“العيش في السجن معزولا” للشيخ رائد: الحركة الأسيرة نبراس للإنسانية (2)

بروفيسور نادر مصاروة
ولم ينس الكاتب (الشيخ رائد صلاح) أن يضعنا في صورة ما يعانيه أخوته من السجناء ذوي المحكوميات المؤبدة أو طويلة الأمد، وما يعانونه من ألم نفسي وجسدي، فالحركة الأسيرة ليست مجرد وصف لحالة جماعية داخل السجون، بل هي شهادة على قدرة الإنسان على أن يظلّ حيا ومضيئا رغم كل محاولات العزل والقمع والتجريد من الكرامة.
في قلب السجون، حيث يُنتزع الإنسان من حياته، من بيته، من دفء العائلة، ومن أبسط حقوقه، تولد من رحم المعاناة إنسانية صلبة، متماسكة، لكنها أيضا رقيقة وحنونة في جوهرها. ليس الأسير رقما أو حالة قانونية، بل قلب نابض، يحيا ويشعر ويتألم، ويُحب، ويكتب، ويُعلّم، ويُربّي أملا لا يموت.
فالصمود في وجه السجان لا ينبع فقط من العناد أو التحدي، بل من رغبة الأسير العميقة في الحفاظ على ذاته الإنسانية. حين يرفض الأسير الخضوع للذل والمساومة على كرامته فهو يقول: “أنا إنسان”، رغم كل ما يحاول السجان أن ينزعه منه.
في الزنزانة، تتكون علاقات إنسانية من نوع خاص: أخوة تتجاوز الانتماءات، تضامن يومي في أبسط الأمور ـ كأس شاي يُقتسم، كتاب يُتداول، دعاء يُهمس في الليل من أجل أسير مريض “يا بلال(بلال كايد أسير حكم عليه خمسة عشر عاما)، أنت الآن مضطر، ويصدق فيك قول الله تعالى (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه)، ولا تنس أننا في رمضان، وهو شهر الدعاء والله تعالى يقول:(وإذا سألك عبادي عنّي فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان). فأنت الآن يا بلال مستجاب الدعوة، فلا تنسانا من دعائك”(83).
إنها كلمات تنبض بمشاعر إنسانية عميقة، تمزج بين الألم والرجاء، وتُجسّد لحظة روحانية خالصة وسط ظرف قاسٍ. إنها كلمات تُقال من قلب يعرف المعاناة، إلى قلب يعيشها، فتلامس أعماق النفس وتمنحها طمأنينة لا تأتي إلا من الإيمان والثقة بالله.
في هذه الكلمات، لا يُخاطَب السجين كضحية، بل كمقرّب من الله، كمضطر موعود بالإجابة. هذه النظرة تُعيد للإنسان قدره ومعناه حتى وهو في أضعف حالاته. السجن، القيد، الوحدة ـ تتحوّل كلها إلى أسباب للتقرب من الله، لا للانكسار، بل للارتفاع.
فالتذكير بآية (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه)، هو بمثابة فتح نافذة من السماء في جدران السجن. فيها اعتراف صادق بالضيق، لكن يحمل بشرى عظيمة: أن المضطر لا يُرد، وأن الله أقرب ما يكون للعبد في ضعفه، لا في قوته.
ثم يأتي ذكر رمضان، ليربط بين الزمان المبارك والمكان الموحش، وكأن الكاتب يقول: “حتى في السجن، رمضان ما زال رمضان، والله ما زال قريبًا، والدعاء ما زال يُستجاب”، وفي هذه الكلمات تأكيد على أن الزمان المقدس لا يُلغى بالمكان القاسي، بل ربما يزداد أثره فيه.
وأخيرا، حين يُقال: “فلا تنسانا من دعائك”، فهذا طلب محمّل بالحب، والثقة، والانتماء. كأنما يُقال: “أنت في مكان خاصّ، فادع لنا”، وفي هذا تواضع من المتكلم، ورفع من قدر السجين، لا بوصفه مجرد معتقل، بل يحمل مكانة روحية تُستمدّ من صدقه ومعاناته.
وعلى الجملة، هذا الفقرة تجعل من المحنة وسيلة قرب، ومن الضعف قوة، ومن القيد دعاء، ومن الدعاء رابطا بين القلوب. إنها تذكير حار بإنسانية السجين التي لا يُطفئها الجدران، بل تشع أكثر في ظلال الإيمان. هذه هي العلاقات لا تُبنى على المصالح، بل على المعاناة المشتركة، وهذا ما يجعلها إنسانية صافية، تلامس الجوهر.
الأسير الذي يكتب قصيدة، أو يدوّن مذكرات، أو يقرأ، أو يعلّم رفيقه القراءة، هو إنسان يرفض أن يُختصر في القيد. هو يقول: “ما زلت أملك عقلي وقلبي ولساني”. هذا الإبداع خلف القضبان هو فعل مقاومة، لكنه أيضا فعل حب للحياة، تعبير عن رغبة الإنسان في أن يبقى مؤثرا، حيا، رغم كل محاولات طمسه. هذا ما كان يفعله الكاتب في سجنه كبقية السجناء “وفي هذا اليوم انهيت كتابة أحداث الأيام التي مضت عليّ منذ أول يوم اعتكفت فيه في سجني، وفي هذا اليوم واصلت قراءتي لكتاب (الأذكار). وفي هذا اليوم بدأت تثبيت حفظ كتاب الله تعالى، وفي هذا اليوم بدأت أدعو الله تعالى أن يبارك لي ففي وقتي، وأن يوفقني حتى أنجز تأليف خمسة كتب على الأقل”(29).
كلمات تمثل لحظة إنسانية شفافة، فيها تأمل عميق وهدوء داخلي، وتُظهر كيف يستطيع الإنسان أن يحوّل العزلة المفروضة عليه إلى مساحة للنمو الروحي والفكري، بدل أن تكون مجرد وقت ضائع أو ألم مستمر.
إنها لحظة مصالحة مع الذات، ومع الزمان والمكان. ففيها يتخذ السجين موقفًا إنسانيًا شجاعًا: أن يُحسن استثمار وقته، وأن يزرع في قلب القيد بذور الأمل والإنجاز. لا يكتفي الكاتب بتسجيل أحداث الأيام الماضية، بل يُحوّلها إلى كتابة، إلى سرد، إلى توثيق. وكأن الكتابة هنا ليست فقط وسيلة لحفظ الذاكرة، بل طريقة لترميم الداخل، ولمنح المعاناة معنى.
قراءة كتاب “الأذكار”، وسط جوٍّ قاسٍ مثل السجن، ليست فعلًا عابرًا، بل تعبير عن التعلق بالقيم الروحية التي تعين على الثبات والصبر. إنها غذاء القلب حين تُمنَع عن الجسد حريته، وتأكيد أن السكون الخارجي يمكن أن يكون ستارًا لحركة داخلية عميقة ومستمرة.
تثبيت حفظ القرآن في السجن ليس مجرد عبادة، بل هو انتصار. أن يُصبح السجن مدرسة لحفظ كتاب الله، يعني أن الإنسان قادر على أن يحوّل المكان الذي يُراد له فيه الانكسار، إلى محراب يتقوّى فيه، ويرتفع روحيًا فوق واقعه.
أما الدعاء ببركة الوقت، والطموح لتأليف خمسة كتب، فهو أسمى تعبير عن إرادة الحياة. في أكثر الظروف قسوة، لا يتمنى الكاتب الخروج فحسب، بل يتمنى الإنتاج، الإفادة، الخلق. هذا الحلم وسط الجدران ليس خيالًا، بل فعل إيمان بأن الإنسان لا يُقاس بمكانه، بل بما يملأ به وقته، وبالخير الذي يطمح أن يتركه بعده.
باختصار، هذه الفقرة تُجسّد صورة الإنسان الذي يختار أن يكون حرًّا داخل السجن، بالعلم، والعبادة، والتأمل، والعمل الصامت. إنها لحظة إنسانية نبيلة تقول لنا: القيد قد يطال الجسد، لكنه لا يستطيع أن يُقيّد الروح التي قررت أن ترتقي.
إنسانية الحركة الأسيرة إذن ليست حالة شعورية فقط، بل ممارسة يومية من الكرامة، والتربية، والعطاء، رغم القيد. إنها صوت الإنسان الذي يقول للعالم من خلف الجدران العالية: “أنا هنا، ما زلت أحب، وأحلم، وأؤمن بأن الحرية ممكنة، وأن الإنسان لا يُقهر إلا إذا استسلم، سنبقى نغني وننشد للحرية ولن تكسرنا قيود السجن “ارتفعت أصوات بعض الأسرى في القسم الانفرادي وراحوا ينشدون بأداء جماعي أنشودة ( لبيك إسلام البطولة). ثم انتقلوا إلى أنشودة إسلامية ثانية وثالثة، وخلال النشيدة وما بين الأنشودة والأخرى كان أحدهم يلقي بعض الجمل الحماسية بصوت خطابي جهوري”(107).
في هذه الفقرة التي يوثقها الكاتب يفيض الجانب الإنساني بالمعنى، رغم بساطة الصورة، ويكشف عن عمق الروح الجمعية التي يعيشها الأسرى حتى في أقسى ظروف العزل والانفراد.
في مكان يُفترض أن يُطفأ فيه صوت الإنسان، تُولد الأناشيد الجماعية كفعل إنساني مقاوم، وكوسيلة للتشبث بالهوية والانتماء. هؤلاء الأسرى، رغم كونهم في قسم انفرادي، أي في عزلة تامة عن العالم وعن بعضهم، يختارون أن يرفعوا أصواتهم معًا، لا ليغنّوا فقط، بل ليعلنوا: نحن هنا، ونحن معًا، ولسنا وحدنا.
حين ينشد الأسرى “لبّيك إسلام البطولة”، فهم لا ينشدون فقط كلمات، بل يعبّرون عن انتماء روحي وقيمي، يستحضرون فيه معاني التضحية والصبر والكرامة. في هذا الفعل البسيط، يواجهون الفراغ والجدران الصماء برسالة: نحن لا ننكسر، بل نزداد قوة.
رغم أن الانفرادي يعني العزلة الجسدية، إلا أن الأسرى بكسرهم للصمت عبر الصوت الجماعي يصنعون مجتمعًا صوتيًا، يتواصلون فيه من خلف الأبواب، ويخلقون رابطة تتجاوز الحواجز. إنهم يصنعون حضورًا مشتركًا، يسمع فيه كل فرد صوته وصوت إخوانه، فيشعر أنه ليس وحيدًا في معركته الداخلية. وصوت الأسير الذي يُلقي الجُمل الحماسية بين الأناشيد يُمثّل صورة القائد الروحي بين رفاقه. هو لا يراهم، لكن صوته يصلهم، يوقظ فيهم معاني الصبر والرجاء والثبات. وفي ذلك مشهد إنساني نادر: إنسان مقيد، لكنه قادر على أن يُلهم الآخرين، أن يُشعل فيهم جذوة الأمل بكلمة، وسط ظلامٍ كثيف.
هذا المشهد يكشف أن السجن، مهما حاول أن يُفرّق ويعزل، لا يستطيع أن يلغي الطابع الاجتماعي للإنسان. الأسرى يعيدون إنتاج الحياة الجماعية بأدوات بسيطة: صوت، نشيد، خطاب. وكل ذلك هو نوع من المقاومة الهادئة التي تسكن في القلب، لا تُقاس بالقوة بل بالمعنى.
في النهاية، هذه الفقرة لا تصف مجرد أصوات، بل تصوّر لحظة إنسانية عميقة، فيها الكثير من التحدي، والحنين، والصبر، والإخاء. إنها تذكير بأن الروح البشرية قادرة على أن تغني حتى في القيد، وأن الإنسان لا يُعرّف بمكانه، بل بما يفعله ليحفظ كرامته داخله. يتبع…



