أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالاتومضات

التصحر الإيماني.. قلوبنا بين التصحير والتخضير

الشيخ كمال خطيب

العارفون بالمناخ والعالمون بدراسة الظواهر والتغيرات التي تطرأ على الأرض، كثيرًا ما يكتبون محذرين من اتساع ظاهرة التصحر والتي تتمثل بازدياد مساحة الأراضي الصحراوية غير الصالحة زراعيًا على حساب الأراضي الزراعية الخضراء، ولعل من أسباب هذه الظاهرة ما هو من فعل الطبيعة، وما هو من تقصير الإنسان متمثلًا بالحكومات والوزارات المعنية، ممّا يعني أن بالإمكان فعل العكس، أي ازدياد اتساع الأراضي الخضراء المزروعة من خلال استصلاح وري مساحات من الأراضي الصحراوية الصالحة للزراعة.

وإن ما ينطبق على الأرض بأن تكون جرداء قاحلة، أو أن تكون خضراء يانعة، ينطبق على قلب الإنسان وإيمانه بأن يكون جافًا أجرد قاسيًا، أو أن يكون خاشعًا عامرًا بالإيمان، وأن بإمكان الإنسان منّا أن يعتمد سياسة التخضير الإيماني التي هي في الحقيقة جعل القلب أبيض، أو أن يعتمد سياسة التصحير الإيماني التي هي في الحقيقة جعل القلب أسود، ومرد ذلك إلى الأعمال الصالحة أو الذنوب بقلعها، وفي هذا يقول النبي ﷺ: “تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادًا لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه”، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كذلك: “ما من القلوب قلب إلا وله سحابة كسحابة القمر، بينما القمر يضيء إذ علته سحابة فأظلم ثم أضاء إذا تجلت”.

نعم، هكذا يكون حال القمر لمّا يغطيه السحاب الأسود حسب صغر السحابة وكبرها، وهكذا يكون حال بياض القلوب وسوادها بحسب الذنوب التي نفعلها صغيرها وكبيرها.

تصور نفسك وبين يديك ورقة بيضاء وأنك كلما أذنبت ذنبًا غطيت باللون الأسود خمسة ملمترات من هذه الورقة البيضاء، فإن استمرار الذنوب يعني اتساع مساحة السواد على الورقة البيضاء، بينما كلما عملت طاعة وأديت عبادة مسحت خمسة ملمترات من المساحة السوداء فعادت إلى البياض.

نعم، إن كثرة الذنوب وعدم ري القلب بالطاعات والجرأة على المعاصي يعني اتساع مساحة السواد في قلبك على حساب البياض، تمامًا مثلما أن إهمال الأراضي وعدم ريها بالماء وعدم زراعتها بالأشجار المثمرة النافعة يعني اتساع مساحة الأرض الصحراوية على حساب الأرض الخضراء، وإن عدم قيام المؤسسات المعنية بإجراء التقييم والمسح المستمر الدائم والمراجعة الجدية ووضع الخطط المناسبة، سيجعل ذوي الشأن يستيقظون على حقيقة مرة مفادها تصحر جميع الأراضي، حيث يصعب بعد مرور الزمن العودة بها إلى حالتها الطبيعية وإن عدم قيام كل إنسان منا بإجراء مراجعة ذاتية ومحاسبة شخصية وتقييم جريء لنفسه يتمثل بنقد ذاتي ومقارنة لما كان عليه من قبل ومنذ سنوات من قيام بالطاعات، ولما هو عليه اليوم، إن عدم القيام بهذا يعني الاستيقاظ على حقيقة مرة مفادها قسوة قلوبنا وجفافها، لا بل موتها وتصحرها وهيهات هيهات عند ذلك {…فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ ۚ”} الزمر 22.

فتعال أخي الحبيب.. وتعالي أيتها الأخت الفاضلة لنتجول معًا في عملية مسح ميدانية لقلوبنا لنعرف حقيقة الذي نحن عليه حتى يمكننا التصليح والتصحيح والعودة إلى ما يتطلب أن نكون عليه قبل فوات الأوان.

إذا كنت أخي الحبيب قبل سنوات وبالذات في بداية سنوات التزامك ممن يحافظ على صلوات الجماعة في المسجد، فما أن تسمع النداء حتى تهب مسرعًا إلى بيت الله عز وجل، بينما تجدك اليوم ترتاد المسجد مرة في اليوم أو مرتين، لا بل ينادي المؤذن وأنت جالس أو متشاغل إما بمجلس لهو أو حول ذلك، أليست هذه علامة تصحر إيماني عندك؟

إذا كنت في بداية سني التزامك ممن يحافظ على صلاة الفجر في المسجد، بينما أنت اليوم لا ترتاد المسجد إلا فجر الجمعة، وأحيانا يمر الأسبوع والأسبوع وأنت لا تصلي إلا في بيتك، وأحيانا بعد طلوع الشمس، أليس هذا علامة قحط وتصحر خطير عندك؟

إذا كنت في بداية سني التزامك ممن يحافظ على صيام الاثنين والخميس، بينما أنت اليوم لعلك تصوم يومًا في الشهر ولعلك لا تصوم أبدًا إلا في رمضان أليس هذا مظهرًا من مظاهر التصحر الإيماني في قلبك؟

إذا كنت أخي الحبيب وأختي الفاضلة في بداية سني التزامك تقرأ جزءًا من القرآن كل يوم، كما هو الأفضل والأنفع، وبدأت تتراجع حتى بت تقرأ نصف جزء أو ربع جزء، ولعل منّا من يقرأ يسير القرآن كل بضعة أيام، أليس هذا مشهدًا من مشاهد التصحر السريع والخطير جدًا؟

اذا كنت أخي في بداية سني التزامك تحافظ على أذكار الصباح والمساء، وأذكار المناسبات التي علمنا إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنت تداوم على قراءة ورد المأثورات، بينما أنت اليوم لعلك تذكر فقط أذكار الطعام، بل ولعلك تنساها في أحيان كثيرة، أليس هذا اجتياحًا صحراويًا خطيرًا لقلبك الأخضر؟

إذا كنت أخي في بداية سني التزامك تقرأ في الأسبوع، أو قل في أسبوعين، أو حتى كل شهر كتابًا نافعًا بينما أنت اليوم تمر عليك الأشهر المعدودة، لا بل قد يمر العام كله وأنت لا تقرأ كتابًا كاملًا واحدًا، وتبرعت بسخاء بتلك الساعات التي كنت تقضيها مع الكتاب للتلفزيون ومحطاته الفضائية العشرين العربية، ولعلها الأربعون “الأجنبية” بكل ما فيها – وأنت تعلم ما فيها، لا بل إن ليلك ونهارك أصبحت تقضيه وأنت تقلب صفحات التواصل على هاتفك النقّال فلا تمر شاردة ولا واردة إلا وتعرفها مع أن كثيرًا منها هو الزبد الذي لا قيمة له، أليست هذه عاصفة صحراوية تجتاح قلبك؟ فاتق الله أخي.

إذا كنت أخي في بداية سني التزامك إذا وقع بصرك على حرام ،كأن تنظر إلى امرأة أو فتاة، فكنت تغض بصرك مستغفرًا متذكرًا قول الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} النور 30. بينما أنت اليوم لا تفعل ذلك وتعيد النظرة الحرام دون أن تلسع قلبك حرارة هذا الإثم، فهل غاب الله سبحانه الذي كنت تخشاه أليس هذا من مظاهر تصحرك الإيماني؟ فاتق الله أخي.

إذا كنت أخي في بداية سني التزامك إذا رأيت من أخيك أمر سوء، أو سمعت منه خطأ، أو عرفت عنه فعلًا منكرًا فكان موقفك إما نصحًا أو سترًا، فما بالك اليوم تتبع عيوب إخوانك فتشيع الفاحشة وتهتك الستر وتلهب ظهورهم وأعراضهم بسياط لسانك الطويل الذي لا يتقي الله؟ فانظر إلى نفسك جيدًا لتعرف مقدار الانحراف الذي طرأ عليك ومقدار السواد الذي علا قلبك والتصحر الذي حل به.

إذا كنت أخي في بداية سني التزامك تحب لله وتكره لله، وتصل لله وتقطع لله وتعطي لله وتمنع لله، وكنت لا تشارك في مناسبات فيها شبهة، ولعل الحرام فيها بارز واضح، كالأعراس التي فيها مظاهر الفساد والمعصية وغيرها، ترى فإذا أصبحت اليوم تشارك وبدون تردد، لا بل وتتقدم الصفوف ولا يحلو لك إلا مجالسة البطالين، فسل نفسك من الذي تغير، هم أم أنت؟ أليس هذا من علامات التصحر الإيماني الذي يعتريك؟

إذا كنت أخي في بداية سني التزامك تكثر من زيارة إخوانك في الله ممن أحببتهم وأحبوك وتصلهم ويصلونك وتعتبرهم إخوتك قبل إخوتك في الرحم، ترى فإذا جفت الصلات وانقطعت حبال الود وبت لا تلقاهم إلا في المناسبات والمجاملات المتباعدة، أليس هذا من علامات التصحر الإيماني الذي يشكل خطرًا عليك؟

إذا كنت أخي في بداية سني التزامك وكنت متزوجًا، فإنك كنت تحرص على اصطحاب أولادك إلى المسجد وتربيتهم التربية السليمة وكذلك بناتك، فكنت تأتمر بأمر الله عز وجل بأمرهن بالحجاب، ترى فإذا أصبحت اليوم تأتي إلى المسجد وأولادك خلفك في البيت لا يأتون، وإذا باتت اليوم بنتك تخرج من البيت بغير حجاب وزوجتك المحجبة تضع المكياج فتمسخ الحجاب وحكمته وأنت راض غير مكترث، أليس هذا من علامات زلزال غيّر معالم قلبك وقلب موازينك كما يقلب الزلزال والهزة الأرضية المكان من الأرض فيجعل عاليها سافلها؟

إذا كنت أخي في بداية سني التزامك ممن تنام وتستيقظ على هم الدعوة والتفاني في سبيلها وتقديم المال والوقت والجهد لها، تجعل من نفسك سهمًا في جعبة الدعوة وعودًا في حزمتها، لا تريد لنفسك من أمر الدنيا شيئًا.. ترى فإذا أصبحت اليوم تتهرب من أبسط تكليف، وتتقاعس عن أسهل مهمة، وتتذرع بأتفه الأسباب وتتطلع من وراء أي عمل تعمله عن النتيجة والدور واللقب والمكانة الدنيوية والمنصب وإلا فلا عمل. لماذا كنت في بداية التزامك الدعوي تحرص على أن تحمل وترفع الدعوة على ظهرك وكتفيك، بينما أنت اليوم تريد أن تطلع وتتسلق على كتف الدعوة، وقد قال داعية سوري صادق عن الفارق بين الصادقين وبين المتسلقين “حُط كتفك وارفع وليس حُط رجلك واطلع”، بربك أليس مثلك يُبكى عليه لأن قلبك يوشك أن يموت وليس فقط أن يتصحر؟

إذا كنت أخي الحبيب في بداية سني التزامك ممن إذا ذكر الله عز وجل ، وجل قلبه، وإذا ذكر اسم الحبيب محمد ﷺ دمعت عينه، ترى فإذا أصبحت اليوم لا قلب يخشع ولا عين تدمع، ألا يعني ذلك أنك تعيش مواسم الجفاف وسنين مثل سني أحلام الملك التي فسرها يوسف عليه السلام، فكن أنت يوسف أحلامك يا أخي وحصن نفسك قبل أن يتشقق القلب من قلة ماء التقوى، نعم اسق قلبك من دمع عينك يا حبيب.

إذا كنت في كلامي هذا قد خصصت الأخ الذي أكرمه الله تعالى بالهداية منذ زمن فقسا قلبه، فماذا عساك تقول أيها الأخ الجديد؟ لعلك تقول لست المعني بهذا الكلام فتطمئن وتطمئن نفسك أنك على خير. لا وألف لا فإنها مسيرة القلوب لا تكاد تختلف، فاروِ قلبك واسقهِ، وحافظ على ذلك وداوم عليه.

اسقه من دموع العين في جوف الليل، وعرق الجسد يتصبب منك في سبيل الله سبحانه في وضح النهار حتى يظل قلبك مع الله سبحانه فلا يسود ولا يقسو، وإذا كنت في كلامي هذا قد عممت، فإني أخصص حديثي وكلامي لكل أخ في موقع المسؤولية سواء كان إمامًا أو داعية أو مسؤولًا دعويًا في أي موقع كان، بضرورة أن يعرض نفسه على ما ذكرت من نماذج التصحر الإيماني، فإن كان على عكس ما ذكرت فليحمد الله عز وجل، وإلا فالبدار البدار في عملية تخضير سريعة، لأنك إن لم تفعل ذلك مع نفسك أخي فكيف تقدر على فعله مع إخوانك؟ وإذا كان قلبك مثل البيداء فكيف تعيب من كان قلبه مثل الصحراء، ففاقد الشيء لا يعطيه. فاتق الله وجدد إيمانك قبل أن تصبح قدوة سيئة فتنظر من حولك فلا تجد أحدًا من إخوانك.

نعم أيها الدعاة… أيها الوعاظ عذرًا عذرًا:

يا شيوخ الدين يا ملح البلد من يصلح الملح إذا الملح فسد

نعم أيها الأخ الحبيب، نعم أيتها الأخت الفاضلة، نعم أيها الإخوة جميعًا، قيّموا أنفسكم من خلال ما ذكرتكم به، وهناك مظاهر للتقصير لم أذكرها وأنتم أعلم بأنفسكم مني ومن الخلق جميعًا، فاجمعوا مظاهر التقصير هذه بعضها إلى بعض ليتبين لكم مساحة الزحف الصحراوي على قلوبكم ومقدار الخطر الذي يداهمكم، وهل هكذا كنتم وهل هكذا كانت مساحة التصحر في قلوبكم منذ سنوات.

ترى، فإذا كانت قلوبكم تشهد هذا التصحر الإيماني فليس المطلوب إلا وقفة صدق مع الله سبحانه ومع أنفسكم

وتوبة صادقة وندم على ما فات واستغفار من الجليل سبحانه، ثم عزم أكيد على عدم العودة إلى ما سبق من مظاهر التقصير وفعل الذنوب.

فأوقفوا هذا التصحير وقابلوه بعملية تخضير واسعة النطاق، تتمثل بالتزام الجماعة والعمل الإسلامي مع إخوتكم أبناء دعوتكم، وأوصلوا يومكم وليلكم بالطاعات التي تمثل كل واحدة منها غرسة يانعة في صحرائكم القاحلة، وأوصلوا قلوبكم بروافد الإيمان والخير تسقي ما تزرعون، كما تسقي روافد الأنهار والقنوات الأشجار التي تزرعون بالصحراء.

ولأننا يوم أمس الخميس كنا مع أول أيام فصل الشتاء، فإنه الشتاء ربيع المؤمن كما قال فيه ﷺ: “الشتاء ربيع المؤمن طال ليله فقامه وقصر نهاره فصامه”. فلنجعل من الشتاء عبر كثرة الصيام والقيام والقربات موسمًا لتحضير القلوب ومواجهة مظاهر التصحير التي أصابتها، وقد كان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: “مرحبًا بالشتاء فيه تنزل البركة، يطول فيه الليل للقيام ويقصر فيه النهار للصيام”.

افعلوا هذا كله واغتنموا فصل الشتاء واستعينوا بالله الجليل، وقفوا على بابه قائلين: “يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك.. يا مصرف القلوب صرف قلوبنا عن معاصيك.. اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان… اللهم إنا على بابك فلا تطردنا من رحابك .. اللهم يا دليل الحيارى دلنا على ما فيه قربنا منك، اللهم إنا نسألك قلوبًا خاشعة وعيونًا دامعة وألسنة ذاكرة.. اللهم إنا نسألك رضاك والجنة ونعوذ بك من سخطك والنار… اللهم آمين”.

 

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة

والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى