أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

نصرة المسجد الأقصى تنفي خَبَثَ العنف

د. أنس سليمان أحمد
لا تزال تلك المشاهد حاضراً وليست تاريخاً حتى ينساها البعض منا، وذلك يوم أن كان مجتمعنا في الداخل يحتشد بعشرات الآلاف في مهرجان ” الأقصى في خطر” في أم الفحم كل عام على اختلاف بلداتنا – رجالاً ونساء وشبابا وأطفالاً- وكانوا يهتفون صادحين بصوت واحد: “بالروح بالدم نفديك يا أقصى” وكان الهتاف يتردد ما بين السماء والأرض وتنقله أمواج الأثير إلى قارات الدنيا، حتى غدا هتافاً عالمياً، وحتى غدت تردده الملايين في شتّى مهرجاناتها، وكيف لأحد أن ينسى صدى ذاك الهتاف وهو لا يزال يتردد بين جبال أم الفحم وأوديتها؟! وكيف لأحدنا أن ينسى ذاك المشهد الثاني يوم أن كان مجتمعنا في الداخل يحتشد بالآلاف أو بالمئات في عشرات المهرجانات المحلية في كفركنا وطرعان وكفرقرع وعرابة والطيرة وباقة وجت وفي سائر بلداتنا في الداخل بداية من النقب ومرواً بالمثلث والساحل والجليل، وكان مجتمعنا يلتقي في تلك المهرجانات المحلية على اختلاف حمائلنا وهمومنا الدنيوية لدعم مسيرة إعمار المسجد الأقصى المبارك، فكان الرجال يجودون بأموالهم، وكانت النساء تجود بذهبها، وكان الأطفال يجودون بحصّالاتهم التي جمعوا فيها نقود طفولتهم المبتسمة، فيا لروعة تلك الأجواء المباركة التي كان مجتمعنا يتنافس فيها على البذل والعطاء إسناداً متيناً دائماً لأعمار المسجد الأقصى!!
وكيف ينسى شعبنا الفلسطيني في الداخل ذاك المشهد الثالث يوم أن كان رجالات مجتمعنا يحتشدون بالمئات لمواصلة إعمار المصلى المرواني ثم لمواصلة إعمار المسجد الأقصى القديم ثم لمواصلة فتح بوابات المرواني العملاقة ثم لتبليط الساحات الواسعة الممتدة ما بين المصلى المرواني وباب الأسباط ثم لصيانة سطح الجامع القبلي في المسجد الأقصى ثم لإقامة وصيانة وحدات مراحيض ووضوء في باب الأسباط وباب حطة وباب فيصل وباب المجلس، هل من أحد فينا يمكن له أن ينسى تلك الأيام الروحانية الصافية المشرقة يوم أن كانت تتآلف القلوب وتتوحد السواعد وتجتمع الهمم والأرادات والخبرات في بوتقة الهمة الواحدة والإرادة الواحدة والخبرة الواحدة، ويوم أن كانت تذوب فوارق العمر والمنصب والحمائل والمكاسب الدنيوية والمطامع الشخصية وكل مظاهر زينة الدنيا، ويوم أن كان أبناء مجتمعنا يلتقون ليعملوا منذ طلوع الشمس حتى غروبها في أسمى نشوة فرح وسرور، وكلما تعبوا أكثر كانت تلك النشوة تزداد أكثر، وكلما كسا وجوههم وثيابهم الأوساخ والغبار أكثر كانت تلك النشوة تسمو بهم أكثر ، وكلما تصببوا عرقاً أكثر وقضّهم الجوع أكثر كانت تلك النشوة تُحلّق بهم أكثر كأنهم في حضرة الملائكة، وهل ننسى يوم أن كان أبناء مجتمعنا يتحلقون بعد أن يؤدوا صلاة الظهر تحت أشجار الصنوبر في الزاوية الشرقية الجنوبية من المسجد الأقصى المبارك، وكانوا يشمون فجأة رائحة الطعام قبل أن يروه ويُطعموه، فكان يهتف بهم أحد الأخوة مداعباً: أبشروا لقد جاءت سيارة الغداء من طرعان، لأن الأهل في طرعان أخذوا على عاتقهم إعداد الطعام في هذا اليوم لكل العاملين والعاملات في مسيرة إعمار المسجد الأقصى!! أو كان يُقال لهم: أبشروا لقد جاءت سيارة الغداء من الفريديس أو من النقب أو من اللد أو من الرملة أو من حيفا أو من يافا وعكا أو من كفركنا وإكسال.. إلخ، فكانوا يدعون بالخير لكل بلدة كانت تعد لهم طعام الغداء، وبعدها يعودون بنياناً مرصوصا لمواصلة إعمار المسجد الأقصى المبارك، وكأن أيديهم التي كانت بالمئات قد تحوّلت إلى يد بناء وعطاء واحدة، وكأن أقدامهم التي كانت بالمئات قد تحوّلت إلى قدم ثبات وصمود واحدة، وكأن قلوبهم التي كانت بالمئات قد تحوّلت إلى قلب حيّ سليم واحد، وكانت كلما دنت ساعات غروب الشمس كانوا يزدادون حزناً لأنهم بعد قليل سيفارقون المسجد الأقصى المبارك، هكذا كانوا. وكيف لمجتمعنا أن ينسى ذاك المشهد الرابع يوم أن كانوا يتنادون للنفير العبادي إلى المسجد الأقصى المبارك وشدّ الرحال إليه والرباط التعبديّ فيه والاعتكاف فيه، ويوم أن كانت حافلات البيارق تنتظر فرادى أو بالعشرات في ساحة كل بلدة من بلداتنا في الداخل الفلسطيني، يومها كانوا يرمون الدنيا وراء ظهورهم، وكانوا يرمون مغرياتها وفتنها وهمومها وقضاياها وخلافاتها ولعاعاتها غير مأسوف عليها، كأنهم لم يعرفوها في يوم من الأيام، وكأنهم لم يجتمعوا بها في لحظة من أعمارهم، وكانوا يصعدون حافلات البيارق يحدوهم حب المسجد الأقصى أن يصلوا إليه في ثوان معدودات، متمنين أن لو كانت لهم أجنحة براق حتى ينتقلون إليه فوراً من كل بقعة في أرضنا المباركة سواء كانت في أقصى الشمال أو الجنوب، ثم كانوا يرتجلون من تلك الحافلات عندما كانت تقف بهم في حمى المسجد الأقصى المبارك، وكانوا يسيلون نهراً بشرياً يضم الرجال والنساء والكبار والصغار مرددين: ” بالروح بالدم نفديك يا أقصى”، ثم كانوا يدخلون إلى المسجد الأقصى وكأنهم انتقلوا من عالم العيش المشهود إلى عالم الغيب المنشود، ثم كانوا ينتشرون في كافة مواقع المسجد الأقصى وكل منهم قد علم صلاته وتسبيحه، وموقع صلاته وموقع تسبيحه، فكان منهم من يرابط في الجامع القبلي من المسجد الأقصى المبارك، وكان منهم من يرابط في قبة الصخرة منه، أو من يرابط في المصلى المرواني منه، أو في الأقصى القديم منه أو على إحدى مصاطبه الموزعة بالعشرات في حدود ساحاته الواسعة التي تزيد على مائة وأربعة وأربعين دونما، ثم كانوا يقضون نهارهم وليلهم رُكعّا سجودا في ذكر رحماني وسلام روحاني حتى مطلع الفجر، ثم كانوا يواصلون رباطهم بعد ذلك نهاراً حتى غروب الشمس، ثم كانوا يواصلون رباطهم في بعض الأحيان ليلاً ثم نهاراً ثم ليلاً ثم نهاراً إلى ما شاء الله تعالى، ويا لعظمة تلك الأيام، حقاً إنها من أيام الله تعالى، وحقاً إنها صنعت من آلاف أجسادنا جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ولأنه لا يوجد فيهم ولا فينا عاق ولا قاطع رحم ولا آكل حرام ولا عابد درهم ودينار وخميصة وقطيفة، ولا يمكن أن ننسى وينسوا كل تلك المشاهد، بل سنبقى نحفظ لها حسن العهد، وسنبقى وسيبقون يحنون إليها لحنين الأم لطفلها الرضيع، سيبقون ونبقى نتوق إليها كتوق عطشان كاد أن يهلكه العطش إلى شربة ماء، وسيبقون يحنّون إليها وهم على قناعة أن هتافهم للمسجد الأقصى فقد رفع المسجد الأقصى اسمهم، ويوم أن عمّروه فقد أعمرت قلوبهم، ويوم أن توحدت أموالهم وجهودهم لأجله فقد وحّدت صفوفهم، ويوم أن كنّسنا وكنسوا أوساخه وحافظوا وحافظنا على نظافته فقد كنس أوساخ الحقد والحسد والكراهية والعنف من صدورهم وصدورنا وحافظ على نظافتنا ونظافتهم، ولأن الجزاء من جنس العمل فحتى نطهّر مجتمعنا في الداخل من غول العنق فتعالوا بنا لنجدد مسيرة نصرة المسجد الأقصى بكل مشاهدها، وإلا فإن الغفلة عنه تعني دخولنا في متاهة الفراغ والفردانية والتجاحش على الدنيا وضياع وحدة الصفّ وتآلف القلوب!! وكم نحن الآن بحاجة إلى قضية توحّدُ بيننا وتنقذنا من براثين العنف وويلاته، وتنقل تضحياتنا من تضحيات في سبيل الشيطان إلى سبيل الله، وهل هناك أسمى وأرفع من نصرة المسجد الأقصى المبارك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى