موقع البلاخية في غزة يحتضن أقدم ميناء عرفه التاريخ
يحتضن موقع “البلاخية” أو ما يعرف باسم ميناء “أنثيدون” الواقع شمال غربي مدينة غزة أهم وأقدم ميناء بحري، يعود تاريخه إلى 800 سنة قبل الميلاد وقد كان نقطة التواصل بين غزة وأوروبا.
وظل هذا الميناء ولسنوات طويلة محطة مهمة لتجار غزة وقد تميزت به المدينة الساحلية وكان أحد أبوابها الثمانية قبالته.. إلا أن قوات الاحتلال الإسرائيلي بعد احتلالها لقطاع غزة عام 1967م عطلته وحولت بحرها إلى منطقة عسكرية مغلقة وكانت هناك محاولات لإعادتها في ظل السلطة الفلسطينية لكنها دفنت في المهد.
يقول الدكتور عبد القادر حمّاد الأستاذ في جامعة الأقصى والباحث والخبير في السياحة الفلسطينية: “يقع موقع البلاخية أو ما يعرف باسم ميناء أنثيدون على بعد 6 كم تقريبا شمال غربي مدينة غزة القديمة، ويغطي مساحة تقدر بكيلومتر مربع تقريبا تشمل الجزء الشمالي الغربي من مخيم الشاطئ للاجئين والمنطقة الساحلية المجاورة له والمعروفة باسم منطقة المشتل حتى حدود الشارع الذي يربط منطقة الشيخ رضوان بشارع البحر، ويرتفع الموقع عن مستوى سطح البحر بمسافة تتراوح ما بين 17 و20 مترا.
ويضيف حمّاد في حديث صحفي: “يقع ميناء الأنثيدون على بعد كيلومتر واحد إلى الجنوب من ميناء مايوماس القديم والذي عرف فيما بعد بأنه ميناء غزة وكان مأهولا بالسكان بصورة دائمة، وأصبح مدينة ساحلية مزدهرة ومتطورة خلال الفترة الرومانية”.
وأوضح أنه ورد ذكر ميناء مايوماس فقط في المصادر الكلاسيكية المتأخرة والتي يعود أقدمها إلى فترة مبكرة من بدء تجارة مدينة غزة مع اليونان، ويأتي أصل كلمة مايوماس من كلمة مصرية، ومعناها “المكان البحري”.
وأشار حمّاد إلى أن الموقع هو أول ميناء بحري معروف في غزة، وقد ذكر في الأدبيات الإسلامية تحت اسم “تيدا”، موضحا أن مدينة غزة كانت مأهولة بالسكان منذ عام 800 قبل الميلاد إلى عام 1100م، وشهدت تعاقبا لسلسلة من الحضارات المختلفة ومنها: الآشورية الحديثة والبابلية والفارسية واليونانية والرومانية والبيزنطية والإسلامية المبكرة (الأموية والعباسية والطولونية والفاطمية).
وأكد أنه لم يتم تحديد الموقع الأثري لميناء أنثيدون القديم بصورة دقيقة، ويُنظَر للعديد من التلال الأثرية الواقعة في أحياء مدينة غزة المختلفة على أنها الميناء القديم. ورغم ذلك، فإن موقع ميناء أنثيدون على الأرجح، هو تلة تقع إلى الشمال من قطاع غزة، وتُعرف لدي السكان المحليين باسم “تيدا”. وقد عرف ميناء الأنثيدون باسم “تايدا” في العصور الوسطى.
وحذر الباحث في السياحة من أن المد الحضري والعمراني يهدد الموقع ويحاصره من جميع الجهات، كما أن الجزء الغربي المواجه لشاطئ البحر يتعرض لعوامل انجراف مياه البحر له بسبب تغييرات حدثت في المنطقة بسبب بناء وردم رصيف ميناء للصيادين على بحر مدينة غزة.
ومن جهتها أوضحت الباحثة في التاريخ والآثار هيام البيطار أن تسمية موقع “البلاخية” ينسب إلى منطقة البلاخية على ساحل البحر الأبيض المتوسط والتي تقع على بعد 6 كم شمال غربي مدينة غزة.
وقالت البيطار في حديث معها: “كان يطلق هذا الاسم (البلاخية) على واحد من أبواب مدينة غزة الثمانية باب البَلاخية “Bab El – Balachiyeh” ويقع في الركن الشمالي الغربي من المدينة المؤدي إلى منطقة البَلاخية”.
وكلمة بَلاخية كلمة عربية من الجذر بَلَخَ وتعني بصيغة البُلاخية بالضم “العظيمة في نفسها” أما بصيغة البَلَخية محركة فتعني “شجر يعظم له زهر حسن كزهر شجر الرمان، وهناك رأي آخر يقول بأن أصل كلمة البلاخية يوناني، مشتقة من كلمة بلاخوز، أو بلاخيوس وتعني البدو أو مضارب البدو، ومعنى الاسم الأخير يقترب كثيرا من معنى اسم الموقع (أنثيدون) في فترة انتشار الثقافة اليونانية، وكلمة أنثيدون (Anthedon) كلمة يونانية الأصل تعني الزهور، لا سيما زهور فاكهة الأسكدنية التي تشتهر بها مدينة أنثيدون على ساحل منطقة إيروبي Euripei، في بلاد اليونان نفسها، وهي الكلمة التي اشتقت منها كلمة أوروبا Europe فيما بعد، ومن معاني كلمة أنثيدون أيضا كما وردت في المعجم اليوناني نحل العسل ومن المعروف أن النحل يقتات على رحيق الزهور.
وأوضحت البيطار أن هذا الاسم “أنثيدون” أطلق على ميناء غزة عندما وسع تجار غزة من نطاق ونفوذ تجارتهم في حدود القرن الخامس قبل الميلاد وتطوير علاقاتهم التجارية مع تجار بلاد اليونان الذين بدورهم قد أسسوا مستوطن تجاري لهم وأصبح المكان ينسب إلى اسمهم الذين على ما يبدو كان معظمهم من تجار مدينة أنثيدون في بلاد اليونان.
وأكدت أن الاحتلال الفارسي الإخميني ( 539 ـ 332ق.م ) شجع أهل غزة وحثهم على توسيع نطاق تجارتهم لاسيما مع بلاد اليونان ومنحوا المدينة استقلالا ذاتيا وازدهرت ازدهارا كبيرا، حيث سكت لنفسها عملة خاصة بها، مما يؤكد انتعاشها واستقلالها الاقتصادي في هذه المرحلة.
وعن أبرز الأحداث التاريخية التي مرت على موقع البلاخية أوضحت البيطار أن الموقع عاصر انقسام الإمبراطورية اليونانية بعد موت الإسكندر الأكبر، وانقسام دولتهم إلى دولة البطالمة في مصر، والسلوقيين بالشام، مشيرة إلى أن ذلك يؤكد عل الأهمية الإستراتيجية للموقع، حيث أصبح حلقة الوصل بين الشام ومصر سواءً من الناحية العسكرية أو التجارية.
واعتبرت هذا الموقع بأنه من أقدم الطرق الرومانية، والذي كان يربط القواعد العسكرية الرومانية في أنطاكيا في سوريا، وقاعدة الرومان في الإسكندرية، وكان ذلك في عهد الأمبراطور يوليوس قيصر.
وقالت البيطار: “مرّ عن هذا الميناء في عام 69م، القائد الروماني تيتس (Titus)، أثناء قدومه من مصر إلى فلسطين، واستخدم هذا الميناء لمرور القوافل التجارية التابعة للأنباط خلال وقبل سقوط البتراء عاصمة الأنباط العرب، تحت قبضة الرومان سنة 106م، وهذا يدل عليه ما تم اكتشافه من فخار نبطي في البلاخية”.
وأضافت: “انتعشت غزة وميناؤها مرة أخرى سنة 129م، عندما قام الإمبراطور هادريان بزيارتها، وتم اعتبار هذه الزيارة بداية التقويم الغزي ( الهدرياني) تكريماً له، حيث تم في عهده ضرب وصك العملة في غزة، وجعل من غزة مدينة للعبادات الوثنية”.
وأكدت على أن نتائج التنقيب في الموقع والتي أُجريت بالتعاون بين وزارة السياحة والآثار الفلسطينية ومدرسة الآثار الفرنسية في القدس عام 2010م كشفت عن الكثير من الأمور في هذا الموقع ومن أهمها سور مدينة مبني بالطوب اللبن يعود تأريخه إلى العصر الكنعاني (العصر الحديدي الثاني، القرن الثامن ق. م) في ضمن أقدم طبقة أثرية عثر عليها بالموقع، وهو مزامن لفترة السيطرة الآشورية على المنطقة ويستمر وجود الطبقات الأثرية لتشمل معظم المراحل التاريخية حتى مرحلة السيطرة البيزنطية.
وقالت البيطار: “أثبتت التنقيبات الأثرية أن موقع البلاخية قد امتد وتوسع باتجاه الشمال، وتشير المخلفات الأثرية المنتمية إلى مرحلة السيطرة الفارسية فاليونانية الهلنستية إلى ازدهار اقتصادي كبير قد حدث في المكان لا سيما في حدود القرن الخامس ق.م، حيث بدأت تعرف باسم أنثيدون بعد أن أنشأ التجار اليونان مستوطن تجاري لهم في المكان حمل اسمهم في ميناء غزة كنتيجة طبيعية لتوسيع وتنشيط التجارة مع بلاد اليونان. ويتوافق ذلك مع المصادر التاريخية التي تحدثت عن الغنائم الكبيرة التي حصل عليها الإسكندر المقدوني (الكبير) عندما سيطر على غزة وميناؤها عام 332 ق.م، حيث أرسل إلى بلاده كميات كبيرة من البخور والتوابل والعطور التي غنمها من غزة”.
وأضافت: “كما أثبتت التنقيبات عن وجود أرضيات فسيفسائية ملونة بألوان جميلة وزاهية، تشير إلى تصوير الحياة الاجتماعية والزراعية والطبيعية في مدينة غزة، وتلك الأرضيات تعود إلى الفترة الرومانية في مدينة غزة”.
وأوضحت أنه نتجت الحفريات الكشف عن مخلفات أثرية وبقايا لأواني وأواني فخارية كثيرة ومتنوعة، وبواقي هياكل عظمية بشرية وحيوانية، إضافة إلى قطع نقدية متنوعة تعود إلى فترات تاريخية مختلفة تركتها حضارات سكنت مدينة غزة، وكان لها في موقع البلاخية الشأن الكبير، منها الحضارة اليونانية الهلنستية، والرومانية، والبيزنطية، والإسلامية، وتميزت تلك اللُقى الأثرية الهامة.
وشددت على أن المخلفات الأثرية تعبير مادي لا يمكن تجاهله عن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمدينة غزة خلال تلك العصور القديمة، كما أنها تدلل على وجود حضارات سكنت فلسطين، في الوقت الذي يحاول فيه الاحتلال الإسرائيلي طمس وتدمير وتزوير الآثار الفلسطينية.
وأكدت أنه تم خلال الحفريات التي أجريت في الموقع ذاته، تقسيمه إلى عدة حقول للتنقيب فيه، والتي تحدد هذا الموقع بالضبط ودوره التاريخي واهم المواد الاثرية فيه.
وقالت: “أظهرت التنقيبات بوجود طبقة من الرمل النظيف تفصل ما بين طبقة العصر الحديدي الثاني وما بين الطبقة الفارسية (العصر الحديدي الثالث) وهي تشير إلى ترك المكان وتخريبه، وأغلب الظن أنه قد حدث ذلك على يد الملك البابلي نبوخذ نصر عندما قام بالسيطرة على المنطقة بعد تدميره لمدينة عسقلان وذلك لوقف تدخل الدولة القديمة المصرية في غزة، وهي تكشف عن معالم المرفأ التاريخي لمدينة غزة في العصر الكنعاني (الحديدي الثاني)”.
وأضافت: “كما أظهرت التنقيبات عن كم كبير من الفخار اليوناني عثر عليه في هذه الطبقة مما يشير إلى استئناف وتنشيط العمل في هذا الميناء لاسيما مع بلاد اليونان بعد أن شجع الفرس الاخمينيون تجار غزة على توسيع نطاق تجارتهم لاسيما مع بلاد العرب وبلاد اليونان وازدهرت المنطقة في تلك الفترة ازدهارا كبيرا”.
وأوضحت الباحثة في التاريخ والآثار أنه عثر في هذا الموقع على سور مدينة يعود إلى الفترة الهلنستية المتأخرة (الرومانية المبكرة) مبني بالطوب اللبن طول ما اكتشف منه 53م وعرضه 2.45م يتخلله برجان الأول في الجهة الجنوبية وهو أصغر حجما من الثاني الذي يقع في الجهة الشمالية، على الأغلب أن يكون أحد برجي بوابة المدينة الشرقية.
وقالت: “عثر شرقي هذا السور على منزل لأحد الأثرياء في ضمن طبقة أثرية أقدم من طبقة بناء السور السابق الذكر، وهو قصر كان يسكنه على الأغلب شخص من كبار نبلاء مدينة أنثيدون، ويتميز هذا القصر (فيلا ) بمساحته الكبيرة 19.70م × 16.20م، وتنوع مرافقه الخدمية، كما يتميز أيضا بجدرانه الداخلية المغطاة بقصارة من الجبس الجداري الملون بعدة ألوان زاهية حيث نفذ الفنان باستخدام الألوان الأحمر والأسود والأصفر والأزرق والأبيض أشكالا زخرفية هندسية عبارة عن أفاريز وألواح جبسية ملونة غاية في الدقة والإبداع الفني، وهي تسمى بعلم الآثار بـ (الفريسكو)”.
وأشارت إلى أنه في طرف سور المدينة الشمالي عثر على برج آخر أكبر وأضخم من البرج الأول الذي يتخلل سور المدينة، موضحة أن كبر حجم هذا البرج يفسر بأنه برج لحماية أحد أبواب المدينة، مما أضاف أهمية أثرية لهذا الموقع كنموذج للتسلسل الحضاري عبر مراحل تاريخية مختلفة.
وقالت: “إن الدور التاريخي والاقتصادي الذي أدته المدينة القديمة خلال مشوارها الطويل في تاريخ المنطقة يدلل على أهميتها كحصن دفاعي أول لمدينة غزة وكشريان اقتصادي هام لها”.
وأهابت البيطار بكل القوى الثقافية والأكاديمية بضرورة بذل الجهد الأكبر من أجل حماية هذه المدينة من خلال الحفاظ على هذا الموقع الهام وتطويره بوصفه صرحا تراثيا هام في ضمن سجل الموروث الثقافي للشعب الفلسطيني، كما أنه يوجد تراث أثري مغمور بمياه البحر، يجعل هذا الموقع موقعاً ممتازاً للترشيح لقائمة التراث العالمي.
ومن جهتها أكدت الكاتبة والصحفية مدلين خِلية على أهمية الحفاظ على هذا الموقع التاريخي والحضاري لإبراز دوره كموقع أثري هام ليس في غزة وحدها بل في فلسطين عامة وجمعها سواء كانت قطع أثرية منقولة، أو عمائر ثابتة اكتشفت فيه.
وقالت خِلة في حديث معها: “للأسف فان المد الحضري والعمراني بات يهدد الموقع ويحاصره من جميع الجهات، كما أن الجزء الغربي المواجه لشاطئ البحر يتعرض لعوامل انجراف مياه البحر له بسبب تغييرات حدثت في المنطقة بسبب بناء وردم رصيف ميناء للصيادين على بحر مدينة غزة”.
وأضافت: “هذا الموقع بحاجة إلى تطوير لأنه مهم من الناحية التاريخية إلى جانب أنه يشرف على شاطئ البحر مباشرة، وتحويله إلى موقع سياحي مهم جداً”.
وشدد خِلة الضرورة المُلحة في توقيع حدود موقع البلاخية جميعها من كافة الجهات، فهناك عدة أساسات معمارية تقع في جهات مختلفة ومتطرفة على مساحة الموقع كلها.
وطالبت بعدم المساس بالمنطقة المحاذية لشاطئ البحر، والتي قد يتم إغفالها دون قصد، بسبب عدم الدراية فيها، حيث أن تلك المنطقة هامة جداً وتحتوي على أساسات لأشكال معمارية مختلفة كانت قائمة خلال الفترة الرومانية التي بدأت في غزة منذ عام 63 ق.م.
وشددت على ضرورة عدم المساس بالسور المحاذي لموقع البلاخية، فهو يتضمن ملاحق لبوابة الميناء بكافة تفاصيلها، وهي هامة جداً لإبراز مدى القيمة الحضارية وبالتالي القيمة الاقتصادية التي تمتعت فيها مدينة غزة في الفترة اليونانية والرومانية، وضرورة الحفاظ على المناطق التي تحتوي على أرضيات فسيفسائية كانت تنتمي للفترة البيزنطية، والرومانية فهي تفسر كافة أشكال الحياة الاجتماعية في غزة في تلك الفترات.
وطالبت الكاتبة والصحفية بالتواصل مع كافة الجهات المعنية سواء الرسمية أو غير الرسمية، وإخبارهم بالأهمية التاريخية والحضارية التي يتمتع فيها موقع البلاخية.
ودعت وسائل الإعلام على التركيز على هذا الموقع وأهميته، مشيرة إلى أن الاحتلال أول من تيقن لأهمية هذا الموقع وحاول طمسه ومنع إقامة ميناء فلسطيني جديد في غزة عام 1998م على الرغم من وضع السلطة الفلسطينية بالتعاون مع الحكومة الهولندية آنذاك قواعده.
وطالبت وسائل الإعلام بتحري الدقة والحذر في إطلاق مسمى “ميناء غزة” على مرافئ الصيادين المنتشرة على طول ساحل قطاع غزة لنوصل رسالة للعالم انه لا يوجد ميناء لغزة.
وأشارت إلى أن سفن كسر الحصار التي كانت تصل إلى غزة كانت تفرغ حمولتها من بضائع وركاب في عرض البحر من خلال قوارب صغيرة كانت تنقلهن إلى الشاطئ حيث أن هذه السفن الكبرى لا يمكنها الوصول إلى الساحل لعدم وجود ميناء.
واعتمدت لجنة التراث التابعة لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة تسجيل موقع البلاخية من المقدرات التراثية المادية وغير المادية، كالمواقع التراثية، والعادات، والتقاليد الفلسطينية، على اللائحة النهائية للتراث في العالم الإسلامي.