بل أفسد للود قضايا
ليلى غليون
(اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) هذه العبارة يقال إنها تعود للأديب المصري الراحل أحمد لطفي السيد، فغالبا ما نستعملها ونرددها والتي تؤكد على أن الاختلاف في وجهات النظر أمر طبيعي بين البشر وصحي بل وضروري في مسيرة المجتمعات المتقدمة والمتحضرة، ولكن من غير الطبيعي أن يصبح هذا الاختلاف بوابة للخصومات والعداوات والتراشق بالكلمات الجارحة.
فالاختلاف في الرأي من سنن الله تعالى في هذا الكون، يقول تبارك وتعالى: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين)، فلا يمكن جمع الناس على كلمة واحدة أو موقف واحد وذلك لاختلاف عقولهم وطبائعهم لأنها ليست نسخة واحدة، كذلك فتعدد الآراء ووجهات النظر في قضية ما إنما هو أمر إيجابي لصالح هذه القضية حيث تتعدد بذلك أساليب معالجتها وبالتالي تتعدد طرق حلولها مما يجعل الجميع يستفيد من تلك الحوارات والخبرات (هذا في حال لا يتعدى الاختلاف في الآراء الخطوط الحمراء ولا يمس بالمسلمات الدينية والعرفية والثوابت).
ولكن هذه العبارة (اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية) وللأسف نرددها عادة بآلية، حتى إذا دار حوار بيننا، أفرغناها من معانيها الرائعة ليصبح تحقيقها صعبا في واقع صار فيه أي اختلاف في الرأي مهما كان بسيطا وعابرا، يحمل في طياته المدمرات التي تنهار على إثرها العلاقات الإنسانية بأنواعها، فلا تبقي ولا تذر من ود ولا ملح ولا عيش كما يقال. حيث بتنا نشهد انعدام الود مع أي اختلاف في معظم الحوارات وعلى كافة الأصعدة الاجتماعية وحتى الأسرية، لنجد العلاقات الأخوية والصداقة والجيرة والعلاقة بين أفراد الأسرة أو المجتمع تتعرض لهزات حين تختلف وجهات النظر لينحدر فيها النقاش من التحاور إلى التناحر، خاصة منصات التواصل الاجتماعي التي أصبحت ساحات حرب إلكترونية يتراشق فيها المختلفون رأيا بألفاظ سوقية ولغة هجومية قطعت بينهم حبال الود كما أفسدت بينهم كل قضية، فهذا متشنج ومعتد برأيه وغير مستعد ليحيد أو يتنازل عنه حتى لو شعر بقرارة نفسه أنه مخطئ، وذاك يدافع عن موقفه من خلال تسفيه موقف غيره، وآخر يقصي غيره ويسحقه وينعته بأقذع الالفاظ إذا لم يعجبه رأيه ويتوافق معه ليبقي صوته الوحيد على الساحة الحوارية، وقد يصل الأمر لدرجة العداء والخصومة لتتبخر ثقافة الرأي والرأي الآخر، ويسود التعصب والتشنج، وينقلب المتحاورون إلى متناحرين.
يقول المهاتما غاندي: “الاختلاف في الرأي يجب أن لا يؤدي إلى العداء وإلا لكنت أنا وزوجتي ألد الأعداء”. واسمعوا لصوت الفاروق رضي الله عنه وهو على رأس الهرم القيادي وهو يصغي بكليته إلى الرأي الآخر بل يتقبله ويستقبله بكل أريحية ورحابة صدر، بل يدعو الرعية للجهر بالحق إذا وجدوا خطأ أو انحرافا ليقول: “لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا ان لم نسمعها”. لم يأمر رضي الله عنه بضرب عنق من قال له اتق الله يا عمر، ولم يسفه كلامه ولا رأيه، بل سمعه ودعا رعيته لإبداء آرائهم التي يرونها توافق الحق بلا خوف أو وجل. يقول سيدنا عمر رضي الله عنه: “لا تقولوا الرأي الذي تظنونه يوافق هواي، قولوا الرأي الذي تحسبونه يوافق الحق”، إنها العظمة في تقبل الرأي الآخر. والسؤال المطروح: لماذا في الغالب يسود المجتمع مناخ من الخصومة لمجرد اختلاف في الآراء؟ لماذا يثور البعض وقد يصابون بالتشنج عندما لا تتوافق وجهات نظرهم مع الآخرين؟ ولماذا يعتبر الشخص في كثير من الأحيان عدم الاقتناع الآخر برأيه وعدم قبوله بأنه رفض لشخصه هو؟ لماذا في كثير من الحالات يتحول الاختلاف في الرأي إلى الانتصار للنفس وكسب المواقف ليبتعد الحوار من الموضوعية إلى الشخصنة ويتحول من اختلاف بين رأي ورأي إلى خلاف بين شخص وشخص وربما يصل إلى ما هو أخطر من ذلك فقد يتحول إلى عنف يدمر العلائق بين الناس ويزرع فيهم البغض والكراهية؟
فلكل واحد وجهة نظر يراها من زاويته، فإذا اختلفت وجهات النظر، فليس ذلك نهاية الدنيا وبداية الفرقة، فلتكن صدورنا واسعة وقلوبنا أكثر نبضا بالمحبة، نختلف نعم، ولكن بمحبة، نتنازل إذا لزم الأمر، نعتذر إذا بدر منا خطأ فالاعتذار سمة النفوس القوية. ألا يمكن أن نكون كما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: “ألا يستقيم أن نكون إخوانا وإن لم نتفق على مسألة؟”. وما أروع ما قرأت في أدب الاختلاف في موقف حصل بين الإمام الشافعي وبين أحد تلاميذه: “أحد طلاب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى واسمه يونس، اختلف مع أستاذه الإمام الشافعي في مسألة، فقام الطالب غاضبا وترك الدرس وذهب إلى بيته، فلمّا أقبل الليل سمع صوت طرق على باب منزله، قال: فلمّا فتحت الباب فوجئت بالإمام الشافعي، فقال: يا يونس تجمعنا مسائل وتفرقنا مسألة؟ يا يونس لا تحاول الانتصار في كل الاختلافات فأحيانا كسب القلوب أولى من كسب المواقف، يا يونس لا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها فربما تحتاجها للعودة يوما ما، اكره الخطأ دائما، ولكن لا تكره المخطئ، وابغض بكل قلبك المعصية، ولكن سامح وارحم العاصي، يا يونس انتقد القول لكن احترم القائل، فإن مهمتنا أن نقضي على المرض لا على المريض”. وإن كانت هذه الرواية لا سند لها عن الإمام الشافعي رحمه الله إلا أنّ معانيها الرائعة ترتقي بالنفس إلى مدارج العظمة والسمو الروحي والأخلاقي. فأي سمو أخلاق هذا؟ وأي صدر هو أوسع من هذا الكون الرحب هذا؟ وأي نفس علية هذه التي أخرجت هذه الدرر؟ فما أروعها من قواعد ذهبية لو اتخذناها منهجا لكان حالنا غير الذي نحن عليه.



