إنها حرب دينية.. فماذا أنتم فاعلون؟

الشيخ رائد صلاح
إن خطاب وسلوك المؤسسة الإسرائيلية، الآن، بات يؤكد، يومًا بعد يوم، أن الحرب التي تشنها هذه المؤسسة الآن على الشعب الفلسطيني وعلى الشعوب العربية والمسلمة هي حرب دينية وفق حساباتها. فهي هذه المؤسسة التي باتت تطالب علانية بفرض سيادتها على ما تسميه (إسرائيل الكبرى)، وهي هذه المؤسسة التي باتت تتحدث بعض أبواقها عن اقتراب موعد بناء الهيكل، وهي هذه المؤسسة التي اعتبر كبيرها نتنياهو أن الحرب على غزة ولبنان وسوريا واليمن هي امتداد لحرب بدأت منذ 3500 عام، وهي هذه المؤسسة التي بات التيار الديني فيها يصرّح أنه على موعد مع عودة المسيح المخلّص بناء على نبوءاتهم التوراتية.
وإلى جانب ذلك فهي هذه المؤسسة التي باتت تختار الأسماء الدينية لخطواتها التي شرعت بها ولا تزال تصر عليها. وعلى سبيل المثال فقد أطلقت على مخطط احتلال مدينة غزة اسم (عربات جدعون)، وهو اسم يحمل دلالة دينية يهودية صارخة.
وقد بات يلتقي هذا الخطاب والسلوك الإسرائيلي الديني مع خطاب وسلوك أمريكي ديني يقوده ترمب، وترسيخًا لهذا الخطاب والسلوك الأمريكي الديني ها هو ترامب يعيّن (بيتر هيجس) وزير الدفاع الأمريكي!! ومن هو هذا الوزير؟ هو الذي أصدر كتابا عام 2022 بعنوان (الحملة الصليبية الأمريكية)، وهو الذي كان قد دعا إلى هدم المسجد الأقصى وبناء هيكل على أنقاضه. وها هو ترامب يعين (مايكل هكابي) سفيرًا لأمريكا لدى المؤسسة الإسرائيلية، ومن هو هذا السفير؟ هو قسيس ينتمي إلى طائفة البروتستانت الصهيونيين! وهو الذي قال ذات يوم: (إن إسرائيل لديها سند ملكية إلهي على يهودا والسامرة)، وهو الاسم التوراتي الذي يعني القدس المباركة والضفة الفلسطينية. وها هو ترامب تلتقي رؤيته مع رؤية (مايك جونسون) رئيس مجلس النواب الأمريكي! ومن هو هذا الرئيس؟ هو القائل: (هناك خط مفتوح بين الله في السماء وبين مكتبي في الكونغرس وبين مقر وزارة الدفاع في تل أبيب).
وها هو ترامب يعين (باولا وايت) رئيسة لما سمّاه (بيت الإيمان) في البيت الأبيض، ومن هي هذه الرئيسة؟ هي مبشّرة تنتمي إلى طائفة البروتستانت الصهيونيين، وهي صاحبة مقولة: (من يقول لا لترامب فإنه يقول لا للرب)!!
وإذا عرفنا أن وزير الخارجية الأمريكي (مارك روبيو) ينتمي إلى طائفة البروتستانت الصهيونيين، فهذا يعني أن هذه الطائفة هي التي تسيطر الآن على البيت الأبيض ومجلس النواب والكونغرس والبنتاجون، وهي التي تسيطر على القرارات الأمريكية الداخلية والخارجية، وهي التي تسيطر على قوة الجيش الأمريكي المنتشرة في كل العالم، وعلى مخزون السلاح الأمريكي الخارق، وهي التي تسيطر على الحقيبة النووية الرئاسية التي تملك أن تطلق سلاحها النووي العابر للقارات على أي بقعة في العالم. وهكذا بات العالم الآن تحت الهوس الديني الذي يسيطر على الخطاب والسلوك الأمريكي، والذي بات يلتقي مع الهوس الديني الذي يسيطر على خطاب وسلوك المؤسسة الإسرائيلية.
وهكذا تبلور هذا الحلف الديني الأمريكي الإسرائيلي، وهكذا تحقق قول الله تعالى: (بعضهم أولياء بعض). وهكذا بات هذا الحلف لا يخفي نفسه. فقد تنازل عن قناع الدبلوماسية. وهكذا بات واضحًا لكل حرّ عاقل في الأرض أنه هو الحلف الصليبي – الصهيوني المعاصر الذي يقود حربًا دينية لا هوادة فيها.
وهو هذا الحلف الذي لا يزال يقصف غزة ويسعى إلى تهجيرها، وهو هذا الحلف الذي لا يزال يقصف لبنان أو سوريا أو اليمن، وهو هذا الحلف الذي قصف إيران وقطر وتونس، وهو هذا الحلف الذي بات يزداد حدّ التوترات بينه وبين تركيا. وهذا يعني أن هذه الحرب الدينية التي بات يقودها هذا الحلف الصليبي الصهيوني هي حرب تستهدف رقعة واسعة من الامتداد الفلسطيني – العربي – الإسلامي. فهل وعت الرئاسات الرسمية لهذا الامتداد ذلك، أم أنها لا تزال تخدع شعوبها، ولا تزال تخدر شعوبها، ولا تزال تضلل شعوبها، ولا تزال تدّعي أنه لا يوجد هناك حرب دينية، ولا تزال تدّعي أن ما يقع الآن على هذا الامتداد الفلسطيني – العربي – الإسلامي هو مجرد صراع سياسي ويمكن تسويته عبر هيئة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والجمعية العمومية، وسائر الأذرع التي تفرعت عن هيئة الأمم المتحدة؟
أم أن هذه الرئاسات الرسمية على الامتداد الفلسطيني- العربي -الإسلامي باتت على قناعة لا ريب فيها أن ما يقع الآن على هذا الامتداد الفلسطيني العربي الإسلامي هو حرب دينية مكشوفة يقودها حلف صليبي صهيوني يجمع بين المؤسسة الأمريكية والمؤسسات الرسمية التابعة لها في أوروبا من جهة وبين المؤسسة الإسرائيلية الرسمية من جهة أخرى، فإذا وصلت هذه الرئاسات على الامتداد الفلسطيني العربي الإسلامي إلى هذه القناعة، فما هي إمكانياتها لإحباط هذه الحرب الدينية المعلنة على هذا الامتداد الفلسطيني العربي الإسلامي؟ وهل تملك أصلًا أدنى إمكانيات لإحباط هذه الحرب الدينية الصليبية الصهيونية، وهي رئاسات رسمية جبرية قامت تتنكّر للإسلام كبديل حضاري معاصر لهذه المدنية المادية العوراء التي قدّست الجسد وتنكرت للروح؟ وكيف لهذه الرئاسات الرسمية الجبرية أن تواجه هذه الحرب الدينية الصليبية الصهيونية، وهي ليست على مستوى أن تقوم بهذا الدور، وليست مؤهلة أن تقوم بهذا الدور؟
وأنّى لها ذلك، وهي في وادٍ والإسلام كبديل حضاري في وادٍ آخر؟ وأنّى لها ذلك، وهي التي ما سعت يومًا لنقل هذا الامتداد الفلسطيني العربي الإسلامي الذي مزقته الاستقطابات الوطنية والقومية إلى جسد أمة واحدة، وإرادة أمة واحدة، ودور أمة واحدة؟ وأنّى لها ذلك، وهي التي لا تزال تعلن حربًا عمياء صماء، بل بكماء، على المشروع الإسلامي الوسطي الذي هو الوحيد الذي يملك القدرة على إعادة هندسة هذا الامتداد الفلسطيني العربي الإسلامي، وعلى إعادة رصّ أبنائه كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وعلى إعادة ردّ الاعتبار للقضية الفلسطينية خاصة، ولسائر القضايا العربية والإسلامية عامة، من منطلق أن كل قضية فيها يجب أن تكون قضية كل هذا الامتداد الفلسطيني العربي الإسلامي؟ وهيهات هيهات لهذه الرئاسات الرسمية الجبرية أن تقوم بهذا الدور المفقود، لأنها تفقد أصول هذا الدور.
ولذلك فقد أصبح حالها كما قال المثل الحكيم: (فاقد الشيء لا يعطيه). ولذلك فإن هذه الرئاسات الرسمية الجبرية اليوم هي بين خيارين: إما أن تتصالح مع شعوبها مصالحة صادقة تدفعها للانحياز إلى قضايا شعوبها وطموحاتها ومطالبها، وإما أن تتغافل عن هذه الشعوب وتتغافل عن نبض هذه الشعوب وعن تطلعاتها.
وعندها سيزداد مع الأيام غضب هذه الشعوب، وقد تعبر عنه بحركات شعبية طارئة ومفاجئة وصاخبة لدرجة أنها قد تفاجئ توقعات مخابرات الحلف الديني الصليبي الصهيوني ومخابرات كل هذه الرئاسات الرسمية الجبرية. وستكون هذه الحركات الشعبية هادرة، لن توقفها كل بطانات السوء التي لا تزال تطوّق عروش وقروش هذه الرئاسات الرسمية الجبرية.
وكم هو واهم من يظن أن الربيع العربي قد تم اقتلاعه من الجذور، وأن مشهد (بوعزيزي) لن يتكرر ثانية، وأن المشروع الإسلامي قد تلقى ضربات عنيفة كسرت ظهره في مصر والأردن وتونس وبعض دول الخليج، ولن تقوم له قائمة بعد اليوم. فيا حيف على من يتوهمون ذلك ويظنون ظن السوء. وأكاد أرى بعيني قلبي، لا بعيني وجهي، زحوف الجماهير في هذا الامتداد العربي الإسلامي، وهي تحيط بقصور الجمهوريات لهذه الرئاسات الرسمية الجبرية، صارخة في وجه كل رئيس من هذه الرئاسات الرسمية الجبرية: “ارحل”، لأن الغالب من هذه الرئاسات الرسمية هي التي أفسدت الزرع والضرع، وأهلكت الحرث والنسل، واحتكرت السلطة والثروة، وفتحت الباب على مصراعيه للنفوذ الأجنبي، وتعالَت في طغيانها السياسي حتى أحالت الملايين من شعوبها إلى مفقودين أو سجناء أو معدومين أو لاجئين في كل فج عميق كالأيتام على موائد اللئام.
وسيكون دافع زحوف هذه الجماهير ليس رغيف الخبز، بل رغيف الكرامة، وليس طلب العفو فقط من أطفالها الجائعين وأيتامها المحرومين، بل طلب العفو من كل هؤلاء الأطفال الجائعين والأيتام المحرومين على طول وعرض هذا الامتداد الفلسطيني العربي الإسلامي، بداية من أطفال وأيتام غزة، ووصولًا إلى أطفال وأيتام الأفغان والروهنجة والإيغور. ولذلك فنحن بين يدي مفاجآت كثيرة تشير إليها العشرات من المبشرات النبوية التي تلقتها الأمة باطمئنان وقبول، وستحمل هذه المفاجآت اختلافات بعد موت بعض الرئاسات الرسمية الجبرية، وستشهد هذه المفاجآت اختفاء دول، واختفاء حدود، وحواجز تفتيش بين دول، واختفاء جوازات سفر، واختفاء أعلام، واختفاء أوراق مالية رسمية، واختفاء ألحان لأكثر من سلام ملكي ونشيد وطني، واختفاء الكثير من معالم سايكس–بيكو.
وستشهد هذه المفاجآت حراكات مميزة كحراك أبدال الشام، وعصائب العراق، وأنجاب مصر، والحركة التصحيحية بقيادة الفتى التميمي. وستظهر على حقيقتها شخصية سفياني الشام، وسفياني مصر، وسفياني الجزيرة، وشخصية الأصهب، والأبقع، والأعرج الكندي، وشعيب بن صالح، والمنصور اليماني، والقحطاني. وستسفر هذه المفاجآت عن شخصية الإمام المهدي، وعن مسقط رأسه. وسترسم هذه المفاجآت ملامح ماجدة لأنظمة تصبو إلى الحكم بما أنزل الله تعالى، ثم سيجمع الله بينها كما يجمع قزع الخريف، ثم ستتوج مساعي هذه الأنظمة بقيام خلافة على منهاج النبوة، ستملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن ملئت ظلمًا وجورًا.
وهي مبشرات يقينية لا تقوم على التحليل السياسي واستشراف المستقبل فقط، بل تقوم على مبشرات نبوية معصومة، ويكفي بذلك دليلًا عليها. وعندها سينتقل العالم العربي والأمة الإسلامية من مرحلة الملك الجبري الراهنة إلى مرحلة خلافة على منهاج النبوة.



