أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

ولكن ربّ عِيَشان جاء به إليكِ

الشيخ كمال خطيب
بعد أيام قليلة وتحديدًا يوم 24 / 10 سيجري أعداد كثيرة من شبابنا خريجي كليات الطب في جامعات الخارج، الامتحان الرسمي الذي تجريه وزارة الصحة لتأهيلهم للعمل في الجهاز الطبي في البلاد.
وإنه لمن دواعي فخرنا بنجاح المئات، منهم أطباء وطبيبات في كل سنة حتى أن الاحصائيات الرسمية تشير إلى أن نسبة الأطباء من أبناء الداخل الفلسطيني في المستشفيات الإسرائيلية تصل إلى 35٪ بينما تصل نسبة الصيادلة إلى 60٪، في حين أن نسبة الفلسطينيين من مجموع السكان هو 20٪.
لقد أصبح الكثيرون منهم من يشار إليهم بالبنان ممن تركوا بصمة لا تمحى في الإبداع والمهنية عجز عنها نظراؤهم اليهود، ورغم وصول البعض منهم إلى مواقع متقدمة في إدارة بعد الأقسام في المستشفيات إلا أنني على يقين أنه لولا سياسات حكومية عنصرية غير معلنة ولكنها تمارس، لكان هؤلاء الأطباء قد تبوأوا أعلى المناصب ونالوا وتقلدوا أرفع الأوسمة.
أنا أعلم أن كثيرين منهم ممن يستحق الواحد منهم أن تكتب له سيرة ذاتية حافلة بالعطاء والإبداع والتميز، وفوق ذلك فإنها حافلة ومرصعة بالمواقف الإنسانية في خدمة أهلهم وشعبهم، ومع أنه الحرج الكبير في ذكر أي اسم دون الآخرين، لأنهم جميعًا في نظري محل احترام وتقدير، ولعلّ تلك الثلة منهم أولئك الذين يذهبون كل شهر أو أقل من ذلك عند الضرورة لتقديم خدماتهم وخبراتهم وإجراء عمليات معقدة وضرورية في مستشفيات غزة مؤثرين خدمة المرضى على راحتهم وعلى راحة عائلاتهم، فتحية لهم وأسأل الله أن يتقبل منهم.
إنما هي مجموعة قصص وحوادث سجلها قلم التاريخ الصادق جمعت بين الأقدار وبين الإبداع وبين الإنسانية، ولأنها كذلك فإنها تصلح لأن يقتدى بها ويتحدث عنها لتكون ملهمة لكل زمان ومكان بغض النظر عن الأسماء فالحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها فهو أحق بها، وصفاء الضمائر ومحاسن الأخلاق فإنها عالمية الهوية ولا تعرف الحدود الجغرافية وأنها تكون في كل مجتمع وجنس ودين.
قصص وأمثلة فيها من الرسائل الإيجابية بحق الأطباء، وفيها إشارة إلى سلوكيات سلبية قد يمارسها الناس مما نسمع عنها في حالات راحت تتكرر فيها، يساء بل يستخدم العنف الكلامي وحتى الجسماني بحق الأطباء.
# قد أصبحت رجًلا وأنا أبحث عنك
في العام 1920 م أقامت نقابة الأطباء في انجلترا بتخريج دفعة من الأطباء الجدد، وكان ضيف الشرف رئيس وزراء بريطانيا يومها، وخلال الاحتفال وقف نقيب الأطباء خطيبًا موجهًا نصائحه للأطباء الجدد راويًا لهم قصة شخصية حدثت معه قائلاً: “طرقت امرأة بابي بعد منتصف الليل وكان الجو عاصفًا، وهي تبكي وتقول: إلحقني يا دكتور طفلي مريض في حالة خطر شديد أرجوك أن تفعل شيئًا لإنقاذه. أما أنا فلم أتردد، فأسرعت معها غير مبالٍ بالعواصف والبرد الشديد والمطر الغزير، ووصلنا إلى كوخ صغير على طرف أحد الأحياء في ضواحي لندن لأجد الطفل يئن من الألم والبرد في زاوية الكوخ.
وبعد أن أديت واجبي نحو الطفل ناولتني الأم كيسًا صغيرًا فيه بعض نقود، إلا أنني رفضت أخذ النقود ورددته بلطف معتذرًا عن أخذ أجرتي، وتابعت الطفل وزرته أكثر من مرة حتى منّ الله عليه بالشفاء. ثم أردف نقيب الأطباء البريطانيين يقول: هذه هي مهنة الطب إنها أقرب المهن إلى الرحمة، ومن أقرب المهن إلى الله تعالى. وما كاد نقيب الأطباء ينهي كلامه حتى قفز رئيس الوزراء من مجلسه إلى منصة الخطابة قائلًا: اسمح لي يا سيدي النقيب أن أقبل يدك فأنت إذًا الطبيب الذي منذ أن أصبحت رجلًا وأنا أبحث عنك، وأنا هو الطفل الذي ذكرته في حديثك، ثم قال والدموع تسيل من عينيه: آه يا أمي فلتسعدي في قبرك فقد كانت وصيتك الوحيدة أن أعثر عليك لأكافئك على ما أحسنت به علينا لمّا كنا فقراء. أما الطفل الذي أصبح رئيسًا للوزراء فإنه ليس إلا لويد جورج.
صحيح أن الطبيب يداوي بالدواء يصفه لمريضه، ولكن الطبيب يستطيع أن يصل إلى قلب المريض قبل أن ينطق بكلمة واحدة، فلعلّ الطبيب يداوي في أحيان كثيرة ببسمته وكلامه أكثر من طبه ودوائه، فقد يكون طبيبًا يرتاح إليه المرضى ويذهبون إليه مبتهجين وعيادته ملآى بالمرضى والمراجعين، بينما تجد طبيبًا آخر لا يقصده الناس إلا مضطرين وعيادته خاوية على عروشها مع أن الشهادات واحدة والخبرات متقاربه والاختصاص نفسه.

# لقد ساقني الله إليك سوقًا
انها قصة طبيب جراح باكستاني وكان من أشهر الجرّاحين واسمه الدكتور عِيشان، وقد ذهب مسرعًا إلى المطار للمشاركة في مؤتمر علمي طبي وفي نهايته سيتم تكريمه على إنجازاته ومهاراته في عالم الطب، وفجأة وبعد ساعة من إقلاع الطائرة ضربت صاعقة الطائرة وكان الجو عاصفًا فوقع فيها عطل وخلل اضطر قائدها للهبوط اضطراريًا في أقرب مطار. ولأن الدكتور عِيشان كان على عجلة من أمره ولم يكن المطار كبيرًا كباقي المطارات حيث أن الطائرة الأقرب بالإقلاع إلى وجهته كانت بعد ستة عشر ساعة، أشار عليه موظف الاستعلامات في المطار قائلاً: إنه بإمكانك استئجار سيارة فرحلتك لا تستغرق أكثر من ثلاث ساعات بالسيارة.
وهكذا فعل الدكتور الجرّاح عِيشان، وفي الطريق وهو يقود السيارة نزل المطر بغزارة وكان الجو عاصفًا والضباب كثيفًا، انتهى الأمر به بأن ضلّ الطريق. رأى أمامه بيتًا صغيرًا على جانب الطريق فنزل وطرق الباب ليسأل أهل البيت عن كيفية الوصول إلى وجهته، فسمع صوت امرأة عجوزًا من الداخل تقول تفضل بالدخول، دخل وطلب من المرأة استعمال الهاتف، فضحكت وقالت أي هاتف يا ولدي ألا ترى أين أنت والظروف التي نعيشها، فلا كهرباء ولا هاتف ولكن تفضل واسترح لأعد لك فنجان شاي ساخن، وهذا بعض طعام عندنا فخذ حاجتك منه. شكر الدكتور المرأة وأخذ يأكل بينما هي ترفع يديها إلى السماء تدعو الله تعالى، انتبه الطبيب وإذا بطفل صغير في السرير، بينما العجوز تهز السرير بيديها بين المرة والمرة وتعود للدعاء وقد ظن الطبيب أن الطفل في نوم عادي، ولمّا همّ بالخروج توجه للمرأة قائلًا: والله لقد أخجلني نبل أخلاقك وكرمك رغم فقرك، وإن شاء الله سيستجيب الله دعواتك، فقالت العجوز: أما أنت يا بني فإنك عابر سبيل وقد أوصانا الله بك، وأما دعواتي فإنه سبحانه قد أجابها إلا واحدة. سأل الدكتور عِيشان وما هي هذه الدعوة؟ فقالت: هذا الطفل الذي تراه إنه حفيدي يتيم الأبوين قد أصابه مرض عضال عجز عنه كل الأطباء في المناطق القريبة وكلهم قالوا إنه لا يقدر على علاجه إلا جرّاح كبير في العاصمة إسلام آباد اسمه عِيشان، ولأنه بعيد ولا يمكنني الوصول إليه لفقري فإنني أخشى على هذا الطفل فدائمًا أدعو الله أن يسهل لي الذهاب به إليه. وقف الطبيب عِيشان باكيًا يقول لها: يا أماه والله إن دعاءك قد عطّل الطائرات وضرب الصواعق وأمطر السماء كي يسوقني إليك سوقًا، أنت لم تستطيعي الذهاب إلى عِيشان، فإن رب عِيشان أتى به إليك، فأنا الدكتور عِيشان. عالج الدكتور عِيشان الطفل وفق ما تطلبته الضرورة ثم رتّب بعد عودته من أجل إحضاره إلى العاصمة وأجرى له العملية بيديه وقد كتب الله له الشفاء.
نعم حين تنقطع الأسباب فما عليك إلا اللجوء إلى خالق الأرض والسماء الذي قال {أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَٰهٌ مَّعَ اللَّهِ ۚ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ} آية 62 سورة النمل.

# ترك ابنه يتألم ليخفف عن ابنك الألم
دخل الطبيب الجراح إلى المستشفى بعد أن تم استدعاؤه لعملية ضرورية لأحد المرضى. وقبل دخوله إلى غرفة العمليات وإذا بوالد الشاب المريض يصرخ في وجهه بسبب تأخره قائلًا له: إن حياة ابني في خطر، أليس عندك إحساس؟ ابتسم الطبيب في وجهه ابتسامة فاترة وقال: أرجو أن تهدأ ودعني أقوم بعملي وكن على ثقة أن ابنك بيد آمنة، وفوق هذا فإنه في رعاية الله. ردّ الأب على الطبيب بحدة قائلًا: ما أبرد أعصابك يا هذا، لو كانت حياة ابنك على المحك وهو في خطر هل كنت ستهدأ؟ ما أسهل أن تعظ الآخرين. لم يجبه الطبيب واندفع إلى غرفة العمليات.
بعد ساعتين خرج الطبيب كذلك مسرعًا، وعلى عجل قال للوالد: لقد نجحت العملية والحمد لله ابنك بخير، واعذرني فأنا على موعد هام ومضى.
خرجت الممرضة من غرفة العمليات تزيد في تطمينها لأهل المريض وتستمع لاستفساراتهم، إلا أن الوالد وبدل أن يسأل عن ابنه فإنه قال للممرضة: ما بال هذا الطبيب المغرور كأنه ليس في البلد طبيب إلا هو؟ وسرعان ما جاء الجواب الصاعق من الممرضة، يا أخي إن الطبيب وهو في طريقه إلى المستشفى وصله خبر أن ابنه قد أصيب في حادث طرق ولا يعرف وضعه الصحي، ولكن لأنه عرف عن وضع ابنك الصعب فإنه أصرّ على المجيء للمستشفى لإجراء العملية لابنك ثم رجع ليطمئن على ابنه.
صحيح أن الوالد شعر بالندم والأسف على ما كان منه، وصحيح أنه أدرك عظيم خطئه ومقدار سوء ظنه وإساءته للطبيب، وأدرك أن أخلاق الطبيب وانسانيته ورحمته هي أسمى بكثير مما كان يتخيله ومما ظنه فيه، لكن هذا كله كان بعد الكلام القاسي الذي أوقعه بالطيب. فلا أجمل من إحسان الظن ولا أجمل من التأني وعدم الحكم على الشيء إلا بعد معرفة حقيقته. تمامًا كحال ذاك الرجل الذي رأى رجلًا فقيرًا رثّ الثياب يمشي خلفه ويلاحقه. فقال الرجل في نفسه: إنّ هذا إما لص يريد أن يسرقني وإما أنه متسول يطلب المال، فهؤلاء لا يشبعون وإن أعطيتهم. لم يتوقف الرجل الغني إلا بعد أن سمع صوت الفقير يناديه، فلمّا اقترب منه قال الفقير للغني عفوًا يا سيدي فهذه محفظة نقودك سقطت منك وأنت لم تشعر.
فأحسن الظن وإياك أن ترى القشة في عين أخيك ولا ترى الخشبة في عينك، والتمس لأخيك عذرًا وحتى سبعين عذرًا، فإن لم تجد فاتّهم نفسك.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى