“العيش في السجن معزولا” للشيخ رائد: قصة إنسانية وتأملات داخلية عميقة (الجزء الأول)

بروفيسور نادر مصاروه
أدب وُلد من رحم المعاناة
يُعدّ أدب السجون أحد أبرز أشكال التعبير الإنساني الذي يجمع بين المعاناة الفردية والهمّ الجماعي، ويعكس الصراع بين السلطة والحرية، وبين القمع والصوت الداخلي للإنسان. إنه أدب يُولد في أقسى الظروف، لكنه يملك القدرة على التأثير في الضمير الجمعي، وتوثيق التجربة الإنسانية في أقصى درجاتها توترًا وألمًا، ويعتبر أدب السجون من الأنواع الأدبية التي يُنتجها الكتّاب أثناء وجودهم في السجن أو نتيجة لتجربة الاعتقال كالمذكرات اليومية، أو الرسائل، أو القصائد، أو الروايات أو المسرحياتـ أو المقالات السياسية أو التأملية أو ما يعتبره البعض بالسيرة الذاتية، وهو ليس مجرد توثيق لتجربة مكانية، بل يمثل مساحة للكشف عن الذات ومقاومة النسيان وإعادة بناء الهوية.
وقد ظهر أدب السجون منذ العصور القديمة، فقد كتب الفيلسوف الروماني “سينيكا” تأملاته في منفاه، وكتب سقراط دفاعه في السجن. أما عربيا فيعود إلى عصور مبكرة، مثل أشعار أبي فراس الحمداني في الأسر، ومذكرات السجون العثمانية في السجن. وقد برز هذا الأدب بقوة في القرن العشرين مع تصاعد الاعتقالات السياسية، خاصة في دول العلم العربي، بعد الاستقلال، وفي ظل الأنظمة القمعية، وفي ظل الاحتلال الغاشم الذي مارسته إسرائيل للفلسطينيين الذين انتفضوا لحريتهم، فزجوا في غياهب السجون بمحكوميات طويلة الأمد ثمنا لحريتهم.
الصدق والحميمية
غالبا ما تكون الكتابة في السجن صادقة، عارية من الزيف، مليئة بالوجع، والأمل، والانكسار، فالزمن في السجن لا يسير كالمعتاد، يصبح بطيئا أو متكررا، أو ساكنا، مما ينعكس في السرد.
ويدفع الانفصال عن العالم الخارجي للسجين إلى مراجعة ذاته وعلاقته بالوجود. فنجد الكثير من الأعمال تتضمن نقدا للأنظمة القمعية، أو للواقع السياسي الذي أدى إلى السجن، فيتحول الكاتب إلى شاهد على حقبة أو حدث أو معاناة جماعية.
وقد كتب الكثير من الكتاب عن تجاربهم في السجن منهم عبد الرحمن منيف في كتابه “شرق المتوسط”، وسعد الله ونوس في “المنفى” الذي يعكس تجربة الاعتقال السياسي، ونوال السعداوي في “مذكراتي في سجن النساء” الذي يوثق تجربتها النسوية والسياسية، واحمد المرزوق في “الزنزانة رقم 10″، يحدث فيه عن مذكراته في سجن “تازممارت” الرهيب في المغرب، وتناول كل من فرج فوده وعلاء الأسواني هذا الأمر بأبعاد أدبية مختلفة.
ويُعد كتاب أنطونيو غرامشي “دفاتر السجن” تأملات فلسفية كتبها في سجنه الفاشي في إيطاليا، ونلسون منديلا في “رحلتي الطويلة إلى الحرية” ويعتبر سيرة ذاتية أثناء وبعد اعتقاله في جنوب أفريقيا، وفيودور دوستويفسكي في مسرحياته “مذكرات من بيت الأموات” مستوحاة من سنوات سجنه في سيبيريا.
وتكمن أهمية أدب السجون كونه يكشف عن قسوة الأنظمة والآليات القمعية التي تُمارس ضد الأفراد ومناضلي الحرية والمفكرين، وهو أدب يمنح السجين صوتا، ويبقيه في الذاكرة الجماعية، وفي كثير من الحالات ألهم أدب السجون الحركات الثورية أو الإصلاحية الكثير من العزيمة والإصرار والتحدي، وهو يقدّم تجارب إنسانية صافية، تجعل من القارئ شريكا في الألم والفكر.
وفي المحصلة فأدب السجون ليس فقط أدب معاناة، بل أدب مقاومة ووعي. يكتب في الإنسان كي لا يُنسى، كي لا تُغتال الحقيقة، وكي يبقى الصوت حيّا حتى خلف القضبان، وهو شاهد على قسوة الإنسان، لكنه أيضا شهادة على صموده.
العيش في السجن معزولا والهم الجمعي
يُعدّ كتاب فضيلة الشيخ رائد صلاح “العيش في السجن معزولا”، صورة أخرى من أدب السجون عاش تجربتها الكاتب سنوات طويلة في زنازين السجون الإسرائيلية ليس إلا لأنه صدح “بالثوابت الإسلامية العروبية الفلسطينية بعامة وعلى ثابت نصرة القدس والمسجد الأقصى المباركين خاصة”(4)، ويُعد الكتاب “وثيقة نابضة تصف الحياة التي يحياها أسير الحرية في كلّ ثانية تمر عليه خلف القضبان في عالم واقعي وليس عالما افتراضيا”(2) فينتقل الكاتب في هذه الوثيقة من الهم الفردي إلى الهم الجمعي لكل أسير من “صفوة أسرى الحرية بليلها ونهارها، وحلوها ومرها، ودموعها وأفراحها، وآلامها وآمالها، وهممها وطموحها”(2).
“العيش في السجن معزولًا” هو عنوان واضح ومباشر، يعبّر عن تجربة ثقيلة ومحددة، يستخدم الكاتب فيه صيغة عامة وغير شخصية مثلًا: “العيش” بدلًا من “عشتُ” أو “حياتي في…” أو “مذكراتي…”.
ف”العيش” اسم يدلّ على الاستمرار والبقاء، ويوحي بأن التجربة ليست لحظية أو عابرة، بل حالة دائمة نسبيا، و يحدد لنا الكتب الإطار المكاني الصارم للكتابة “في السجن”، مكان مغلق ومقيّد، محمّل بالدلالات القانونية والسياسية والاجتماعية. وتضيف كلمة “معزولا” بُعدا نفسيا قاسيا، لأنّ العزلة داخل السجن أصعب من السجن ذاته، وتشير إلى الانفصال عن الآخرين جسديا ونفسيا.
فعنوان الكتاب يصور تجربة مزدوجة من القيد الخارجي (السجن)، والقيد الداخلي (العزلة)، مما يضخّم من ثقل التجربة. فهو يوحي إلى حالة من الوحدة، والصمت، والتأمّل، وربما انهيار، أو الصمود الداخلي.
لحظة وداع بمدد من الله والأحبة
لحظة الوداع لإنسان يوشك على دخول السجن هي واحدة من أكثر اللحظات كثافة إنسانية وعمقا شعوريا في حياة السجين، إنها لحظة تتجمع فيها كل التفاصيل الصغيرة التي كان يألفها يوما، وكل الوجوه التي أحبها، وكل الأصوات التي شكّلت نسيج حياته، لحظة يتوقف فيها الزمن بين ما كان، وما سيكون.
في هذه اللحظة، يشعر الإنسان أنه يغادر جزءا من ذاته، لا فقط مكانا أو حرية، يسلم قلبه لعيني أمّه، لصوت زوجته، لحضن أطفاله أو أحفاده، لنظرات إخوته، وربما يتساءل داخليا:” هل سأراهم كما هم عندما أعود؟ هل سيبقون على حالهم؟ وهل سأبقى أنا نفسي؟”.
الوداع قبل السجن ليس كأي وداع. هو وداع يحمل في داخله خيبة العالم وعدالته، لكنه في ذات الوقت يحمل اعتزازا عميقا إذا كان السجن نتيجة موقف أو مبدأ، تتصارع فيه مشاعر الخوف والرجاء، الحزن والثبات، الألم والأمل.
وما يجعله أكثر إيلاما هو الصمت المفروض: أن تخفي دمعتك كي لا تضعف قلوب من تحب، أن تبتسم رغم أنك تسير إلى المجهول، أن تشجع الآخرين وأنت تحتاج لمن يشد على يده.
إنها لحظة يمتحن الإنسان إنسانيته كلّها: إيمانه، حبة، صبره، ومقدار ما يستطيع أن يحتمل دون أن ينهار. في هذه اللحظات يصور لنا الكاتب تلك اللحظة المؤثرة فيقول:
“ثم صافحت الشيخ كمال خطيب والشيخ هاشم وعضو البرلمان جمال زحالقة وسائر الأهل والأحباب من وفد الجليل والمثلث والمدن الساحلية ثم صافحت أمي وزوجتي وأبنائي وبناتي وأزواجهن وأحفادي وإخوتي وأخواتي وكم كانت اللحظات مؤثرة وكم كنت فيها بحاجة ماسة إلى مدد من الله تعالى حتى أحافظ على ثبات لا انفعال فيه ولا دموع، لا سيما وقد أجهش البعض بالبكاء عندما صافحني، ولا سيما وقد التصقت بي أمي طوال الوقت لدرجة أنها همّت أن تدخل السجن معي، ولا سيما وقد اتصل بي هاتفيا الأستاذ محمد بركة وأعرب عن شديد أسفه لأنه تعذر عليه الحضور”(9).
هذه الفقرة تعكس لحظة إنسانية بالغة التأثر، مليئة بالمشاعر المتداخلة من الفخر، والمحبة، والحزن، والحنين، والرهبة. إنها لحظة وداع صامت وصاخب في آن واحد ـ صاخب بما يعتمل في القلب من مشاعر، وصامت لما يتطلبه الموقف من ثبات ورباطة جأش.
الكاتب يسرد لقاءه الأخير بأهله ومحبيه قبل دخوله السجن، في مشهد يبدو كأنه احتفال بالوفاء أكثر من كونه وداعا. حين صافح الشيخ كمال خطيب والشيخ هاشم وغيرهم من الوجوه الرمزية والوطنية، فإنما يمرّ على رموز الانتماء، كأنّه يتزوّد بهم وبحبهم وصمودهم.
لكنه حين يصل إلى أمه وزوجته وأولاده وأحفاده وإخوته، تتحول اللحظة إلى اختبار عاطفي هائل. العائلة، الدم، الروح، الذاكرة. التصاق أمه به ودموع الآخرين تجسد الألم الإنسانيّ الطبيعي في فراق الأحبة، خاصة حين يكون الفراق لأجل قضية أو قناعة.
هو لا يقول إنه لم يتأثر، بل يعترف بأنه “بحاجة ماسة إلى مدد من الله” لكي يحافظ على توازنه ـ وكأن هذا الثبات، هذا الكبرياء الصامت، هو آخر ما يملكه ليقدمه كهدية في وداعه.
الاتصال الهاتفي من الأستاذ محمد بركة، رغم غيابه، يمثل أيضا بعدا وجدانيا: الحضور الرمزي للذين لا يستطيعون أن يكونوا هناك، لكنه يحمل رسالة تضامن واعتراف ضمني بعظمة اللحظة.
تصور الفقرة وداعا شريفا، مليئا بالحب والكرامة، حيث يختلط الحزن بالفخر، ويستعين الشيخ بالإيمان ليصمد أمام عاصفة العاطفة.
مراجعة إنسانية وذاتية
ثم ينقلنا الكاتب داخل جدران السجن، حيث يصوّر لحظات إنسانية نادرة تختلط فيها مشاعر التوتر، والمفاجأة، والتأمل، وتكشف عن عمق اللقاء الإنساني في مكان غير متوقع ـ داخل جدران السجن، حيث يُفترض أن تسود القسوة والجمود “ثم اقتادوني إلى قسم آخر في السجن لأخذ بصمة أصبعي السبابة ولتصويري، فانتظرت بعض الوقت واقفا، قبل أن تتم الإجراءات، فما كان من شاب درزي سجان إلا أن قام من مجلسه وأحضر لي كرسيا وقال لي بمنتهى الأدب اجلس، لا تبقى واقفا، فأكبرت فيه هذا الموقف. ثم أدخلوني إلى غرفة لأخذ بصمة إصبعي السبابة، وكان من الواضح لي أن الذي كان يشرف على تلك الإجراءات شاب درزي كذلك.
فتقدم مني بمنتهى الأدب، ولما وضع يده على يدي كي يمررها على جهاز أخذ البصمات، والله لقد كانت يده ترتجف، فأكبرت في داخلي له هذا الموقف، ورحت أعتب على نفسي وعلى قوانا السياسية في الداخل الفلسطيني وعلى لجنة المتابعة العليا، ورحت أقول في داخلي: كم نحن مقصرون في التواصل مع المجتمع الدرزي في الداخل الفلسطيني، وكم نحن بحاجة أن نقوي أواصر التواصل معهم، لأن فيهم الخير على الرغم من عثرات بعضهم التي نجحت المؤسسة الإسرائيلية في استدراجهم إليها”(10)
الجانب الإنساني هنا عميق ومؤثر، لأنه يكشف عن لحظات دفء إنسانيّ تنبثق وسط برودة المكان وقسوته، وتضيء ـ ولو للحظات ـ عتمة تجربة السجن والإجراءات الأمنية الجافة.
في البداية، يُبرز الكاتب موقف السجّان الشاب الدرزي الذي قدّم له كرسيًا، لا باعتباره مجرد سلوك مهذب، بل كفعل إنساني يتجاوز طبيعة المكان ووظيفته. فالسجن، بطبيعته، يُفترض أن يكون موضع تجريد من الكرامة، لكن هذا الشاب الدرزّي اختار أن يحتفظ بإنسانيته، وأن يُعامل الآخر باحترام، حتى لو كان في موقف ضعف أو قيد الاعتقال. هذه المبادرة البسيطة تحمل في طيّاتها رسالة: أن الإنسان، في جوهره، قادر على التعاطف حتى في أكثر الأماكن قسوة، ويرى فيه ما هو أكثر من حركة: يرى فيه إنسانًا لا تزال فيه بقايا الحياء والرحمة.
أما اللحظة الثانية، حين ترتجف يد الشاب أثناء أخذ البصمة، فهي من أشدّ لحظات النص إنسانية. هذا الارتجاف ليس جسديًا فقط، بل روحيا. إنه ارتباك نابع من صراع داخلي: بين موقعه كمنفّذ لإجراء رسمي، وبين مشاعره كإنسان يقف أمام إنسان آخر يعلم أنه مظلوم أو يدفع ثمن موقف، إنها لحظة تعرٍّ إنساني غير مقصودة، لكنها صادقة، فالكاتب لا يكتفي بملاحظة الارتجاف، بل “يُكبر” هذا الموقف، أي يقدّره ويمنحه الاحترام الذي يستحق، مما يعكس بدوره احتراما عميقا للقيم الإنسانية حتى في خضم الألم.
ثم تأتي لحظة المراجعة الذاتية، حين يعتب الكاتب على نفسه وعلى القوى السياسية الفلسطينية لتقصيرها في التواصل مع المجتمع الدرزي. وهذا عتاب إنساني قبل أن يكون سياسيًا؛ عتاب نابع من إدراك أن خلف الحواجز المصطنعة والمواقف المتباينة، هناك بشر، فيهم الطيبة والاحترام، وفيهم القابلية لأن يكونوا شركاء، لو تم الوصول إليهم بلغة الإنسان، لا بلغة التصنيف والتخندق.
الفقرة بمجملها تُمثّل لحظة نادرة من اللقاء الصامت بين القيم الإنسانية والواقع السياسي، بين الانقسام المجتمعي والقدرة الفطرية على الرحمة. وهي تقول لنا: حتى في أكثر المواضع ظلمة، يبقى الإنسان قادرًا على أن يُبصر في الآخر ما يستحق الاحترام، وأن يعيد النظر في تصوراته وأحكامه متى لمس الصدق في سلوك بسيط، كارتجافة يد أو كرسي يُقدّم بأدب.
إنها لحظات تنتمي لما يُعرف بـ”الإنسانية المخبّأة في التفاصيل الصغيرة”، لكنها، برغم بساطتها، قادرة على إحداث رجّة داخلية، تدفع للتفكير، وربما لإعادة بناء الجسور.يتبع الجزء الثاني.



