المحبةُ رأسُ مالِنا…
الشيخ د. مهدي ممدوح زحالقة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد أشرف الخلق والمرسلين.
أما بعد أيها الإخوة وأيتها الأخوات،
يقول الله تبارك وتعالى:﴿ وَالْمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعْضُهُم أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَونَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾
وفي الحديث القدسي: قال الله تبارك وتعالى: (وجبَت محبَّتي للمتحابِّين فيَّ، وللمتجالسين فيَّ، وللمتزاورين فيَّ، وللمتباذلين فيَّ).
المحبة هي رأس مال المجتمع المسلم، وهي أغلى من لقمة الخبز وجرعة الماء، كيف لا، وديننا يأمرنا بها، وفي نفس الوقت يُحذِّرنا من التباغض والتنافر؟
نحن بحاجة في هذا الزمان إلى هذه المعاني. نعم، نحن في أمسِّ الحاجة إلى المحَبَّة أكثر من أيّ وقت مضى. نحن بحاجة إلى غرس هذه المعاني والمفاهيم في نفوس صغارنا وأولادنا الذين باتوا يعيشون في ظلّ زمن جفَّت فيه المشاعر، وتعالت فيه أصواتُ العنف والشبهات. في ظل هذا الجو العجيب والغريب الذي نعيشه، صارت أرواحنا تشتاق إلى سلامتها وهدوئها، وصرنا بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى إعادة نشر المحبة بيننا، حتى نُطَبِّقَ الصورةَ الجميلةَ التي رسمها لنا النبيُّ صلّى الله عليه وسلَّم حين قال: (المُؤْمن إلْفٌ مأْلوفٌ، ولا خير في مَن لا يُؤْلَف، وخير الناس أنفَعُهمْ للناس).
أيها الأحبة، المجتمع بدون هذا الحب سيتحوَّلُ إلى مجتمع غابة، وستذوب فيه أجمل الأواصر الحافظة لأسباب تماسكه، بل أسباب بقائه. وحينئذ ستعصف أهواء الكراهية بالقلوب، لتؤدي بها إلى مواطن تهلكتها وخسرانها في الدنيا والآخرة. قال النبي صلّى الله عليه وسلَّم: (دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم؛ الحسد، والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشَّعر، ولكن تحلق الدِّين، والذي نفسي بيده، لا تَدْخلوا الجَنَّة حتى تُؤْمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحَابُّوا، أفلا أُنبِّئكم بما يُثبت ذلك لكم؟ أَفْشوا السَّلام بينكم). وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما أنه قيل: يا رسول الله، أيُّ الناس أفضل؟ قال: (كلُّ مخموم القلب، صَدوق اللِّسان)، قالوا: صدوق اللِّسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: (هو التَّقيُّ النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد).
الأحاديث النبوية الشريفة التي ترسم لنا هذه المعاني الجميلة المصيرية لمجتمعنا المحبّ المتماسك كثيرة وعظيمة. ومن أصدق الصُّور الناطقة بالمحبة بين الناس والتي يتجلّى فيها هذا المبدأ الإسلامي العظيم قول النبي صلّى الله عليه وسلَّم: (لا يؤمن أحَدُكم حتى يحب لأخيه ما يحبُّ لنفسه). ومن هذه الصُّور أيضا قوله صلّى الله عليه وسلَّم: (مَثَل المؤْمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطُفهم مَثَل الجسَد؛ إذا اشْتكى منْه شيءٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمَّى).
ويشهد التاريخ للأنصار موقفهم العظيم مع المهاجرين، ليُحَدِّثَ عن أطْهَرِ ثُلَّة عرفها العالم في هذا الجانب الذي يفيض حبًّا، حينما تنازل الأنصار طائعين عما يمتلكون من ضِياع وعقار وأنعام، ليعلّمونا بل ليعلّموا العالم أجمع كيف هو الحب الخالص الصادق لله جل في علاه ولرسوله صلّى الله عليه وسلَّم وللمؤمنين. هذه المحَبَّة ما كانت لتدوم لولا أنها كانت خالصة لله ولرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فما كان لله دام واتَّصَل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل. فالمحبة بين الناس مقطوعةٌ إلاَّ ما كان منها لله تعالى. قال النبي صلى الله عليه وسلَّم: (… وأن يُحبَّ المرءَ، لا يحبُّه إلا لله…).
من مصائب هذا الزمان أنَّ كثيرًا من الناس قد تعوَّدوا أن يصلوا غيرهم لأسبابٍ لا تَدوم، بل لمصلحة شخصية أو فائدة دنيوية. هذا الحب أو هذه الصلة تختفي مع غياب أسبابه. حب المصلحة أو صلة يُراد من ورائها فائدة ومصلحة دنيوية يراه ويشعر به حتى الطفل الصغير، وكل ذلك التزييف والتمثيل زائلٌ، حتما.
وأخيرا، قلوب أهلنا وأبناء مجتمعنا مليئة إن شاء الله بالمحبة والخير. علينا أن نستثمر هذه المحبة لنرقى وننهض بهذه الأمة الجريحة. مع هذا الحب وهذه المحبة بيننا سينهض كلٌّ منا بالآخر، وسنكون سببًا في رقيّنا الإيماني والاجتماعي، وهذا الرُّقيّ والتحضُّر لن يدركنا قِطارُه ونحن متباغضون، والحب أعظم شعارات المؤمنين.
إن القلوب المليئة بالحبّ لهي قلوبٌ قد احتوت الطُّهر من مَنابعه، وإنّ القلوب التي تحنّ إلى البغضاء والكراهية لهي قلوبُ ذئاب لا يتأتَّى من صوبها إلاَّ الخراب، خسرت في الدنيا والآخرة؛ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. والمؤمنُ متآلفٌ مع الكونِ كلّه، متفاعلٌ بمشاعره مع كلّ حبّة رملٍ أو قطرة مطر، يرى فيها مشاعر من الوصل الطهور معها، لأنها تسبّح بحمد رب الأكوان. وهكذا كان صلّى الله عليه وسلَّم. انْظُر إليه وهو يتحدَّث عن جبلٍ مُكوَّنٍ من صخر قد نظنُّه ميت الإحساس، وإذا برسول الله صلّى الله عليه وسلَّم يقول عن جبل أُحُد: (إنَّ أُحُدًا جبلٌ يحبُّنا ونحبه). بأبي وأمي ونفسي أنت يا رسول الله صلّى الله عليك وسلّم تسليما كثيرا.
إذا فقدتَ مكان بذورك التي بذرتها يوما ما، سيخبرك المطر أين زرعتها. لذا، ابذر الخير والمحبة فوق أي أرض وتحت أي سماء، فأنت لا تعلم أين ومتى تجدها.
اللّهم إنا نسألك أن تملأ قلوبنا حُبًّا ورحمةً لكل المؤمنين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين، سيّدنا محمّد أفضل الخلق والمرسلين.