أخبار وتقاريردين ودنيامحلياتمقالاتومضات

عندما تنحرف بوصلة الإعلام

ليلى غليون

للإعلام دور حقيقي وفاعل في ترسيخ وتشكيل الرصيد المعرفي والتوعوي في المجتمع، وله تأثير مهم في توجيه بوصلة الرأي العام نحو الأفضل، هذا إذا كان ممتهنوه على مستوى شرف المهنة ممن يتمتعون بالنزاهة والمصداقية والمهنية، يعايشون آمال وآلام وهموم مجتمعاتهم ويعرضونها بكل موضوعية وصدق وأمانة يبتغون بذلك إيجاد العلاج والحلول المناسبة لها.

فالكلمة أمانة، وأمانة الكلمة عظيمة لا يحملها ولا يقدر عليها إلا من قدرها حق قدرها ونزه نفسه عن الدنايا وارتفع بها عن الأهواء وسفاسف الأمور وحلق بها نحو فضاء الصدق والصفاء، لأنه يحترم ذاته ويحترم مهنته أولًا، ثم هو يحترم عقول الناس التي يضعها في سلم أولوياته معتبرًا نفسه جسرًا للوصول بهم إلى بوابات الحقيقة والمعرفة والمعلومة الصادقة التي يحتاجونها في كل مجالات حياتهم بعيدًا عن التزييف والتطبيل والنفاق والافتراء وطمس الحقيقة عن سبق الترصد والإصرار، وبعيدًا عن المصلحة الذاتية والتملق الإعلامي .

ولكن وللأسف، فإن المطلع اليوم على الساحة الإعلامية بكافة وسائلها المرئية والمسموعة والمقروءة والإعلام الرقمي المنتشر على نطاق واسع، يجد الكم الهائل من المعلومات والمحتويات التي انزلقت بمواضيعها الهابطة إلى دون مستوى الأخلاق، مستهترة بعقلية مشاهديها أو قرائها أو سامعيها وبمشاعرهم وبالذوق الرفيع، ضاربة عرض الحائط بكل القيم والأعراف والأخلاق الفاضلة.

إنه إعلام مبتذل، مستفز، متسلق مثل شجرة اللبلاب أو النباتات الطفيلية، يعتمد على الإشاعات والمحتويات التافهة والأخبار المحبوكة والمصنوعة صناعة ومطبوخة في مطابخ الكذب والدجل، أقل ما يقال عنه أنه إعلام استرزاق بل إعلام تضليل مستهتر بعقول الناس.

أبى القائمون عليه من الجيوش المرتزقة إلا أن يعتاشوا على المال الحرام على ما ينشرونه من فساد ورذيلة وكذب ودجل، وهتك الأعراض، والأخبار العارية عن الصحة التي يغرقون بها الناس، يخترقون وعيهم حتى المفاصل بقضايا بعيدة عن واقعهم ولا تهمهم ولا تحاكي مشاكلهم وهمومهم، بل يجعلون من أخبار الفنانين والفنانات وفضائحهم مواد دسمة يخدرون بها عقول السذج منهم، إنه إعلام يهدم ولا يبني، يخرب ولا يعمر، يفرق ولا يوحد، ملوث بأخبار الفضائح الأخلاقية وزنى المحارم والتفكك الأسري وجرائم القتل والمخدرات التي يتنزه الذوق الرفيع عن مشاهدتها أوقراءتها.

تلك التي تفتح أبواب الفتن على مصاريعها وتقدم ما يحرك الغرائز ويثير الشهوات، يسوق للرذيلة ويسعى لتطبيعها تدريجيًا لتصبح عادية يتعايش معها المجتمع بلا استنكار، إنه مثل الجراد يأتي على الأخضر واليابس يلتهم الأخلاق ولا يبقي على فضيلة، يتحدى مشاعر الناس ويخدش حياءهم ويضلل وعيهم ويزيف الحقائق ويضخم أحداثًا ويصغر أحداثًا أخرى حسب ما تقتضيه المصلحة. كل ذلك بهدف كسب مادي رخيص وما تخفي صدورهم أخطر وأعظم.

ذلك هو إعلام الظل، رواده حالهم كحال حطاب الليل الذي يجمع الغث والسمين والصالح والطالح، وقد يلتقط الأفعى وهو لا يدري، وكيف له أن يميز وظلمة الليل تطمس بصره وظلمة التضليل تغشى بصيرته؟!
إن إعلام كهذا يسعى لتحويل الإعلام برسالته السامية من حقل ثقافي توعوي معرفي إلى مكسب تجاري ومنبر للتضليل حتى لو كان ذلك على خراب مالطا كما يقول المثل الشعبي.

إن الإعلام الحقيقي النزيه هو الذي يحترم ذاته قبل أن يحترم عقل وفكر متابعيه، هو الذي يلامس نبض الناس ويعكس همومهم وقضاياهم وما أكثرها خاصة في هذا الزمن الذي صبت الهموم والابتلاءات والفتن على مجتمعنا صبًا، ويسعى بكل ما يحوي من مصداقية للتعرض لمشاكلهم واحتياجاتهم ويمدهم بالحلول العملية التي هم بأمس الحاجة إليها.

هو التي يربأ بنفسه أن يتجاهل أو يتعامى عن قضاياهم الحقيقية ويقدم لهم من سفاسف الأمور ما يشوشهم ويشغلهم ويحلق بهم بعيدًا عن الواقع المؤلم الذي يعايشونه، بل يربأ بنفسه أن يلطخ فكرهم بسموم الأفكار ولوثتها والقصص الفاسدة والقضايا المخلة بالآداب التي لا تحاكي هذا المجتمع بفطرته السليمة.

أنه الإعلام الراقي الذي يرتبط بواقع الناس ويعيش معهم هذا الواقع لحظة بلحظة، فهو جزء لا ينفصل عنهم.

هو التي يسعى لتطوير ذاته في الاتجاه الذي يخدم مصالح المجتمع على المدى القريب والبعيد.

إنه الإعلام الحر الذي حمل مسؤولية أمانة الكلمة، فقدم الكلمة الصادقة وألبسها ثوب الموضوعية وزينها بالمصداقية وعطرها بالواقعية.

إنه إعلام بث القيم وليس إعلام بيع الذمم، إنه إعلام الفكر الحصيف وليس إعلام الرصيف، إنه إعلام الأخلاق وليس إعلام الاسترزاق.

فإلى كل إعلامي أبعث هذه الرسالة:

أنت تمارس دورًا خطيرًا وأخطر مما تتصور، فاتق الله فيما تقول وما تكتب وما تقدمه من مادة إعلامية للناس وبأي وسيلة إعلامية تعمل، واعلم أنما تقدمه يصل لشرائح كثيرة من الناس، خاصة في هذا الزمن ومع كثرة مواقع التواصل الاجتماعي، فاتق الله في كل كلمة تقولها أو تكتبها وفي كل معلومة أو مادة إعلامية تعرضها من غير تحري الدقة والصدق والحق وصحة الخبر، لأن الكثير سيتأثر بها والويل كل الويل لو كان التأثير مدمرًا.

ورحم الله القائل:
وما من كاتب إلا سيفنـى ويُبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى