أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

معركة الوعي (6)..حول مسألة عودة الخلافة (2-2)

حامد اغبارية
ختمتُ الجزء الأول من هذا المقال متسائلا: لماذا لا يريدون للإسلام أن يسود؟ وما مشكلتهم مع الخلافة؟ ولماذا يصابون بالفزع كلما قلنا إن عاصمة الخلافة القادمة ستكون القدس؟ وسأجتهد في الإجابة عنها، استنادا إلى حقائق من السنّة النبوية المطهرة، ومن أحداث نعرفها ويعرفها جميع الناس، وأحداث عشناها وعاشها الكثيرون.
روى الإمام أحمد (ابن حنبل) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: كنا جلوساً في المسجد فجاء أبو ثعلبة الخشني فقال: يا بشير بن سعد أتحفظُ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمراء؟ فقال حذيفة: أنا أحفظ خطبته. فجلس أبو ثعلبة. فقال حذيفة: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تكون النبوَّة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكًا عاضًا فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت}. والحديث صححه الألباني في السلسلة الصحيحة، وحسّنه الأرناؤوط.
فالخلافة على منهاج النبوّة في آخر الزمان قدرٌ قائم لا محالة، بشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم، وهي كائنة في بيت المقدس. ولما أن مدينة القدس لم تكن ذات يوم عاصمة للخلافة، فإن هذا يعني أنها ستكون في قادم الأيام.
روى أبو داود في سُننه، عن عبد الله بن حوالة الأزدي، قال: {بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لنغنم على أقدامنا، فرجعنا، فلم نغنم شيئا، وعرف الجهد في وجوهنا، فقام فينا، فقال: اللهم لا تكلهم إليَّ فأضعف عنهم، ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزوا عنها، ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم، ثم وضع يده على رأسي -أو قال: على هامتي- ثم قال: يا ابن حوالة؛ إذا رأيت الخلافة قد نزلت أرض المقدسة، فقد دنت الزلازل والبلابل والأمور العظام، والساعة يومئذ أقرب من الناس من يدي هذه من رأسك}. قال الحاكم في المستدرك: صحيح الإسناد، وصححه الألباني. ومعنى الحديث أن الخلافة ستنزل الأرض المقدسة التي هي بيت المقدس. فالحديثان يؤكدان حقيقتين: الأولى: أن هناك خلافة في آخر الزمان ستكون على منهاج النبوة، ولا يكون بعدها شيء ينقُضُها، وأن هذه الخلافة ستكون عاصمتها مدينة القدس.
ولقد أدرك أعداء الإسلام هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى. أدركوها وآمنوا أنها ستكون. وعملوا – يا لجهلهم وغبائهم- على الحيلولة دون وقوعها. فهذه أم المؤمنين صفية رضي الله عنها تشهد على أبيها حُيي بن أخطب، أحد أحبار يهود المدينة، الذي عرف أن ذلك الرجل الذي جاء المدينة هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكنه اختار عداوته ومحاربته.
وهذا هرقل عظيم الروم يسأل أبا سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يقول بعد ذلك: لئن ظهر ليملكن موضع قدميّ!. وبعد هدم الخلافة عام 1924م، وقف كرزون، رئيس حكومة بريطانيا في مجلس العموم البريطاني يستعرض ما جرى مع تركيا، فاحتجَّ عليه بعض النواب الإنكليز باستقلال تركيا، التي يمكن أن تجمع حولها الدول الإسلامية مرة أخرى وتهجُم على الغرب. فأجاب كرزون: «لقد قضينا على تركيا، التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم؛ لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين: الإسلام والخلافة».
والمواقف كثيرة لا تحصى، منها ما سطرته صفحات التاريخ، ومنها ما عشناه ونعيشه عيانا في زماننا. فالغرب كله، وعلى رأسه أمريكا، والشرق كله، وفي مقدمته روسيا والصين والهند، والحركة الصهيونية ذاتها، يعلمون أن هذا حاصلٌ لا محالة، ولكن تمسكهم بالباطل وزخارفه المبهرة، جعلهم ينفقون أموالهم كلها ليصدوا عن سبيل الله، وهم يعلمون أنهم سينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يُغلبون.
لقد فهم هؤلاء جميعا، ربما أكثر من كثيرين من العرب والمسلمين، أن الكلمة الأخيرة على كوكب الأرض ستكون للإسلام ولأمة الإسلام، لكنهم بدلا من أن يسارعوا إلى اتّباعه والنجاة بأنفسهم، اختاروا محاربته بكل وسيلة، عسكرية وفكرية وثقافية. وكانت الخلافة الإسلامية التي قضَّت مضاجعهم من زمن أبي بكر رضي الله عنه، ولكن بشكل أخصّ منذ عهد عمر رضي الله عنه فصاعدا، وصولا إلى الخلافة العثمانية، قد شكلت لهم عقدة، وهي التي وصلت حدود فيينا زمن الخلافة العثمانية، فكان لا بدّ من إسقاطها، وإبعاد المجتمعات الإسلامية عن معانيها، بالقومية تارة، وبالوطنية تارة أخرى، وبالنعرات العرقية تارة ثالثة. ثم استقام لهم الأمر طوال قرن من الزمن، وهم يوهمون أنفسهم أنهم تخلصوا من تأثير الإسلام على المجتمعات الإسلامية، واستطاعوا أن يزرعوا الفتن والحروب والصراعات بين المسلمين وبين أنفسهم، حتى تمزقوا شرّ ممزق. لكن قدر الله الذي لا يتغير ولا يتبدل صدمهم مرة أخرى بظهور صحوة إسلامية في أصقاع الدنيا، حتى وصلت عقر دارهم، وإذا بهم يواجهون مجتمعات استيقظت بعد سبات، وانتفضت بعد غفلة، وإذا بهم يكتشفون أن كل ما بنوْه إنما كان أوهاما تناثرت كالهباء. وارتفع الصوت الإسلامي في جهات الأرض الأربع، ينادي بعودة عزة الإسلام، وبعودة الخلافة التي عمل أعداء الله وأعداء الإنسانية على إسقاطها مطلع القرن الماضي. فكان لا بد من تشويه صورة الخلافة في نظر عامة المسلمين. فماذا فعلوا؟ اخترعوا مسخا تلفَّع بالإسلام، أطلق على نفسه اسم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، وهو المعروف بالاسم المختصر (داعش)، ثم جاءوا برجل لا أحدَ يعرف أصله ونسبه وحسبه، ولا موطنه الأصلي، هو المدعو أبو بكر البغدادي، أطلق على نفسه لقب خليفة، ثم لم يكن منه (ومنهم) إلا أن مارس تحت مسمى الخلافة كل القبائح والجرائم التي لا يمارسها إلا إرهابي محترف أو عصابة مافيا متمرسة في أسوأ أنواع الإجرام، ليجد جهلة الناس أنفسهم يقفون أمام سؤال خطير: أهذه هي الخلافة التي يتحدثون عنها؟
كان يكفي أن يطرح هذا السؤال بكل قوة في وسائل الإعلام، يرافقه مشاهد من الجرائم التي ارتكبها هذا الأحمق وجماعته، وهي كلها أو أغلبها، بالمناسبة، ضد المسلمين في العراق والشام تحديدا، في وقت عملت ماكينة الإعلام الغربية والصهيونية على التركيز على هذه الفعائل المرعبة، مع الترديد الدائم لمصطلح “الخلافة” ومصطلح “الدولة الإسلامية” في عملية تضليل إعلامي فكري غير مسبوق. وقد خرج من بيننا أيضا من صدّق هذه الفرية، وأصبح يردد كالببغاء ما يصوره الإعلام الغربي والصهيوني دون تمييز ودون تمحيص ودون تفكير. وأصبح مصطلحا “الدولة الإسلامية” و”الخلافة” مرادفيْن لكل عمل سيء دموي، ومن ثمّ استقر في الأذهان رفض هذا النوع من الحكم الإسلامي “الذي يحمل كل هذه المصائب للناس”!!! وقد نجح الإعلام الغربي والصهيوني في هذا إلى حد كبير، إلى درجة أن مسلمين وعربا أصبحوا لا حديث لهم إلا جرائم “الخلافة” وكوارث “الدولة الإسلامية”، وقد نسوا أن تلك الجرائم لا تشكل نصفا بالمائة من الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها الغرب ومن لفّ لفه ضد العرب والمسلمين في الشام وفي العراق وفي اليمن وفي فلسطين وفي أهواز إيران وفي ليبيا وفي مصر وفي أفغانستان وفي الشيشان وفي بلاد البلقان. فكان مشهد “إحراق” الطيار الأردني على سبيل مثال على أيدي داعش، أشد رعبا وتأثيرا من مشهد مئات الأطفال الذين قتلهم بشار الأسد بالكيماوي، وأفظع من قصف ملجأ العامرية في العراق عام 2003 على من فيه من المدنيين غالبيتهم من النساء والأطفال، وأشد فظاعة من دكّ حي الشجاعية في غزة بالطائرات الصهيونية عام 2014، وأقسى من قتل مئات الآلاف في سوريا والعراق واليمن ومصر وغيرها. وقد أدى هذا التضليل إلى أن يكره الناس “الخلافة” و”الدولة الإسلامية” ليست تلك التي يمثلها البغدادي، وإنما تلك التي جاء بها الإسلام أساسا. فقد ربط هؤلاء بين المصطلح وبين الممارسات (بالبث المباشر) التي قدمها لهم الإعلام المضلل.
ولكن.. هل يمكن لكل هذا أن يمنع قدر الله القادم؟ إطلاقا. إنما هي محاولات يائسة من أعداء البشرية يبذلون فيها المال والقوة البشرية والفكرية والعسكرية لتأخير قدر الله، وهم – لغبائهم- لمّا يستوعبوا بعد أن هذا “التأخير” إنما هو جزء من قدر الله أيضا، وأنهم هم أيضا جزء من قدر الله، وأنهم ليسوا في نهاية المطاف سوى وسيلة من الوسائل التي سخّضرها الله تعالى لظهور الإسلام وعودته.
يقول باول سمتز في كتابه «الإسلام قوة الغد العالمية»: (الشرق الإسلامي يقترب من الوحدة التي ينادي بها الإسلام، وسيعيد التاريخ نفسه مبتدئاً من الشرق الإسلامي، وسوف تظهر هذه القوة، التي تكمن في تماسك الإسلام ووحدته العسكرية، وستثبت هذه القوة وجودها إذا ما أدرك المسلمون كيفية استخدامها والعمل على الاستفادة منها).
ولما أن الغرب والصهيونية والمحفل الماسوني أدركوا هذه الحقيقة فقد عملوا على استباق الحدث “المرعب”، وهو ظهور الإسلام تمهيدا لعودة الخلافة التي ستكون عاصمتها مدينة القدس، بمحاولة كسر إرادة المسلمين في إحداث التغيير الجذري في مجتمعاتهم، وانتزاع الإيمان بفكرة الخلافة من رؤوسهم، وعملوا من جديد على تقسيم بلاد المسلمين إلى تجمعات طائفية وعرقية متصارعة متناحرة، ثم اخترعوا مصطلح “الإسلام السياسي” ودفعوا شريحة كبيرة من الناس إلى رفضه كخيار وكبديل للأنظمة القمعية، واخترعوا مصطلح “الشرق الأوسط الجديد” الذي أرادوه خاليا من الإسلام كليا، وفجروا فيه صراعات دامية وأشعلوا الفتن الطائفية والعرقية في كل بقعة فيه، واخترعوا مصطلح “الإسلاموفوبيا” الذي أصبح عنوانا يتصدر كل وسائل الإعلام عندهم.
لكننا نؤكد أن هذا كله لن يفيد أعداء الأمة، ولن يضرُّوها إلا أذى. فالأمة مقبلة على التغيير الذاتي، هي الآن تغلي كالمرجل، وتتوقد كالجمر تحت الرماد، فالإسلام هو السلاح الأقوى الذي تملكه هذه الأمة، وهو السلاح الأقوى الذي يهابه الغرب والشرق والصهيونية، وهو المبدأ الوحيد الذي يملك كل عناصر الحياة والتطور والتمدد والنهوض والاستمرارية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى