أخبار رئيسية إضافيةمقالاتومضات

تصريحات عباس.. خُبث الاحتلال وسؤال الأخلاق

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

 

مقدمة..

يومًا بعد يوم تتكشف مثالب الديموقراطية وغثائيتها في تعاملها مع الأقليات والشعوب المستضعفة. ومن نافلة القول إنّ الحروب الكونية شنتها أنظمة ديموقراطية وإن كافة المحارق التي تعرضت لها شعوب الأرض المستضعفة حتى هذه اللحظات، باشرت بها أو حرّكتها أو شاركت بها أنظمة ديموقراطية. وفي السياق ذاته أشرفت أعرق الديموقراطيات على نكبة الشعب الفلسطيني، وقدّمت اللاهوت والمصلحة والغيبية المسيحانية على منطقها العلماني.

وكانت إسرائيل الدولة “الديموقراطية” أكثر دول العالم استبدادًا واستباحة واحتلالًا. ولعل القتل اليومي الذي تمارسه هذه الديموقراطية ضد الفلسطينيين تحت لافتة الإرهاب، واحتلالها واستعمارها لأكثر من 4.5 مليون فلسطيني، بيان لجدل العلاقة بين الديموقراطية والاستبداد وسرقة خيرات الشعب الفلسطيني ومقدراته. ولطالما تورطت إسرائيل كما الدول الغربية بالقتل والجرائم التي سرعان ما يتم تبريرها، وفضلًا عن النفاق الغربي المؤيد لإسرائيل في تبرير هذه الجرائم، تمامًا كما يفعل

العديد من المنظرين المعاصرين في الدفاع عنها كمفارقة للاستبداد وانتهاك حقوق الشعوب.

رفضت الدول المانحة والتي أنشأت سلطة رام الله نتائج انتخابات السلطة يوم تقدّمت حركة حماس، تمامًا كما فعلت فرنسا في الجزائر يوم فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ.

لقد قدمت تلكم الديموقراطيات الاحتلال الإسرائيلي على محمود عباس الذي لمجرد أنه لامس محرمًا اسمه “الكارثة” أحد مخلفات الديموقراطية الغربية، وأكثرها تغولًا ووحشية في التاريخ المُعاصر. وأن تفعل ذلك في مجازر لا حصر لها وهذا بحد ذاته بيان للعقلية الغربية وكيف تتعامل مع الضعيف.

 

تصريحات عباس زوبعة في فنجان..

أثارت تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس في سؤال لصحفي ألماني عن موقفه من مقتل أحد عشر رياضيًا إسرائيليًا وشرطيين ألمانيين وخمسة من الفدائيين في سبعينيات القرن الماضي، زوبعة كبيرة بعد إذ تحدث عن مجازر الاحتلال الإسرائيلي وتاريخه الاجرامي، متجاهلًا الجواب على السؤال رغم أنّ دماء أطفال غزة لّما تجف بعد. وقد كان بإمكانه أن يجيب على السؤال وهو حمامة السلام ومقاوم المقاومة، من خلال ما فعله الاحتلال في غزة ويعرج على كل ما ذَكّرْ.

كان بوسع عباس أن يتناول الموضوع باعتذارية معينة تخرجه من حرج السؤال وتضع الصحفي في دائرة الحرج المقابل. عمليًا عباس لم يخطئ حين تحدث عن مجازر الاحتلال، ولم يبالغ حين تحدث عن بطشه ووحشيته. ولأن إسرائيل التي كان من تضاعيف قيامها ما حلّ في اليهود في ألمانيا والدول التي احتلها الرايخ الألماني، كان بإمكان عباس، أن يضع الاحتلال ومن يحميه من الغرب بما فيهم الألمان في دائرة السؤال الأخلاقي، عمن يتحمل مسؤلية ما حلّ باليهود والشعوب المستضعفة في الأرض.

لا يُنكر عاقل ودارس للتاريخ اليهودي المعاصرة والماركنتيلية الاستعمارية، انّ اليهود فعلًا تعرضوا لمحارق يندى لها جبين الإنسانية، وذلك بمعزل عن دور بعض الصهاينة والمتواطئين العملاء في هذه المحارق، ولكن لا يمكن إنكار ما حلّ بشعوب كثيرة اختفت تقريبًا من الوجود بفعل محارق المستعمر الأوروبي.

لا تزال الكثير من متعلقات المحارق التي تعرض لها اليهود في أضابير الأراشيف الغربية والخاصة وما تخفيه أعظم مما يتخيل كثير من المراقبين. وموضوع المحارق لا يزال محل أبحاث ودراسات وتمحيص تاريخي، لكن الابعاد السياسية الثاوية في تلكم الحرائق ما زالت قائمة. ولا نُبعدُ النجعة إذا قلنا إنّ شعبنا الفلسطيني دفع ولا يزال يدفع ثمنًا باهظًا لهذه المحارق.

تاريخيًا، سبق الجرائم النازية وعد بلفور والحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة التركية وإنشاء دول قومية في منطقة الهلال الخصيب مرتبطة صُريًا بالاستعمار الأوروبي، بشقيه الكاثوليكي والبروتستانتي، وترتب على ذلك العمل تهيئة أخلاقية لتأسيس وطن قومي لليهود تناوشته مواقف دولية في ماهيات وكيفيات تأسيس هذا الوطن، مكانًا وزمانًا، بعد إذ تهيأت الخلفيات لذلك.

لقد تمّ اختيار فلسطين ليس لأنها الأرض الموعودة، بل لأن الصليبية البروتستانتية أرادت ذلك ضمن سياقاتها الدينية وسؤالها حول الألفية الثالثة وقدوم المسيح (حول هذا الموضوع انظر دراسات المفكر جوزيف مسعد) على أرض لها مُلاكها وأصحابها، فكانت ثلاثيات الدين والسياسة والأخلاق، روافع لتأسيس الكيان ولو أن يدفع الثمن ساكنة البلاد، خاصة وأنّ فلسفات الاستعمار في تلكم السنوات تتبنى مثل ذلك أي تقتيل وترحيل شعب لإسكان آخر، وتعتبر ذلك من المبررات الأخلاقية التي سوقتها الماركنتيلية الأوروبية (الرجل الأبيض الذي يحمل خبر المسيح للعالم) ولعل بريطانيا وفرنسا ومن قبل أسبانيا والبرتغال ابدعوا في ذلك.

إسرائيل تعمل ومن خلال الحركة الصهيونية واللوبيات الصهيونية على احتكار المحرقة، وكأن ما حدث معهم لم يحدث مع أمم أُخَر، عِلمًا أن التاريخ المعاصر، تاريخ القوميات فيه سجل وافر من محارق بحق أقليات في كثير من بلدان العالم، إمّا لأسباب أيديولوجية أو عرقية كما حدث في كمبوديا والخمير الحمر وما حدث في البوسنة والهرسك وما حدث في مينامار (بورما) وما حدث في العراق لأهل السنة وما حدث أيضًا لأهل السنة في سوريا.

إن تصريحات عباس في ظل ما قدمه من خدمات للاحتلال، زوبعة في فنجان ليس أكثر ولا أقل، وتكشف العوار الأخلاقي للمستعمِر في كيفية تعامله مع المُستعمَر.

 

الخبث الإسرائيلي.. غباء السلطة وسؤال الأخلاق

تصريحات عباس لم تخرج عن كونها رد فعل حاول من خلاله استعطاف الأوروبيين وخاصة الألمان، أمام سؤال الأخلاق، وسؤاله حول مستقبل شعب يتعرض للقتل اليومي وفقًا لسياسات منهجية هو يتحمل جزءًا كبيرًا منها. وباعتبار أنّ ما حدث ولا يزال مع الشعب الفلسطيني يتحمله أخلاقيًا العرب وقوى الاستعمار العالمي ومن يدور في فلكها من حكام العرب والمسلمين.

سؤال الأخلاق يعتبر مركزيًا في هذه المحايثات، إذ معلوم أنّ ما قدّمه عباس للاحتلال الإسرائيلي تكتب فيه مجلدات، ولا أخالُ رئيس جهاز امني إسرائيلي لا يكن في داخله “احترامًا ” خاصًا للسيد عباس، على ما قدّمه من خدمات جليلة لإسرائيل، ولا استبعد بعد وفاته بسنين أن يكون عباس من ضمن من تكرمهم إسرائيل للخدمات التي قدمها لليهود ولإسرائيل، مما يجعل استغلال المؤسسات الإسرائيلية لجواب عباس فاسدًا وذميمًا ومنحطًا ومبينًا لمسألتي العدو في سياقات الفهم الإسرائيلي-اليهودي للعلاقات مع الجوي”גוי״والجَار ״גר״ ومعاني العلو وما يسمونه شعب الله المُختار.

أن تستغل اللوبيات الصهيونية ومن بعدها الخارجية الإسرائيلية تصريحات عباس لتحقيق مكاسب سياسية في غمرة الحرائق التي ارتكبت في قطاع غزة وحجم الكذب الذي مارسته كما حصل في مقتل ثلة من الأطفال نسبته للمقاومة ثم اعترفت به على أنه جزء من مجريات الحرب والحرب دائمًا تحدث فيها أخطاء، فهذا من بؤس السياسة يوم يكون الضحية فاقدًا لكثير من مقومات التحصين خاصة في مثل القضية الفلسطينية وما يراودها من تناقضات داخلية وفصائلية.

لم يكن عباس موفقًا يومًا من الأيام لا في التصريحات ولا في السياسات ولا في إدارة الأزمات، ووجوده زعيمًا للشعب الفلسطيني قصة لها سرديتها ورواتها ومعلوم كيف أصبح رئيسًا، لكل من عايش انتفاضة الأقصى الثانية وتداعياتها على الشعب الفلسطيني.

لقد كان عباس عرابًا للسلام الإسرائيلي كما كان عرابًا للدايتونية الأمريكية وتخريج رجالات الأمن وفقًا للطلب

الإسرائيلي ومصالحه المطلقة، وسببًا مُباشرًا في تدمير هياكل المقاومة في الضفة الغربية والسبب المباشر للانقسام. ولا تزال مواقفه سببًا فيما آلت إليه القضية الفلسطينية وتحول الشعب الفلسطيني إلى مجموعات من المتسولين، كل مجموعة إلى طريقتها ووفقًا لأجندات دولية أو إقليمية وذلك كله بسبب سياساته الخرقاء.

إذا كان الاحتلال قد استثمر أقوال عباس للطعن به والطعن بالشعب الفلسطيني سعيًا لتمرير وتبرير جرائمه بحق الفلسطينيين التي باتت راهنًا مُعاشًا، فإن أول من يتحمل هذه المهزلة ونتائجها هم عينة محمود عباس ومن دار في فلكه من الدايتونيين.

في خضم الحملة الإسرائيلية على السلطة وعباس، سارع الجيش الإسرائيلي الذي يقوده غانتس بالدخول إلى مناطق A الفلسطينية وتحديدًا رام الله، وأغلق خمس مؤسسات مدنية بحجة مكافحة الإرهاب باعثًا برسائل عديدة إلى جهات فلسطينية مختلفة فلسطينية.

سقطت سلطة أوسلو اخلاقيًا بعد إذ أحالت الشعب الفلسطيني إلى مجموعات باحثة عن لقمة العيش ، وبعد إذ أغرقته في المديونيات، وسقطت ثانية إذ قاومت كالاحتلال خلايا المقاومة وسامت عوائلهم ولا تزال سوء العذاب. وسقطت ثالثة إذ تواطأت مع الاحتلال، فقتلت العشرات ولاحقتهم وقدمتهم للاحتلال عبر التعاون الأمني الذي تصر عليه مجموعة أبو مازن- ماجد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى