ما بعد المظاهرة الفاشلة بأم الفحم؟

الشيخ رائد صلاح
المظاهرة الفاشلة التي كانت في أم الفحم تمام الساعة 4:00 من يوم السبت الموافق 24-5-2025م، كانت باسم لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية، واللجنة الشعبية في أم الفحم، ولجنة التضامن مع الأستاذ رجا اغبارية.
ولأنها كانت يوم السبت، فهذا يعني أنها كانت في عطلة الأسبوع، ولا يمكن لمعظمنا أن يقول: تغيبت عنها، لأنني كنت في ورشة عملي.
ولأنها كانت في أم الفحم، فهذا يعني أنها كانت في منطقة الوسط التي تربط بين كل بلداتنا في الجليل والمثلث والنقب والمدن الساحلية، ولا يمكن لمعظمنا أن يقول: تغيبت عنها، لأنها كانت في أقصى الشمال، أو في أقصى الجنوب.
ولأنها كانت باسم الأجسام الثلاثة التي أشرت إليها في السطور السابقة، فهذا يعني أنها كانت وحدوية، ولم تكن باسم حزب بعينه أو حركة بعينها من قوانا السياسية في الداخل الفلسطيني، ولا يمكن لأحدنا أن يقول: تغيبت عنها، لأنها كانت مظاهرة فئوية لا تمثلني.
ولأنها كانت تمام الساعة 4:00 عصرًا، فهذا يعني أنها كانت في أكثر ساعة مناسبة من ساعات أي يوم يمر علينا، ولا يمكن لأحدنا أن يقول: تغيبت عنها، لأنني كنت في أوج مواعيدي الاجتماعية.
ولأنها قامت للمطالبة برفع الكرب الشديد عن غزة المفجوعة، وللمطالبة بوقف سياسة الاعتقالات الإدارية التي بات يتعرض لها العشرات منا في الداخل الفلسطيني، وللمطالبة بإطلاق سراح الأسير السياسي المعتقل إداريًا الأستاذ رجا اغبارية، فهذا يعني أن أهداف هذه المظاهرة كانت ولا تزال تهم الجميع منا، ولا يمكن لأحدنا أن يقول: تغيبت عنها، لأن أهدافها كانت شخصية أو نفعية أو سطحية.
ولأن كل هذه المواصفات قد اجتمعت في هذه المظاهرة، فكان من المفروض أن يكون عدد حضورها بالآلاف من أبناء مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، وفي أضعف الأحوال، كان من المفروض أن يكون عدد حضورها بالمئات من أبناء مجتمعنا في الداخل الفلسطيني. ولكن مع شديد الأسف، كان عدد حضورها من أبناء مجتمعنا في الداخل الفلسطيني أقل من مائة، بما في ذلك من شارك فيها من مدينتنا أم الفحم.
ومع ذلك، سارت هذه المظاهرة كما كان مخططًا لها، ومع أنها تعرضت لأكثر من استفزاز من قبل بعض عناصر الأمن الإسرائيلية، ومع قلة عددها، إلا أنها أدت رسالتها على فشل مع شديد الأسف، ولقد لاحظت على هذه المظاهرة الفاشلة عشرات الملاحظات، وها أنذا أسجل بعضها:
1- قبل أسابيع، كنا قد اجتمعنا في نادي أبناء البلد في أم الفحم للتشاور حول كيفية إسناد الأستاذ رجا إغبارية، وكانت هناك اقتراحات كثيرة، وتمَّ تشكيل لجنة مصغرة لمتابعة هذه الاقتراحات، وتم الاتفاق على تأخير قرار القيام بمظاهرة واستباق ذلك بسلسلة اعتصامات تتوج فيما بعد بتنظيم مظاهرة كيما تكون ناجحة.
ولكن لا أدري لماذا تمَّ التعجيل بتنظيم المظاهرة، بخلاف ما تم الاتفاق عليه. وقد قلت أنا وغيري: لا يجوز أن نتعجل بتنظيم مظاهرة حتى لا تكون فاشلة، وإذا كانت فاشلة فستنقلب علينا، والمطلوب تنظيم نشاطات تمهيدية تحرك جماهيرنا، ثم يكون تنظيم المظاهرة هو ختام هذه النشاطات التمهيدية! ولا أدري لماذا حصل عكس ما اتفقنا عليه.
2- كان هناك مجموعة حضرت في الاجتماع الذي عقد في نادي أبناء البلد في أم الفحم، ومن المفروض أن تشارك كل هذه المجموعة في هذه المظاهرة التي كانت في أم الفحم يوم السبت الموافق 24/5/2025. إلا أن البعض من هذه المجموعة قد تغيب! لماذا؟ عسى أن يكون له عذر في تغيبه عن هذه المظاهرة.
3- كنتُ قد شاركت في اللقاء الحواري الخاص الذي عقد يوم السبت الموافق 10/5/2025م، في فندق اللجاسي بالناصرة، وقد حضر ذاك اللقاء العشرات من ممثلي الأحزاب والمحاضرين، ومندوبين عن جمعيات ذات أسماء وأهداف مختلفة، وقد خاض الجميع في واقع مجتمعنا المأزوم في الداخل الفلسطيني، وما هو المطلوب للنهوض بهذا المجتمع الحائر التائه كي يسترد عافيته، ويجدد العهد مع قيمه وثوابته، وكنت أطمع أن يشارك العشرات ممن كانوا في هذا اللقاء الحواري الخاص في هذه المظاهرة التي كانت في أم الفحم يوم السبت الموافق 24/5/2025.
ولأنَّ عدد حضور هذه المظاهرة كان قليلًا، فلم يكن صعبًا عليّ أن أتعرف على وجوه الحضور، ومع شديد الأسف، لم أر إلا إثنين ممن كانوا في ذاك اللقاء الحواري الخاص شارك في هذه المظاهرة! ولذلك أقولها بكل قناعة: إن الذي يلزمنا اليوم هو النموذج العملي الذي يجمع بين كرسي البحث وواقع جماهيرنا، وبين التنظير الجامد وآلام مجتمعنا، وبين الإبداع في الاقتراحات والإبداع بترجمتها على أرض الواقع.
4- لا تزال لجنة المتابعة العليا تحافظ على الحد الأدنى من جلساتها، وهي الجلسة الشهرية في أول يوم خميس من كل شهر في مبنى لجنة المتابعة، ولا يزال الغالب من ممثلي قوانا السياسية يشاركون في هذه الجلسة الشهرية. وقد يغيب البعض لعذر ما عن هذه الجلسة الشهرية، ولكن العجب كل العجب أن عددًا لا بأس به قد غاب عن هذه المظاهرة التي كانت في أم الفحم يوم السبت الموافق 24/5/2025م! لماذا؟ عسى أن يكون لهم عذر، ولكن حتى لو كان لهم عشرات الأعذار، فكان من الواجب عليهم أن يرسلوا مندوبين عنهم، ولكنهم لم يرسلوا.
5- مجتمعنا الآن في الداخل الفلسطيني هو مجتمع مضروب على رأسه، وبات يعاني من هشاشة عظام وارتجاج في الجمجمة، وهبوط في دقات القلب، وضيق في التنفس، وتراجع حاد في قوة سمعه وإبصاره وشمه.
ولذلك مؤلم أن أقول لنفسي ولكم إننا لو أحصينا عدد الحضور في مطاعم أم الفحم في بداية انطلاق المظاهرة، لوجدنا أنهم يفوقون الألف على أقل تقدير، ولوجدنا أن الكثير منهم من خارج مدينة أم الفحم، وقد يكونون من الجليل أو المثلث أو المدن الساحلية أو لعل بعضهم من النقب، وسلفًا أقول: مدينتنا أم الفحم هي بيت لكل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني.
ولكني أتساءل بألم: متى تجمعنا نشاطاتنا الجماهيرية كالاعتصامات والمظاهرات كما تجمعنا المطاعم؟ فما بالكم لو أطنبت في حديثي، وتناولت بالحديث قاعات الأعراس التي كانت تضج بالآلاف يوم السبت الموافق 24/5/2025م! فلماذا تضيق بنا قاعات الأعراس؟ ولماذا تضيق بنا المتنزهات العامة الحرشية التي قامت على أطلال بلدات فلسطينية منكوبة؟ ولماذا تضيق بنا الأسواق التجارية والمباني العملاقة للمحلات التجارية؟ ولماذا يضيق بنا جسر طابا قبيل الدخول إلى مصر المحروسة، ولماذا يضيق بنا جسر الشيخ حسين قبيل الدخول إلى الأردن المباركة؟ لماذا يضيق بنا كل ذلك؟ وفي المقابل، تضيق أعدادنا في نشاطاتنا الجماهيرية، فلا يتجاوز عدد حضورها المائة.
6- نعم، نحن نعاني من سياسات المؤسسة الإسرائيلية التي باتت ترصد كل كلمة نقولها، وترصد الشعارات التي نرفعها في نشاطاتنا الجماهيرية، بل وترصد ألوان الورق وألوان هذه الشعارات حتى لا تكون شبيهة بألوان العلم الفلسطيني، ولكن قبل ذلك وبعد ذلك نحن نعاني من أزمة انتماء، وبات سلوكنا لا يعبر عن هوية انتمائنا.
وباتت مقولة انتمائنا مجرد شعار ليس إلا، وباتت في واد، وسلوكنا في واد آخر. وإلى جانب ذلك، نحن نعاني من أزمة قيم، بداية من قيم الفرد، وقيم البيت، وقيم المدرسة، وقيم المؤسسات العامة، وقيم قوانا السياسية، وقيمنا العامة في سلوكنا الاجتماعي العام.
وإلى جانب ذلك، نحن نعاني من أزمة الثوابت، وبات الثابت والمتغير عندنا سواء، وكأنهما في منزلة واحدة، وقيمة واحدة! وكأنه لا بأس إذا ضاع ثابت من أجل عيون المتغير، وكأنه لا إشكال إذا ضاع ثابت من أجل عيون المطلبي، ومن أجل عيون المصلحة المعتبرة وغير المعتبرة، ومن أجل عيون المناكفات الحزبية والنجومية السياسية، واستعراض عضلات الهيمنة والتسلط على جماهيرنا، ومن أجل عيون الحضور الإعلامي وحشد المؤيدين واستقطاب الأنصار، ولو بلغة توزيع الأموال السيالة من صناديق دعم خارجية، على قاعدة (من أراد أن يأكل من خبز السلطان، فليحارب بسيفه)، أو على قاعدة (إطعم الفم تستحي العين)، أو على قاعدة (مائة عين تبكي، ولا عين أمي)، أو على قاعدة (يا روح ما بعدك روح).
وهكذا تشابه البقر علينا، وبتنا نعالج أعراض أمراضنا، ولا نعالج الأمراض ذاتها، وبتنا نتصدى صارخين لإسقاطات أزماتنا، ولا نتصدى صارخين لأزماتنا ذاتها، وبتنا نتوهم وجود حلول سحرية، ونوهم مجتمعنا بهذه الحلول التي هي السراب في حقيقتها أو القشور في أحسن الأحوال! وبتنا نكرر الحلول التي أثبتت فشلها منذ عقود، ونتجبر على مجتمعنا ونصيح فيه: هذه هي الحلول المنقذة لنا من تيهنا، وكأننا بتنا لا نملك حلولًا غيرها. وإلى جانب كل ما ذكرت، نحن نعاني من أزمة العقوق مع لغتنا العربية، حتى تحول هذا العقوق إلى فضيحة لا تزال تنمو فينا، يندى لها الجبين.
7- لذلك، أقول: المظاهرة الفاشلة التي كانت في أم الفحم يوم السبت الموافق 24/5/2025م، لم تكن أحد أمراضنا، ولا هي إحدى أزماتنا، بل هي أحد أعراض أمراضنا وأزماتنا. والمطلوب أن لا نطمع بعلاج هذا العرض أو غيره، ما دامت أمراضنا قائمة فينا، وما دامت أزماتنا تغلغلت فينا حتى النخاع. ولذلك قال أحد حضور هذه المظاهرة، وكأنه أراد أن يواسي نفسه: لم ندع إلى هذه المظاهرة عبر وسائل الإعلام كما يجب. وفي نظري، هذا هو هروب من الحقيقة.
8- الأساس أن مجتمعنا اليوم مريض ومأزوم، ويعاني من أزمة انتماء، وأزمة قيم، وأزمة ثوابت، وأزمة عقوق للغتنا العربية. ولذلك، فقدنا الحصانة المجتمعية، وانتشر العنف الأعمى فينا، كانتشار النار في الهشيم، مع التأكيد أن دور المؤسسة الإسرائيلية هو دور مشبوه في كيفية تعاطيها مع هذا العنف الأعمى الذي نخر فينا. وعليه أقول، وهذه قناعتي: لن يشفى مجتمعنا من خلال لعبة الكنيست وإن أصر البعض منا عليها، وسلفًا أقول: حتى لو أصر البعض عليها، لن تكون لنا منقذًا في يوم من الأيام، ولن يشفى مجتمعنا بواسطة صناديق الدعم الخارجية، ولو أصبح الدعم بلغة المليارات، ولن يشفى مجتمعنا بقبول بعض أحزابنا وجود أوصياء عليها من الخارج مقابل الدعم المالي، ولن يشفى مجتمعنا بكثرة القيل والقال وتبذير الأموال والهروب من الحقيقة!
9- نحن مطالبون بتنشيط لجنة المتابعة العليا وكل اللجان المنبثقة عنها، ونحن مطالبون بدوام التواصل مع جماهيرنا بعيدًا عن آفة التواصل الموسمي في موسم انتخابات الكنيست أو السلطات المحلية. ونحن مطالبون بمشروع إصلاحي نهضوي يُخرج مجتمعنا من مستنقعات الأزمات التي يغرق فيها الآن، وذلك يحتاج إلى عقود. ونحن مطالبون بتوفير نماذج حية تجمع بين القول والعمل والحال بهدف معالجة مجتمعنا، ونحن بحاجة لبداية إحياء القوة الروحية التي تحرر مجتمعنا من اليأس والإحباط، وتملأ فكره وشعوره وسلوكه وخطابه بالصمود والتفاؤل.


