أخبار عاجلةمقالاتومضات

العسكر الذي لا يُقهر

ليلى غليون
لقد سلكنا طريق الدعوة إلى الله عز وجل طائعين له سبحانه بثقة واطمئنان، ذاك الطريق الذي وضحت معالمه بعد أن بين لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خارطته، وأبصرنا منذ البداية أن هذا الطريق لن يكون في يوم من الأيام مفروش بالفل والريحان، ولكننا ارتضيناه طامعين بالتجارة الرابحة والصفقة التي لا خسارة فيها (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة).
ومع علمنا أن الطريق وعر ومحفوف بالعقبات والمكاره، بل هو طريق طويل المدى، إلا أن يقيننا أعظم أن هذا هو الطريق ولا طريق سواه، وهو الذي سيؤدي بنا في نهاية المطاف عاجلا أم آجلا إلى المقصود والمرتجى بإذن الله تعالى، الأمر الذي يحتاج منّا إلى تعبئة ووقود وهمة وعزم وتوكل وقبل كل شيء تثبيت ومدد من الله عز وجل (فإذا عزمت فتوكل على الله).
إن دعوتنا والسالكين في دربها على مرّ الأزمنة والعصور عاشوا ولا يزالون في قلب الحوت، تحيطهم نيران النمرود، يواجهون أعتى الطغاة، فالطغاة هم الطغاة وإن اختلف الزمان والمكان، فالنمرود وأبو جهل وأمية بن خلف وأبو لهب وغيرهم، لا يخلو زمان ولا عصر من أمثالهم ممّن لا تغمض لهم عين ولا يهدأ لهم بال وهم يدبرون بليل بهيم ويكيدون للنيل من هذا الدين وأتباعه.
ما أجهلهم، بل ما أغباهم حين يحاربون الدين في أشخاص أتباعه، لقد غاب عنهم أن هذه الدعوة فكرة راسخة كالطود العظيم، وما كانت أبدا دعوة أشخاص تموت بموتهم، وتحظر بحظرهم، وينتهي أمرها بسجنهم، فالقافلة ستبقى تسير ولن يوقف زحفها معترض لأنها تسير على عين الله وباسم الله فلا خوف عليها، إنما الخوف كل الخوف أن تضطرب النفوس وتميد وتتزلزل إذا ما حدثت الزلازل الخارجية.
فما أحوجنا إزاء هذا الظلم الواقع علينا إلى الثبات ثم الثبات، ما أحوجنا في هذا الظرف العصيب إلى الصبر والمصابرة واليقين الجازم أن بعد هذا العسر يسرا.
ما أحوجنا ان تظل العزائم فولاذية والهمم عالية تناطح السحاب في عليائها.
ما أحوجنا أن تظل قلوبنا جميعها على قلب رجل واحد مترفعة عن الخلاف والشقاق وما يفرق الصف ويبعثر حروف الكلمة.
ما أحوجنا إلى أخوّة مثل أخوّة المهاجرين والانصار دون ارتباط بنسب أو مال أو مصلحة، هؤلاء الذين وعوا فقه المرحلة أنه لن تكون لهم هيبة ولا شوكة إلا إذا تجذّرت الأخوّة في أغوار وجدانهم، فالأخوّة ليست كلمة تقال ولا شعارا يرفع، ولكنها حب في الله ولله متجرد عن حظوظ النفس والمصالح الذاتية الزائلة.
إنها التناصح والتواصي بالحق بالصبر، إنها تصفية للأحقاد وتصفية للأنا وترسيخ للحب والتسامح.
إنها نصرة المرء لأخيه ظالمًا كان أو مظلوما يكون له كالمرآة النقية الشفافة يهدي له عيوبه كما سماها ووصفها الفاروق رضي الله عنه، فيتقبل هذه الهدية بروح طيبة، بل ويستعظمها فيدعو لأخيه بالرحمة والمغفرة أن بصّره بعيوبه ومسح الغبار عن بصيرته فيسارع بإصلاح نفسه.
أليس جمال العيش بقلوب صافية تبحر فيها سفن الخير وقوارب الأخوة الفياضة؟
أليس روعة العمر بأرواح تحلق في سماء الأخوة والمحبة تقطف من نجومها وكواكبها أجمل الزهرات فتنثر عبيرها على أجنحة مكسورة فتجبرها، وعلى نفوس مكلومة فتبرئها، وعلى عيون من الأحزان دامعة فتمسح دمعاتها؟
أليس جنة الدنيا بإخوان امتزجت نفوسهم وأرواحهم وقلوبهم، فتنفسوا بشهيق وزفير واحد ونبضت صدورهم بقلب واحد، وفاضت بمشاعر واحدة؟
فما أجمل الحياة، بل ما أوسعها بل ما أزينها حين تجتمع القلوب على محبة الله وتتآلف حتى لو لم تلتق الأبدان، حتى لو لم تتعارف لتجري قوارب الأخوة الخالصة في مياهها العذبة بهدوء تمتد فيما بينها حبال الله المتينة …حبال المودة والأخوة الطاهرة.
إنها الأخوّة في الله مجالها فسيح… فسيح جدا، وأرضها شاسعة لا تحدها حدود، عقدها متين لا تنفصم عراه، فليس أجمل ولا أغلى عند المؤمن بعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم من أخ صادق صدوق تتوقد في قلبه شمعة الاخاء فلا تنطفئ مهما كانت الأحوال والظروف، وتنمو في تربته الطيبة زهور الوفاء فلا تذبل مهما عصفت بها العواصف، وتشتعل في جنباته مشاعر الحنين فلا تخبو، أنفاسه تلهج بأصدق الدعاء لأخيه في جوف الليل، فتحيل ليله ضياء، وتمسح عن عينيه دموع الشقاء فيقول: الحمد لله لعله أخي يذكرني الساعة ويدعو لي بالغيب فجزاه المولى كل خير وقد أجزل لي العطاء.
قال أحد السلف: يا أخي إذا ذكرتني ادع لي وإذا ذكرتك أدعو لك فإذا لم نلتق فكأنما قد التقينا فذاك أروع اللقاء.
نعم، كم هي حاجتنا لهذا الحب العظيم، الحب في الله، ولهذا التلاحم والاجتماع وقد تطاول علينا الأقزام والمتربصون بهدف شرذمتنا وبعثرتنا على السبل، ولن تفشل هذه المساعي ولن تُرد إلى نحور أصحابها إلا إذا تحققت فينا علاقة الحب الصادقة بيننا وبين الله عز وجل لتتحقق تلقائيا هذه العلاقة فيما بيننا أخوة صافية ترهب وتحير أعداءنا وننتصر فيها على كل من تسول له نفسه الكيد بنا، فإنها والله – الأخوة في الله – العسكر الذي لا يُقهر، والسلاح الذي لا يُكسر، والحصن الذي لا يُخترق والقوة التي لا تُغلب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى