أخبار رئيسيةمقالاتومضات

معركة الوعي (255) الشيطان في مسوح الرهبان

حامد اغبارية

1.

إن إمبراطوريةً قامت على الجماجم، وبنت مجدها الدموي على المحارق لا يمكن أن تقدّم للبشرية خيرًا حتى لو كان اسمها “الولايات المتحدة الأمريكية”.

لذلك مخطئ من يتوقع -بغباء أو بجهالة أو بضلالة أو بعمالة- أن تحقق أمريكا، التي أُنشئت على دماء الأبرياء، سلامًا، أو تحل أزمات، أو توقف حروبًا، لأنها في عقليّتها الاستعلائية وتشكيلتها الاستعمارية وصبغتها الإجراميّة لا تصلح لمثل هذه المهامّ الإنسانية السامية الراقية، بل لا تصلح إلا لخلق الأزمات في كل بقعة على كوكب الأرض، مهما كانت تلك البقعة صغيرة، وصناعة الحروب التي تمكّنها من المزيد من بسط الهيمنة ونهب خيرات الشعوب المستضعفة، سعيًا إلى تحقيق هدف أكبر ومشروع أخطر.

2.

من أجل ذلك يُفترض بكل عاقل من أهل الأرض، وخاصة أبناء شعبنا الفلسطيني وأمتنا الإسلامية، ألا يتوقع أن تحقق إمبراطورية الشر هذه شيئًا يخدم مصالحنا أو يحقق لنا أمنًا أو يعيد لنا حقًا.

وهذا ينسحب أيضًا، بل وتحديدًا، على ما يجري في أيامنا هذه من “جهود حثيثة” لتحقيق “انفراجة” في الحرب الانتقامية المجنونة على غزة، وطي صفحة هذا الملف الدامي.

3.

إن ما يجري الآن هو محاولة أمريكية مستميتة لتحقيق ما فشلت تل أبيب في تحقيقه طوال سنتين من حربها على تلك البقعة الصغيرة من الوطن الفلسطيني، المحاصرة منذ عام 2007، لا لشيء إلا لأنّ الشعب الفلسطيني قال كلمته وقرر مستقبله بنفسه، دون أن يلتفت خلفه، ودون أن يحسب حساب أية قوة تلوّح بالسوط وتسلط السيف على من يفكّر بالتمرد والخروج من دائرة السيطرة والهيمنة الأمريكية.

فهل ستنجح أمّ الويلات في تحقيق ذلك؟ هل ستنجح حيث فشل نتنياهو وجيشه المدجج بأشد أنواع الأسلحة الأمريكية فتكًا؟!

4.

أترك الجواب على السؤال مفتوحًا، وإن كنت أعرف الإجابة.

أكتب هذا اليوم الأربعاء؛ الثامن من تشرين الأول 2025، قبل يومين اثنين من إعلان اسم المرشح الذي سيفوز بـ “جائزة نوبل للسلام”.

ومعلوم للجميع أن دونالد ترامب رئيس إمبراطورية الشر هو أحد المرشحين لنيل هذه الجائزة.

5.

لعلك الآن تستوعب الخلفية الحقيقية لخطة ترامب لإنهاء الحرب على غزة. ولعلك تدرك كيف يمكن للشيطان أن يظهر بمسوح الرهبان والنساك فجأة، وهو الذي كان يهدد ويرعد ويزبد ويتوعد غزة وأهلها بالفناء؟!!!

6.

اليوم الجمعة عند الساعة التاسعة صباحًا بتوقيت غرينتش، الحادية عشرة بتوقيت القدس المحتلة، ستعلن لجنة جائزة نوبل اسم الفائز أو أسماء الفائزين بالجائزة.

وعندها ستعرف الجواب على السؤال المتعلق بإنهاء الحرب على غزة.

فإن فاز ترامب -وأظن أنه سيكون أحد الفائزين، ولا يعلم الغيب إلا الله- فإن لهجته ستتغير، ولسانه الحقيقي سينطلق، وسيعود إلى لغة الأمّ الأصلية التي تقطر تهديدًا ودمويةً وإجرامًا.

وإن خسر الترشيح ولم يفز فإن لغته ستكون أسوأ وأشد وطأة.

ففي كلا الحالتين سيتصدر الشيطان المشهد، ليكون لسان حاله ولسان مقاله كلسان معلمه إبليس:

﴿وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم﴾.

الآن نستطيع أن نفهم لماذا ضغط ترامب على كل الأطراف، بما فيها تل أبيب بكل ما يستطيع من أجل التعامل مع خطّته، التي يليق بها أن تُسمّى “خطة ترامب للحصول على جائزة نوبل”، خلال أيام معدودة.

فقد قال يوم أن أطلق خطته، في مؤتمره الصحافي مع شريكه نتنياهو، إن على حماس أن تطلق سراح الأسرى الإسرائيليين خلال 72 ساعة، وهو يعلم أن تحقيق ذلك مستحيل في ظل الواقع الذي نعرفه في غزة.

ثم عاد ليقول قبل يومين: سنرى نتائج (طيبة) خلال 48 ساعة. فلِمَ كل هذه العجلة؟!

ليس هناك سوى سبب واحد: إن مواعيد تنفيذ الخطة أو التوصل إلى اتفاق على تنفيذها، أو على الأقل تنفيذ بند واحد فيها؛ وهو إطلاق الأسرى الإسرائيليين، مرهون بإعلان اسم الفائز بجائزة “المجد” الزائف!

وأنا على يقين أن نتنياهو ما أعلن قبوله بالخطة إلا لأجل ذلك، بالتنسيق مع شيطان البيت الأبيض.

ويبدو لي أن الغدر يقف من وراء الأكمة.

ولذلك تستطيع أن تفسّر وحدك صمت شريكي نتنياهو؛ سموتريتش وبن غفير، وهما اللذان كانا يقيمان الدنيا ولا يقعدانها، ويهددان بحل الائتلاف الحكومي على خلفية صفقة مرحلية تشكل بندًا واحدًا من بنود خطة ترامب تلك.

الآن يجري الحديث عن “تقدّم” في مفاوضات شرم الشيخ.

ويبدو أن ترامب مستعد -حاليًا- لكيل المديح للجميع، بما في ذلك حماس، من أجل الحصول على “الجوكر”.

ولا تستبعدنَّ أن يمتطي ترامب صهوة طائرته الرئاسية ويحطّ في الشرم “استجابة لدعوة” وكيله السيسي للتوقيع على الاتفاقية.

وقد يحدث هذا الخميس (أمس) الذي يسبق “الجمعة اليتيمة”.

فمن أجل “ليلى” تدمع العين بالبُكا… بل (على مثل “ليلى” يقتل ترامبُ نفسهُ… وإن كان من “ليلى” على اليأس طاويًا)….

مع الاعتذار لقيس بن الملوّح.

7.

هذه هي أمّ الويلات المعروفة رسميًا باسم “الولايات المتحدة الأمريكية”.

ومن هي هذه “الولايات”؟

إنها مستوطنات بريطانية أُنشئت على طول ساحل المحيط الأطلسي في البلاد المعروفة باسم “ما وراء البحار” في أواخر القرن السادس عشر، تلك الأرض التي كان يسكنها الملايين من الهنود الحمر، ذلك الشعب المسالم الذي تعرّض لإبادة غير مسبوقة في ذلك الوقت.

هكذا قامت أمّ الويلات على جماجم الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ. فأي خير وأي سلام يمكن أن يصدر عن هذه الكتلة المشتعلة بالشر المستطير؟!

إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي ما تركت بقعة على الكوكب إلا وأفسدتها، ثم قيّدتها بأنواع متعددة من قيود العبودية.

إنها الولايات المتحدة الأمريكية التي لديها سجل أسود حافل بالاعتداءات على الآخرين بهدف فرض هيمنتها على العالم.

• في سنة 1932 شنت حربًا على السلفادور. وقبل ذلك، في 1916 شنت حربًا على جمهورية الدومينيكان لوأد ثورة الشعب هناك، وعيّنت حكمًا عسكريًا أذاق أهل البلاد الويلات.

• وفي الحرب العالمية الثانية ألقت قنبلتين ذريتين على ناغازاكي وهيروشيما في اليابان، لتكون أمّ الويلات هي الوحيدة حتى الآن التي استخدمت سلاحًا غير تقليدي لحسم نتائج حرب.

• إنها أمّ الويلات التي أطاحت عام 1954 بحكومة غواتيمالا الثورية واستبدلتها بحكومة عسكرية دكتاتورية تسبّح بحمد واشنطن.

• إنها أمّ الويلات التي قدّمت عام 1967 الدعم الكامل، بكل أنواعه، لحكومة بوليفيا العسكرية لمحاربة الثوار البوليفيين بقيادة تشي جيفارا.

• إنها أمّ الويلات التي شنت أواخر الستينيات ومطلع السبعينيات حربًا مجرمة على فيتنام في حرب عبثية هُزمت فيها شر هزيمة، ولكن ليس قبل أن تقتل أكثر من ثلاثة ملايين فيتنامي. وكان ذلك بذريعة الحد من التمدد الشيوعي.

• إنها أمّ الويلات التي أرسلت قوات المارينز عام 1982 لمساندة الاحتلال الإسرائيلي في لبنان، تحت ذريعة المشاركة في قوات “حفظ السلام”، بينما عملت تلك القوات على ملاحقة المقاومة الفلسطينية هناك.

• إنها أمّ الويلات التي شنت هجومًا على ليبيا عام 1986، بحجة ضلوع النظام الليبي في تفجير ملهى ليلي في برلين الغربية، في حين أن السبب الحقيقي هو السيطرة على خليج “سِرت” في البحر المتوسط.

• إنها أمّ الويلات التي شنت عام 1992، مع تحالف دولي، حربًا على الشعب الصومالي بتفويض من الأمم المتحدة بحجة تحقيق السلم الأهلي في البلد الإفريقي المسلم. وقد قتلت أمريكا أكثر من عشرة آلاف صومالي في ذلك العدوان.

• إنها أمّ الويلات التي قادت عام 1991 تحالفًا دوليًا لشن حرب على العراق في الحرب المعروفة بـ”عاصفة الصحراء” بذريعة تحرير الكويت من “الاحتلال العراقي”. وقد قتلت أمريكا وتحالفها أكثر من 200 ألف عراقي، وتسببت في جرح نصف مليون من المدنيين، إضافة إلى عشرات آلاف الإصابات بالأمراض السرطانية بسبب استخدامها اليورانيوم المنضب في تلك الحرب الإجرامية.

• إنها أمّ الويلات التي شنت مطلع القرن الواحد والعشرين أقذر حربين عرفتهما البشرية بعد الحرب العالمية الثانية، ضد العراق وأفغانستان.

8.

هذه فقط قائمة مختصرة من قائمة تضم أكثر من 200 جريمة عسكرية ومخابراتية نفذتها أمّ الويلات في أنحاء العالم بما في ذلك العالم العربي والإسلامي، ناهيك عن مساندتها غير المشروطة للمشروع الصهيوني والحروب التي شنتها تل أبيب وما تزال إلى هذه اللحظة في منطقتنا.

9.

إن قراءة متأنية في السياسة الأمريكية منذ إعلان استقلالها قبل نحو 250 سنة، تقود إلى نتيجة حتمية واحدة: هذه إمبراطورية قائمة على سياسة الهيمنة على العالم بكل ثمن وكل وسيلة، وليس مهمًا من ستكون الإدارة التي تجلس في البيت الأبيض كنتيجة انتخابات تُجرى كل أربع سنوات، هي في حقيقتها انتخابات هزلية تشكل جزءًا من تضليل الرأي العام العالمي.

في كتابه “الجريمة على الطريقة الأمريكية” يقول الكاتب الأمريكي فرانك براوننغ إن هناك قوة خفية تقف خلف السياسة الأمريكية في تعاملها مع العالم، وهذه القوة يطلق عليها “السلطة السادسة” التي ترضخ لها السلطات الأربع التي تدير شؤون البلاد (التنفيذية والقضائية والتشريعية والإعلام)، إضافة إلى سلطة خامسة يقول الأمريكيون إنها المخابرات (السي. آي. إيه) أو الجيش.

هذه السلطة السادسة -كما يقول براوننغ- عبارة عن عالم خلفيّ خفيّ يحترف الإجرام على مستوى العالم، بهدف فرض الهيمنة التي لا تستطيع أمّ الويلات الاستمرار كدولة دونها.

لذلك فإن قائمة الجرائم التي ارتكبتها واشنطن في مختلف أنحاء العالم، والتي ذكرتُ جانبًا منها هنا، إنما هي نتيجة سياسة منظمة، وليست طارئة، هدفها تحقيق الهيمنة الكاملة من خلال بث الرعب ونشر الفوضى وزرع الفتن والصراعات والنزاعات في كل مكان.

هذا الهدف الذي التقت فيه أمّ الويلات مع المشروع الصهيوني حتى أصبحا توأمين سياميين لا ينفصلان.

هذه هي الولايات المتحدة الأمريكية وهذه حقيقتها. وبعد هذا لا يمكن لذي لُبّ، ولا يليق به، أن يثق بوعود مضللة تصدر من البيت الأبيض.

10.

ورغم هذا كلّه فإن ما تمارسه أمّ الويلات من سياسات هو جزء من قدر الله. وفي قدر الله قضايا محسومة مسبقًا. هذا يقين.

لذلك يبدو لي أن عملية الغدر ستبدأ اعتبارًا من إعلان اسم الفائز بجائزة نوبل. لكنه لن يكون إلا كما هو في قدر الله تعالى. وأيًّا كانت الآثار والنتائج فإنه لا توجد جريمة متكاملة الأركان بحيث ينجو مرتكبها من العقوبة. وعليه:

إني أراكَ، وإن لم يُدرِكِ البصرُ
تحت الركامِ، فهل في الأرض معتبرُ؟
إني أراكَ بعينٍ أبصرت حدثًا
إني أراكَ بما لا يدرك البشرُ
إني أراكَ تحثُّ الخطوَ مشتملًا
نونًا وصادًا وراءً صاغها الحجرُ
إني أراكَ بنفسٍ أيقنت خبرًا
لا بدّ آتٍ، وإن لم يُفهمِ الخبرُ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى