أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

هي كبوة وسننهض من جديد

الشيخ كمال خطيب

إن مثل الأمم والدعوات في مسيرتها، كمثل الأفراد في مشوار حياتهم، حيث يتعرض الإنسان خلال مسيرة حياته لكثير من الظروف والتقلبات بل والتناقضات، فهو الذي تمرّ عليه أحداث تبكيه، ثم لا يلبث أن يعيش لحظات فرح وسرور، وهو الذي يعيش في صحة وعافية، حتى يقلب حياته فيروس لا يُرى بالعين المجردة، فإذا هي الأسقام والآلام والأوجاع. وذاته الإنسان الذي يعيش في رغدٍ من العيش يأتيه الرزق من حيث لا يحتسب، حتى يغدو فقيرًا بين ليلة وضحاها، يطرق أبواب الناس سائلًا.
إنه الله سبحانه الذي يملك وحده هذا القانون ويتحكم في هذا النظام {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آية 2٦- 27 سورة آل عمران.

وإذا كان هذا هو حال الأفراد فإنّ حال الأمم والشعوب لا يختلف أبدًا، فهي التي تكون ضعيفة ثم تصبح قوية، أو تكون غنية فتصبح فقيرة، أو تكون ذات سيادة ثم ما تلبث أن تُحتل وتغلب، قال الله تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} آية 112 سورة النحل. كثيرة هي الأمثلة أوردها التاريخ وذكرها القرآن الكريم، بل لعلنا عشنا حالات مماثلة، وكيف سرى عليها قانون التداول الذي نبّه له القرآن الكريم {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس} آية 140 سورة آل عمران.

أليس فرعون الذي قال {أنا ربكم الأعلى} آية 24 سورة النازعات، هو ذاته الذي راح يستنجد بموسى عليه السلام لينقذه من الغرق والذل؟ أليسوا هم التتار الذين قيل أنهم لا ينهزمون حتى وقعت عليهم هزيمة عين جالوت فأصبحوا مضرب الأمثال؟ أليس هو الاتحاد السوفييتي الذي تفكك وانفرط عقده السياسي ودوله الخمسة عشر لتعود بعدها كل دولة منها مستقلة بذاتها؟ ألم يفتح المسلمون الأندلس ويحكموها لثمانية قرون ثم ما لبثوا أن طردوا منها؟ أليست مملكة المجوس الساسانية قد عمّرت خمسة آلاف سنة ثم ما لبث نارها أن انطفأت وراياتها قد نكّست؟ وكلنا قرأ وسمع قصة أبي الدرداء رضي الله عنه يوم فتح المسلمون جزيرة قبرص، بينما الناس في فرحتهم بنصر الله لهم، رؤي أبو الدرداء يجلس على صخرة يمسك لحيته باكيا، فقيل له؛ أتبكي يا أبا الدرداء في يوم أعزّ الله فيه الإسلام والمسلمين؟ فأجابهم: انظروا إلى أهل قبرص، كان هؤلاء آمنين في بلادهم، فكفروا بأنعم الله فمكننا الله منهم، وإني أخشى أن نكفر نحن يومًا بأنعم الله ونصير إلى ما صاروا إليه ويذيقنا الله لباس الجوع والخوف.

لقد سُقت تلك المقدمة من بيان عدم استقرار الانسان أو الأمة على حال، وإنما هي الأحوال التي تتغير ليس فقط من سيئ إلى أسوأ، وانما يمكن أن تتبدل من سيئ إلى أحسن.
إنّ ما تمرّ به أمتنا الإسلامية في هذه المرحلة من تاريخها، هو الظرف الصعب والقاسي والمؤلم، حيث تعيش الأمة حالة من التفكك والشرذمة وتسلط الأعداء وخيانة الزعماء، حيث الظلم والقهر والهوان. هذه الظروف لم تكن وليدة أو سبب ثورات الربيع العربي كما يحلو للطغاة وأذنابهم تسميتها، وكأّن الأمة وشعوبها كانت قبل ذلك تعيش حياة العزة والقوة ورغد العيش، فجاءت لتفسد حياة الناس وتشقيهم.

إن الأمة ومنذ سقوط دولة الخلافة الإسلامية العثمانية عام 1923 وانفراط عقد الأمة ووقوعها تحت الاستعمار وهيمنته، ثم تغلغل الأفكار والانتماءات القومية والشعوبية والشيوعية وتسليم شعوبنا وأراضيها وأوطانها من قِبل المستعمر -قُبيل رحيله- إلى عائلات وطواغيت وجبابرة تحكمها وتفسد ما بقي مما لم تطاله يد الاستعمار، وليس هذا فحسب، بل إنهم الذي فرّطوا بدُرّة بلاد العرب والمسلمين فلسطين، وجعلوها لقمة سائغة للمشروع الصهيوني.

إن ما حدث بداية العام 2011 بما سميّ لاحقا بثورات الربيع العربي، إنما كان محاولة للخلاص من الواقع السيء، والخروج من أتون عذابات الطواغيت، سواء كانوا ملوكًا وأمراء وصلوا إلى الحكم وراثيًا، أو رؤساء وجنرالات وصلوا للحكم جبريًا. وهي الكذبة الكبرى والفرية العظيمة التي يشيعها عبيد الطواغيت بأن ثورات الربيع العربي كانت بلاء وشرًا نزل بالأمة، وتناسى هؤلاء أن غضبًا وكبتًا وقهرًا كانوا السبب في أن يحرق الشاب محمد البوعزيزي نفسه، أو أن يخرج شباب تونس بعدها ومصر وليبيا واليمن وسوريا إلى الشوارع يطالبون بالحرية والكرامة، وهم يعلمون أن ثمن ذلك قد يكون حياتهم. نعم، لقد دفعوا حياتهم ثمنًا لحريتهم. ثم يقال بعد ذلك أن ثورات الربيع العربي أفسدت على الناس عيشتهم، وأي عيش كان ذلك العيش؟

ليس أنّ هؤلاء قد انقلبوا على الثورات، وليس أنهم قد قتلوا الآلاف من الشباب والأطفال والنساء في تونس ومصر وليبيا، بل إنهم قتلوا مئات الالاف وما يزالون يقتلون في سوريا وليبيا واليمن، وأرادوا بذلك أن يوصلوا الناس إلى اعتبار الشر والظلم والفقر الذي كانوا يعيشونه على أنه افضل مما هم عليه اليوم. إنهم يجبرونهم على المفاضلة ليس بين السيئ والحسن، بين الظلم والحرية، وإنما بين السيئ والأسوأ، بين الظالم والأظلم. ولقد كانوا كل ذلك، فهم كانوا السيئين وها هم أصبحوا أسوأ، وكانوا هم الظالمين واليوم غدوا أظلم.

لقد طغى السيسي في البلاد وأكثر فيها الفساد، حتى بات بعض الناس يترحم على أيام مبارك السوداء. ولقد أصبح حال اليمن مما هي عليه من التمزق والفوضى حتى خرجت ألسن فاسدة ومشبوهة تترحم على أيام علي عبد الله صالح. لماذا شعوبنا عليها أن تقبل بالمنحوس لألّا يأتيها الأنحس؟ لماذا تُحرم على شعوبنا الأحلام، بل ويحرّم عليها أن تعمل على أن يحكمها الأكيس والأعدل؟!

نعم، لقد قامت الثورات المضادة بعد إذ رأوا وجهة الناس في صناديق الاقتراع كما حصل في تونس ومصر، وهل يعلمون علم اليقين أن الحال نفسه في سوريا وليبيا واليمن بل وحتى في السعودية والإمارات وغيرها إذا ما أعطيت الفرصة للشعوب أن تختار. لقد سمعوا من الرئيس الشهيد محمد مرسي كلامًا لم يسمعوه من قبل عن قضية غزة وقضية سوريا، وسألوا أنفسهم ألف سؤال كيف سيكون الحال لو كان بين القادة مرسٍ ثانٍ وثالث، وسرعان ما كان الجواب ليس إلا الانقلاب وبشاعة سياساته ودموية قراراته، حتى لكأنهم يريدون أن يوصلوا المصريين للأسف عن الثورة والندم على مبارك وانتخاب محمد مرسي رئيسًا بدلا عنه.

ولأن أتون الثورات المضادة ما زال ملتهبًا، ولأن السنوات الثمانية منذ 2011 قد حصل فيها في منطقتنا من الدمار والشر ما لم يحصل منذ عقود، ولأن ما حصل كان يمثل الأمنية والحلم الذي لم يتوقعه قادة إسرائيل، بأن يكون حكام مصر على شاكلة السيسي، وأن يكون بشار رئيسا لسوريا إلى الأبد. إلا أن الذي يجب أن نظلّ نذكر به هؤلاء الطواغيت وأعوانهم وأسيادهم قبل أن نذكّر الشعوب، بأن ما حصل إنما هو حلقة من حلقات التاريخ، وأنه جزء من ملامح هوية ومسيرة الشعوب. وقد تحدثنا عن ذلك في مقدمة المقال، أن الشعوب والدعوات مثل الأفراد تمرض ثم تتعافى، لكنها لن تظلّ مريضة ولا ضعيفة إلى الأبد.

نعم، إنها الثورات المضادة وما يجري الآن من الواقع الصعب إنما هو حالة من الحالات التي تمر بها الشعوب، بيد أن ما يجعلنا نصرّ على الأمل والتفاؤل أن الشعوب وبرغم مرارة ما لحق بها من دمار وتهجير، فإنها ما زالت مصرّة على استمرار سعيها لخلع الطغاة وأنها لن تقر حتى تزيلهم ولن ترضى أن تسلم رقابها اليهم مهما كان الثمن.
إنني على يقين أن ثورات الربيع العربي لا تختلف أبدًا عن ثورة الشعب الفرنسي الذي عسى لخلع نظام ملكه الفاسد واستبداله بنظام للشعب فيما سُمي بالثورة الفرنسية التي استمرت أكثر من عشر سنوات ودفع الفرنسيون مليونا منهم ثمنا لحريّتهم، ولكنهم حققوا ما أردوا وما سعوا لتحقيقه في النهاية.
إن ما تمرّ به ثورات الربيع العربي في هذه المرحلة ليست إلا كبوة، ثم لا تلبث الشعوب أن تنهض بعدها من جديد بل وبأقوى مما كانت عليه، وإننا ومع بدايات عام هجري جديد منه نستمدّ الأمل والتفاؤل. فها هو سراقة بن مالك كاد أن يمسك برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصاحبه أبي بكر ليرجع بهما الى قريش وينال ما وعد به: مائة ناقة حمراء لمن يأت برسول الله حيًا أو ميتًا. إنها لحظات قاتمة وسوداء كادت تنهي الأمل بالمشروع وبالدعوة! لكن كيف يكون ذلك والرسول في معية الله {إنّ الله معنا} آية 40 سورة التوبة، بل إنه الرسول محمد صلى الله عليه وسلم المطمئن لمعيّة الله والواثق بوعده كان يقول لسُراقة يوم الهجرة : ماذا عليك يا سراقة لو عميت عنا ولك أن نُلبسك سواريّ كسرى؟! فإنه يعده بسواريّ كسرى وهو في ذلك الحال إنما هو الوهم بلغة الضعفاء والمهزومين، ولكنها الثقة واليقين بلغة المؤمنين الواثقين. فكانت الهجرة وكان الوصول إلى يثرب وكان بناء الدولة بعد بناء الدعوة التي وصل صداها وحدودها إلى أقاصي الدنيا خلال أقل من ربع قرن، وجاء اليوم وتحقق وعد رسول الله لسراقة وألبسه عمر رضي الله عنه سواريً كسرى.

نعم، لن ينتهي المشروع ولم يتبدد الحكم ولن تموت الفكرة ولن تخمد الثورة. إن الثورات في كبوة، وما بعدها إلا النهوض، وهي عثرة سنتجاوزها وغيمة ستنقشع وعتمة ستتبدد وسفينة ستبلغ الشاطئ وربيع سيزهر، وهي قافلة ستصل إلى يثرب بل وإلى القدس بإذن الله.

وكما قال الشاعر أبو القاسم الشابيّ:
إن سحر الحياة .. خالدٌ ل يزول
فعلام الشكاة .. من ظلام يحول؟
ثم يأتي الصباح.. وتمرّ الفصول
سوف يأتي ربيع.. إن تقضّى ربيع!

نعم فإذا انقضى ربيع عربي فإن ربيعًا آخرًا سيأتي من بعده، ولكن هذه المرة لن يكون إلا ربيعًا إسلاميًا يسبقه شتاء عاصف يطيح بكل رؤوس الشر والفساد، ويخلص البلاد والعباد. فكونوا على ثقة ويقين {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ، يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} آية 4-5 سورة الروم.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالديّ ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى