقصى بينما المصلون أصحاب المسجد وأصحاب الأرض والهواء والفضاء حتى عنان السماء يتجولون في المسجد، ليقولوا لك: “يوم عادي في الأقصى يبدأ بنسيم الفجر العليل وصوت الأذان الذي يملأ الأرجاء، وعند الظهيرة تُطرب بخطوات المصلين الهادئة وضحكات الأطفال في الساحات ودعوات المسنين الخاشعة، وعند المساء يكتسي المسجد بثوب السكون والهيبة”.
تريد جوقة المضللين تلك تصوير الأمر وكأن كل شيء عادي في الأقصى، صلاة الفجر والأذان، ووقت الظهيرة يمشي الناس بخطوات هادئة مطمئنة، والأطفال يضحكون ويمرحون، والمساء في الأقصى من أروع ما يكون!!
كل شيء عادي في الأقصى، فلا اقتحامات مستوطنين بعد الساعة السابعة، وليس هناك بن غفير وعصابته، وليست هناك صلوات تلمودية، وليست هناك حشود من قوات الأمن تحاصر المسلمين والمسلمات داخل المسجد القبلي أو في قبة الصخرة، أو تمنعهم من دخول المسجد أو تخليه منهم. وليست هناك أصوات غربان تصرخ وتطالب بهدم الأقصى وبناء الهيكل مكانه. فكل شيء هادئ في الأقصى!!!
3- اقتباس من الدكتور إبراهيم الهدهد، رئيس جامعة الأزهر بين السنوات 2015-2017، جاء فيه: “النبي صلى الله عليه وسلم أقرّ دخول غير المسلمين إلى المسجد النبوي، بل وسمح لهم بأداء صلاتهم الخاصة فيه وذلك موثق في حديث وفد نجران”.
وبناء على هذه المقولة المقتبسة من الدكتور الهدهد، يضيف أصحاب صفحة “الأقصى بخير” رسالتهم الخبيثة التي يريدون إيصالها من خلال الاقتباس. يقولون: “الإسلام لا يغلق أبواب بيوت الله، ولم يأتِ في القرآن ولا السيرة النبوية ما يمنع غير المسلمين من دخول المساجد، بل العكس تماماً، فمن السنّة النبوية…. حديث وفد نصارى نجران، وحديث دخول ثمامة بن أثال (قبل إسلامه) المسجد”. ثم يضيفون: “فبيوت الله وُجدت لتكون منارات للتقارب والرحمة، لا أسوارًا للفصل والإقصاء. الإسلام لم يمنع الدخول، بل دعا إلى المعرفة قبل الحكم، والتعارف قبل الخصام”.
أولا: وفد نجران لم يكن محتلا للمسجد النبويّ، ولم يمنع المسلمين من دخوله، ولم يضع الشرطة وحرس الحدود على بواباته، ولم يسحل النساء والرجال من المسلمين في الأزقة، ولم يصدر قرارات بإبعاد الصحابة عن المسجد النبوي لأسبوعين أو لثلاثة أشهر، ولم يستدعهم للتحقيق، ولم يعتقلهم، ولم يشتم أمهاتهم، ولم يأمر بإخلاء المسجد النبوي من المسلمين ليتسنى لغير المسلمين اقتحامه، ولم يحاصر المسلمين في إحدى زوايا المسجد، ولم يطلق عليهم الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، ولم يعتد عليهم بالهراوات. كما أن وفد نجران لم يكن يقتحم المسجد النبوي صباح مساء، ولم يطالب بتحويله إلى كنيس لأن رب الجنود أمرهم بذلك.
نعم، الإسلام لا يمنع دخول غير المسلمين المساجد، إذا دخلوه زائرين، غير محتلين، وإذا لم تكن لهم نوايا خبيثة لهدم المساجد وبناء معابد لهم مكانها.
ثانيا: أما بخصوص قصة ثمامة رضي الله عنه، فالحمد لله أنه أسلم. أنتم فقط أعطونا بن غفير واسمحوا لنا بربطه في إحدى سواري المسجد الأقصى لنتحاور معه كما تحاور النبي صلى الله عليه وسلم مع ثمامة، فلعله يسلم مثل ثمامة ثم يرجع إلى قومه ويعود بهم إلى الأقصى وقد أسلموا عن بكرة أبيهم… (تعجبني قضية التحاور هذه!)
أنتم لستم أكثر من كَذَبة مضللين، تشوّهون السيرة النبوية والأحاديث النبوية لتخدموا أسيادكم ومشغليكم. فشتان شتان بين قصة وفد نجران وقصة ثمامة بن أثال وبين الاحتلال الصهيوني للأقصى المبارك. وبالمناسبة؛ هناك فيديوهات عديدة للدكتور الهدهد يدعو فيها إلى وحدة المسلمين من أجل تحرير المسجد الأقصى المبارك من الاحتلال الصهيوني، وفيديوهات أخرى تتحدث عن قبائح المستوطنين في الأقصى. لذلك يا أصحاب صفحة “الأقصى بخير”، لن يفيدكم هذا التدليس على الناس.
4- فيديو آخر للشيخ عثمان الخميس يقول فيه إنه لا يجوز تسمية المسجد الأقصى “ثالث الحرمين الشريفين”، وكأن أصحاب الصفحة يريدون القول بأن الأقصى ليس حرما، وفي التالي فهو أقل أهميّة، فلماذا كل هذا الضجيج حول الأقصى؟!!!!
نعم، صحيح، المسجد الأقصى ليس حرما كالمسجد الحرام والمسجد النبوي، لكنه “ثالث الحرمين” وهذه المقولة ليس معناها أنه حرم، بل تعني أنّ له مكانة خاصة ليست لأي مسجد آخر (سوى الحرمين الشريفين)، فهو ثالث مسجد تُشد إليه الرحال بعد المسجد الحرام والمسجد النبوي. والشيخ الخميس، مع تحفظنا من كثير من تصريحاته الأخيرة، إلا أنه كان يشرح مسألة في اتجاه معين، وهؤلاء تصيّدوا ما يقول ليجيّروه لصالح مشروعهم الخبيث.
وفقط للتوضيح: أظن الشيخ الخميس جانبه الصواب حين قال بأنه لا يصح أن نقول عن الأقصى “ثالث الحرمين” لأنه ليس حرما. ذلك أن الحرمة محصورة فقط في المسجدين؛ الحرام والنبوي. وبطبيعة الحال هناك مسلمون كثيرون يظنون أن المسجد الأقصى يحرم فيه ما يحرم في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولذلك يطلقون عليه أحيانا “الحرم الشريف”، وهو من هذه الزاوية ليس حرما، وهو خطأ في فهم مقولة “ثالث الحرمين”. فهناك حرمان هما المسجد النبوي والمسجد الحرام، والأقصى ثالثهما من حيث المكانة الرفيعة ذات الخصوصية، وليس من حيث الحرمة.
وهذا قريب في معناه من قوله تعالى: {ثاني اثنين إذ هما في الغار}. إذ لم يفهم أحد من المسلمين أن الآية تعني أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه، رفيق النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، كان نبيا.
5- يحاول أصحاب الصفحة إيهام الناس بأنّ الأقصى شراكة للجميع. يقولون هذا باسم الإسلام، وهم كاذبون. يقولون: “الأقصى شاهد حيّ على تنوّع البشر واختلافهم. إسلامنا لم يُنكر هذا الاختلاف، بل على العكس أكّد عليه: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود:118]. قبول الآخر هو حصن بيحمي القدس والأقصى من التحول لساحة صراع، قبول اختلاف الله في خلقه هو وعي وقوة، ورسالة إن الأقصى باقٍ يحتضن سُنة الله في الكون”.
كذبتهم وخبتم. بل أنتم تلعبون بآيات القرآن وتحرّفون معانيها وحقيقتها لخدمة أهدافكم الخبيثة. فعن أي آخر تتحدثون؟!! إن قبول الآخر لا يعني قبول الاحتلال، وقبول اقتحام المستوطنين للأقصى، وقبول ممارسات الشرطة على أبوابه. فإن هؤلاء هم الذين يحوّلون الأقصى إلى ساحة صراع، ويطمعون في تحقيق أوهامهم وأحلامهم. فالعبوا في غير هذا الملعب. نعم، الأقصى يحتضن.. لكنه يحتضن الشرفاء والأنقياء، ولا يحتضن اللصوص والمجرمين.
إن الأقصى ليس بخير طالما أنه تحت الاحتلال، فإن أراد هؤلاء أن يكون الأقصى بخير حقا، فليس إلى ذلك من سبيل إلا بزوال الاحتلال عنه. فهو مسجد. والمسجد مكان عبادة للمسلمين، وفقط للمسلمين، كما أن الكنيسة مكان عبادة للنصارى، وكما الكنيس مكان عبادة لليهود. فليذهب كلٌ إلى مكان عبادته. وإلا فلماذا فقط المسجد الأقصى الذي تريدونه مستباحا للجميع من خلال أوهام تخدعون بها الناس باسم الإسلام؟!! فليرحل الاحتلال عن الأقصى أولا، ثم فلترحلوا أنتم من حيّزنا ومن فضائنا ومن تحت سمائنا، ثم لكل حادث حديث…
للتذكير فقط: إن مقولة “الأقصى بخير” سمعنا مثلها قبل سنوات طويلة، يوم انطلقت صرخة “الأقصى في خطر”. يومها خرج من خرج ليقول: “لا.. الأقصى ليس في خطر”… فسبحان الله العظيم كيف تلتقي الأشياء، وكيف تعثر الطنجرة على غطائها!!!



