التمويل الإسلامي في مؤتمره الثامن بالدوحة.. خارطة طريق لعالم منقسم

في ظل تصاعد الانقسامات الجيوسياسية، وتزايد حالة الاضطراب الاقتصادي، وتفاقم التحديات المناخية التي يعيشها العالم اليوم، نظم مركز الاقتصاد والتمويل الإسلامي بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة قطر، المؤتمر الدولي الثامن للتمويل الإسلامي برعاية حصرية من مركز قطر للمال وبالتعاون اللامحدود من “آيفين قطر” و”كيو بيزنسيز”، خلال الفترة 8 – 9 أكتوبر 2025 م، تحت عنوان التمويل الإسلامي في عالم يسوده الانقسام، لبحث دور التمويل الإسلامي، القائم على القيم الأخلاقية، والعدالة الاجتماعية، في تخطي تعقيدات الساحة العالمية المنقسمة، وقدرة التمويل الإسلامي على أن يكون قوة فاعلة لتحقيق الاستقرار، والشمول المالي، والاستدامة
وقد تناولت موضوعات المؤتمر قضايا محورية مختلفة، من أبرزها: إعادة التنظيم الجيوسياسي، والتعددية التنظيمية، وانتشار الذكاء الاصطناعي والتمويل الرقمي، وتقلبات الاقتصاد الكلي، وتغير المناخ.
شهد اليوم الأول انطلاق أعمال المؤتمر بحفل افتتاح رسمي حضره سعادة الشيخ أحمد بن خالد آل ثاني، نائب محافظ مصرف قطر المركزي، وسعادة الأستاذ يوسف محمد الجيدة، الرئيس التنفيذي لمركز قطر للمال، الدكتور برابهات هاجيلا وكيل جامعة حمد بن خليفة، والدكتور رجب شانتورك عميد كلية الدراسات الإسلامية، عدد من الشخصيات العلمية والمسؤولين والخبراء.
في كلمته أشار الدكتور رجب شانتورك (عميد كلية الدراسات الإسلامية) إلى أهمية هذا المؤتمر السنوي في ترسيخ قضايا الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان من منظور الشريعة، وتقديم المعرفة التي تخدم البشرية. وتكمن أهمية هذه النسخة في تقديم رؤية اقتصادية قائمة على مفهوم “الآدمية” المستمد من القرآن الكريم، واستكشاف العلاقة بين الأهداف الإنسانية والمسؤولية المشتركة، بين التطور التكنولوجي والقيم المستدامة. وأكد الدكتور برابهات هاجيلا وكيل جامعة حمد بن خليفة على ضرورة الالتزام بالمبادئ الإسلامية في إيجاد حلول للانقسام القائم في النشاط الاقتصادي، وتوجيهه في خدمة الإنسان وليس العكس، وأن المشاركة أهم من الربح الفردي، وأن المخاطر يجب أن تُقسّم بعدل.
وقد أشار سعادة الشيخ أحمد بن خالد آل ثاني، نائب محافظ مصرف قطر المركزي، إلى أن التمويل الإسلامي يبرز كأداة مرنة لمواجهة الاضطراب الاقتصادي العالمي بفضل مبادئه القائمة على الاستقرار والشمول المالي، مستعرضاً النمو الكبير للقطاع الذي بلغت أصوله 3.88 تريليون دولار عالمياً و683 مليار ريال في قطر.
من جانبه، أكد الأستاذ يوسف محمد الجيدة، الرئيس التنفيذي لمركز قطر للمال، أن التمويل الإسلامي يقدم حلولاً جذرية للتحديات العالمية بارتكازه على العدالة والمشاركة وربط التمويل بالأصول الحقيقية. وقد اتفق المتحدثان على أن دولة قطر، بفضل خطتها الاستراتيجية ونجاحها في بناء أحد أقوى أنظمة التمويل الإسلامي في العالم، تلعب دوراً محورياً، وشددا على ضرورة توحيد المعايير وتعزيز التعاون الدولي لتمكين القطاع من تحقيق إمكاناته الكاملة كركيزة للاستقرار والتنمية العالميين.
في جلسة الخبراء، دعا المفكرون إلى إعادة توجيه بوصلة التمويل الإسلامي نحو دور أكثر فاعلية وتأثيراً. حيث أوضح الدكتور محمد حمور رئيس مجلس الإدارة، “كيو إنفست” أن العالم ينتقل من نظام قائم على “المصلحة” العامة إلى نظام تحكمه “الأهواء”، وأن القوة اليوم تُمارس عبر “المنصات” الرقمية، مما يستدعي استجابة استراتيجية تتضمن الاستثمار في تكنولوجيا البلوك تشين لبناء بدائل حقيقية.
وعلى نفس المنوال، أكد الدكتور يوسف خلاوي، الأمين العام لمنتدى البركة للاقتصاد الإسلامي أنه بعد خمسين عاماً من النمو، لم يعد مقبولاً أن يظل التمويل الإسلامي مجرد “بديل” للمسلمين، بل يجب أن يطرح نفسه كنظام عالمي قادر على حماية العالم من الإخفاقات الأخلاقية للنظام التقليدي، معتبراً أنه أصبح الحل الوحيد المتبقي للبشرية في عصر “اللاعدالة”. واختتم الدكتور طارق يوسف برؤية تاريخية، مذكراً بأن الطموحات الكبرى للاقتصاد الإسلامي في السبعينيات، والتي ركزت على العدالة والمشاركة، قد تكيفت مع الواقع بدلاً من تغييره، وأن التحولات العالمية الحالية تمثل فرصة فريدة لاستعادة تلك الرؤية الطموحة وجعل الأنظمة المالية تعمل من أجل خدمة الإنسانية جمعاء.
تناولت الجلسة الاولى محور دور التمويل الإسلامي في ظل الانقسامات الجيوسياسية وانطلق النقاش من فكرة أساسية مفادها أن النظام المالي العالمي الحالي هو جزء من المشكلة وليس الحل. فقد أوضح الدكتور حبيب أحمد أن الرأسمالية الحديثة، بتركيزها الحصري على “رأس المال المالي”، قد أهملت أشكالاً أخرى حيوية من رأس المال كالبشري والاجتماعي والبيئي ، مما أدى إلى تعميق الانقسامات وعدم المساواة. وقدم فيدان أكجيراي تحليلاً جذرياً، مشيراً إلى أن فكر “تعظيم الربح” هو الذي قاد العالم إلى أزماته الحالية، وأن الحل لا يكمن في مجرد “أسلمة” أدوات هذا النظام الفاشل، بل في بناء نموذج جديد كلياً قائم على العدل والمشاركة الحقيقية.
ومن منظور عملي، لخص محمد فاروق رضا هذا الواقع ببراعة، حيث وصف التمويل الإسلامي حالياً بأنه “سترة نجاة” تحمي الأفراد من الربا، لكنه لم يتطور بعد ليصبح “سفينة نجاة” قادرة على تقديم حل عالمي شامل، داعياً إلى تبني الأصالة والابتكار الجريء بدلاً من التقليد. أما على الصعيد الفكري، فقد دعا الدكتور أحمد فاروق أيسان إلى ثورة معرفية، مشدداً على ضرورة تجاوز النماذج الفكرية الغربية وتطوير إطار إسلامي أصيل قائم على مفهوم “الآدمية”، ومختتماً دعوته بعبارة بليغة وهي أن الوقت قد حان “لنطبخ في مطبخنا الخاص” ونقدم للعالم حلولاً نابعة من قيمنا ومبادئنا.
تحولت المناقشة في الجلسة الثانية نحو الحلول العملية والتساؤلات المستقبلية، حيث تساءل الدكتور معظم فاروق عما إذا كان التمويل الإسلامي قادراً بالفعل على “سد الفجوة” وتعزيز الشمولية والاستقرار في عالم متفكك. ومن زاوية مبتكرة، استعرضت الدكتورة هانيزا يون كيف يمكن لـ”القياس النفسي” أن يصبح أداة لفهم الانقسامات الإنسانية وتقديم حلول تمويلية أكثر فعالية.
بدوره، رأى إبراهيم السيد أن تحقيق أي تأثير خارجي يتطلب أولاً تماسكاً داخلياً من خلال “توحيد فهم الاقتصاد الإسلامي”.
واختتم وحيد الزمان الجلسة بتساؤل استشرافي حول ما إذا كان الذكاء الاصطناعي والأتمتة سيعمقان “الفجوة بين الأغنياء والفقراء” أم سيساهمان في تضييقها، وهو ما يمثل التحدي الأخلاقي الأبرز للمستقبل.
الجلسة الثالثة والرابعة: تاريخ التمويل الإسلامي والاستدامة
افتتحت هذه الفقرة بمحاضرة تاريخية قدمها الدكتور سيد ناظم علي، المدير السابق لمركز الاقتصاد والتمويل الإسلامي، استعرض فيها “خبرة حياة في مجال التمويل الإسلامي”، مقدماً منظوراً تأملياً حول تطور المجال وتحدياته. ثم انتقلت الجلسة الرابعة للتركيز على الاستدامة وتطبيقاتها المبتكرة؛ حيث تناول الدكتور انتخاب عالم قضية إنسانية ملحة وهي “تطوير خدمات تمويل إسلامية للاجئين ورواد الأعمال من الأقليات المسلمة في الولايات المتحدة”.
وقدمت الدكتورة وداد متاجر حلاً تكنولوجياً رائداً يتمثل في “الصكوك الذكية المشروطة” لتقليص المخاطر وتمويل أسواق الطاقة النظيفة. وبحثت الدكتورة هاجر بوليلة في كيفية “الموازنة بين الأرباح والمبادئ” باستخدام تقنيات التعلم المعزز في التداول المتوافق مع الشريعة. واختتم الدكتور عبد العظيم أبو زيد الجلسة بالعودة إلى المبادئ الأساسية، مقيماً ممارسات تداول الأسهم في ضوء “مقاصد الشريعة” والتقلبات المرتفعة للأسواق.
الجلسة الخامسة: التحول التنظيمي والحوكمة الشرعية
ركزت هذه الجلسة على كيفية الحفاظ على أصالة التمويل الإسلامي في خضم التحولات التكنولوجية والتنظيمية. فقد ناقشت الدكتورة نادية نعيم التحديات المعاصرة المتمثلة في “دمج الملكية الفكرية والذكاء الاصطناعي في التحول الرقمي” للقطاع. وقدم الدكتور عبدالله أبو رؤى عملية لـ”تعزيز الحوكمة والتدقيق الشرعي” بالاستفادة من المعايير الحديثة للتدقيق الداخلي لضمان تحقيق جوهر الشريعة وليس شكلها فقط. واقترحت مارية زهرة نموذجاً أخلاقياً استباقياً للذكاء الاصطناعي يرتكز على بعدين: “المقاصد المالية والمبادئ القانونية”. وأخيراً، قدمت الدكتورة نسيم شاه شيرازي مراجعة منهجية حول “استراتيجيات التسويق المدعومة بالذكاء الاصطناعي” لتفعيل الإمكانات الاقتصادية في قطر.
الجلسة السادسة: التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي والتمويل الإسلامي الرقمي
تعمقت هذه الجلسة في استكشاف أبعاد الثورة الرقمية، فقدمت الدكتورة ناظمة إلاهي دراسة حالة من باكستان حول “تأثير الذكاء الاصطناعي في إدارة سلاسل التوريد والتمويل الإسلامي”. بينما قدم الدكتور محمد يوروكوغلو نظرة نقدية، محللاً “الانقسامات الناشئة” التي قد تخلقها التكنولوجيات الجديدة على المستويين الجزئي والكلي.
وفي المقابل، ركز الدكتور إمام الدين على الجانب الإيجابي المتمثل في “تعزيز الرفاه الاجتماعي عبر التسويق المعزز بالذكاء الاصطناعي”. وقدم الدكتور مصطفى دسلي نتائج “تجربة ميدانية حول السعادة عبر التضحية”، باحثاً في المقايضات الاجتماعية الإيجابية. واختتمت الدكتورة دلال عسولي الجلسة بـ”تقييم نقدي لاستراتيجيات التحول الرقمي” المتبعة في القطاع المالي.
الجلسة السابعة: التقلبات الاقتصادية الكلية والمرونة المالية
عالجت هذه الجلسة التحديات الاقتصادية الكبرى،و استلهمت الدكتورة سايما كباولو “الدروس المستفادة من البنوك العثمانية الإسلامية البدائية” كنموذج للتعددية والمرونة. وتناولت الدكتورة سلوى حامد الملا موضوعاً بالغ الأهمية وهو “دور التمويل الإسلامي في تنمية مناطق النزاع”، باحثة في إمكاناته وحدوده. وقدمت الدكتورة مادينا كاليمولينا عرضاً حول “تطورات التمويل الإسلامي في روسيا”. واختتم الدكتور روسلان آدم ناجايف بمراجعة شاملة وممنهجة للأدبيات حول “التنظيم المالي المدعوم بالذكاء الاصطناعي”.
الجلسة الثامنة: أبحاث طلاب الدكتوراه
عرض هذا الجزء الواعد أبحاث الجيل الجديد من المفكرين. تناول عطاء المصطفى “اقتصاديات الخوف” عبر تحليل لغة الأزمات في القطاع المصرفي. وبحث محمد شوقي بن أرميا في “القيم الأخلاقية والبيئية للصكوك الزرقاء” في إندونيسيا. بينما حلل يسين كامياكوف “اليد الخفية لجودة المؤسسات” في إعادة هيكلة الديون بالأنظمة المصرفية المزدوجة.



