الطلاق في المجتمع العربي.. هل من مخرج لهذا النفق المظلم؟ (3)
الثابت والمتغير في الحياة الزوجية
ليلى غليون
لقد أرست الحكمة النبوية الشريفة قاعدة مهمة في حياة المسلم المستقبلية والمتعلقة بحياته الخاصة وبشؤونه الزوجية، لتبين له الطريق وتضيء له كل الزوايا المظلمة، حتى يسير على هدى من أمره، وحتى لا تتعثر أقدامه بعثرات قد يواجهها في هذا الدرب أو تعترض سبيله.
والقاعدة الأساسية التي أوصت بها السنة المطهرة لتكون الحجر الأساس لبناء متين صامد أمام تقلبات الظروف ومتغيرات الأجواء في الحياة الزوجية، هي قاعدة: “إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.”
هذا بالنسبة للمرأة، أما بالنسبة للرجل، فإن قاعدة هذا البناء الصلبة هي: “فاظفر بذات الدين تربت يداك.”
فالقاسم المشترك الذي يجب أن يتوفر في كلا الطرفين، ويكون له أصول وفروع في شخصية الزوجين حتى يكون بناء الزوجية في مأمن من كل ما يمكن أن يعتريه من تعثرات، وحتى تتوفر له أسباب الديمومة والبقاء، هو عامل الدين والأخلاق، الذي هو بلا شك من الثوابت الكفيلة بدفع عجلة الحياة الزوجية بهدوء وإحسان ومحبة.
فالزوجة التي تتعامل مع زوجها وأسرتها بالمقياس الذي حددته الشريعة الغراء، وبالأسلوب الذي وضعته لها، فهي في قرارة نفسها تشعر بأن تعاملها هذا إنما هو طاعة لربها عز وجل وامتثال لوصايا رسوله صلى الله عليه وسلم، قبل أن يكون واجبًا تجاه زوجها وأسرتها. وهي بسعيها لهذا الهدف السامي — “إسعاد البيت والأسرة” — في عبادة دائمة تبتغي فيها رضى الله سبحانه.
إن زوجة كهذه، لن تفكر يومًا أن تفرط في هذه الأمانة التي استأمنها الله عليها، وهي رعاية أسرتها، لأن هذا المبدأ ثابت راسخ في وجدانها، وهو من أبجديات دينها وجزء لا يتغير من عقيدتها التي لا تحيد عنها. فتراها في قمة السعادة ولذة العبودية التي ارتقت إلى مداركها بحسن تبعلها لزوجها وتعاملها معه بالإحسان والمعروف.
ومن جهة أخرى، فإن الزوج المترسخة عنده القيم الثابتة، وهي مخافة الله في هذا المخلوق “الزوجة” الذي أصبح بين عشية وضحاها، وبكلمة الله وميثاقه الغليظ، حلالًا ولباسًا وسترًا له دون غيره، واضعًا نصب عينيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
”… فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله…”
وهذا أيضًا من الثوابت التي لا تساهم فقط في حفظ بناء الزوجية وبسط أجنحة السعادة عليه، بل له الدور الأساس في بناء الشخصية الإسلامية القوية الإيجابية عند الأبناء، الذين هم ثمرة زواج ناجح قائم على الثوابت الأصلية المتمثلة في الدين والخلق.
ليبقى الدين وتقوى الله الميزان والأساس في كل معاملات الزوج وسلوكه مع زوجته وأبنائه، فلا تخشى الزوجة على نفسها ولا على أولادها، حتى في حال كره زوجها لها أو — لا قدر الله — استحالة العيش معه لظروف فوق استطاعتها، لأنه لن يظلمها في هذا الحال، ليقينه أن الظلم ظلمات يوم القيامة، ولأن مخافة الله قيمة ثابتة في قلبه وراسخة في وجدانه.
ومن كانت مخافة الله وتقواه محفورة في قلبه، فقد أمنه غيره. وقد استشار رجل أحد السلف فيمن يزوج ابنته فقال:
“زوجها لمن يتقي الله تعالى، فإن أحبها أكرمها، وإن كرهها اتقى الله فيها”، وفي رواية أخرى: “لم يظلمها”.
وإن نفسًا تستشرف الإيمان وتتطلع إليه، فإنها ترفض التعامل إلا وفق هذا المنهج وهذه الثوابت التي لا ترضى عنها بديلًا.
ونوجه كلمة لكل ولاة الأمور ولكل الباحثين عن السعادة المستقبلية والذين ينشدون العيش الكريم في ظل بيوت تسير سفنها على مياه هادئة لا تعكر صفوها رياح ولا أعاصير، أن يتريثوا قليلًا ويعدّوا للمئة — إن لم يكن للألف كما يقولون — قبل اتخاذ القرار باختيار شريك الحياة.
ونقول لهم: إن هناك ثوابت وهناك متغيرات في الحياة الزوجية، وهذه حقيقة يجب إدراكها والاعتراف بها والعمل بموجبها، فلا يأخذهم الحماس والغفلة بالتغاضي عنها وإلقائها جانبًا.
فكثيرون يختارون شريكة المستقبل لجمالها فقط، ونقول: هل يوجد جمال دائم يلازم صاحبه طول الحياة؟ أم أن الجمال صفة في تغير وتراجع مستمر مع تقدم العمر وذهاب الشباب واعتلال الصحة؟
ونحن لا نقول لطَارِق هذا الباب “الجمال” إن الجمال ليس له أهمية، بل نقول: إن اجتمع الجمال مع الدين كان خيرًا على خير، ولكن الجمال وحده ليس من الثوابت لتحقيق السعادة التي يصبو إليها الزوجان.
يقول الشاعر:
إذا أخو الحسن أضحى فعله سمجا رأيت صورته من أقبح الصور
وهبه كالشمس ألم ترنا نفر منها إذا مالت إلى الضرر
وهناك من يختار شريكة حياته — أو بالعكس — هي من تختار شريك حياتها، لوفرة ماله أو مالها، وهنا قد وقعا في مطب متغير في الحياة الزوجية أصعب من سابقه، لأن المال أيضًا قد يتهدده الضياع والزوال، بل في بعض الأحيان يكون المال وبالًا وسببًا في تدمير الحياة الزوجية وإسدال الستار عليها بنهاية مأساوية تغرق في وحلها الأسرة بأكملها، وذلك عندما يُستعمل هذا المال في غير محله.
ثم من قال إن السعادة في وفرة المال؟ وإن كان المال شريان الحياة وعصبها، فإن السعادة مقرها القلب الذي ينبض بالرضا والقناعة واليقين. وإن لم تتوفر هذه القيم والثوابت في قلب الإنسان، فلن يحقق إلا سعادة وهمية في عالم الأوهام والأحلام، ولو أوتي مال قارون.
ولا يمكننا أن نتجاهل أو نغض الطرف عن مسألة الحسب والنسب، والتي لأجلها قد يختار الشاب زوجته أو تختار الفتاة زوجها. فهذه أيضًا من المتغيرات التي لا ينكرها أحد، فلا شيء يبقى، ولا شيء يدوم، ولا شيء يقف على حال.
والحسب والنسب لن يغنيا عن الدين والخلق، ولا يملكان من مقومات السير بالحياة الزوجية نحو السعادة والاستقرار شيئًا. فهذه كلها شكليات ومتغيرات لا تضيف على الأسرة إلا نوعًا من “المكياج” و”الديكور” و”البرستيج الوهمي” والمظاهر.
ولكن إن وجدت مع الثوابت والأساسيات — “الدين والخلق” — فبها ونعمت، وإلا فالأسرة ليست بالمظاهر والديكور والمكياج. فكل مساحيق التجميل هذه لن يكون لها أهمية إذا غابت عنها الثوابت.
فلينظر ولاة الأمور وكل المقبلين على الزواج إلى هذه المتغيرات نظرة ثاقبة بعيدًا عن السطحية والقشور، حتى لا يكون قرارهم مرهونًا بها، وليركزوا على الثوابت المبنية على الدين والخلق، فصاحبة وصاحب الدين والخلق قلما يتغيران، لأن الدين أصل في نفسيهما وليس طارئًا عليهما.
ونحن لا نقول إن الأجواء الأسرية لن تخلو من غيوم هنا وهناك، أو من منغصات قد تعكر صفوها، ولكننا نقول: إن من المؤكد أنه لا شيء يدفع إلى تجاوزها وتحملها سوى صاحب وصاحبة الدين والخلق.
وأن المشاكل التي تعترض سبيل كل أسرة والعقبات التي لا بد منها في كل بيت، لن تُحلّ إلا وفق الثوابت التي نص عليها التوجيه النبوي الشريف.
ولا يسعنا في نهاية المطاف إلا أن نقول لكل مقبل على الزواج: “فاظفر بذات الدين تربت يداك.”
ونقول لكل فتاة ولكل ولي أمر: “إن جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه…”


