أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

عبد النّاصر كما لا تعرفونه (2)

أحمد هاني مصطفى كيوان

سيّد قطب- قُبَـيْـلَ ليلةِ الإعدامِ
في أحد أيام سجنه وقبل إعدامه، وقد مر به أحد السجانين من أمام باقي الزنازين فإذا بأحد الإخوة المسجونين يمد يده بحرارة لتحية الأستاذ سيد معرّضًا نفسه لما لا يعلمه إلا الله من ألوان التعذيب والابتلاء من جراء هذا التصرف، فتأثر الشيخ عليه رحمة الله بنبل تصرف الأخ ومدى حرارة التحية فأخرج رحمه الله هذه القصيدة الرائعة (أخي أنت حر)، والتي تشير بحنان عن مدى مكنونات الأستاذ سيد وأحاسيسه وحبه لإخوانه رحمه الله والتي تعبر أيضًا عن مدى شموخ وسمو الروح على ما لاقته من ابتلاء وآلام.
أخـي أنت حــرٌ وراء الســـــدود
أخــي أنت حـــرٌ بتلك القيــــــــود
إذا كـنـت بالله مستعـصـــمــــــــًا
فمــــاذا يَضيرك كيـد العبيــــــــــد
أخــــي ستبيدُ جيوشُ الظـــــــلام
ويُشــــرِقُ في الكونِ فجرٌ جديــد
فــأطلقْ لروحِــكَ إشراقـَهـــــــــا
تـرى الفـجرَ يرمُـقـُنا من بعـيــــد

ليلة إعدام الشّهيد
في ليلة من ليالي شهر أغسطس اللاذعة، زفرت الأرض دعاءً متّخذًا وجهته السّامية إلى السماء.
كانَ الدّعاء حارًّا ملتهبًا، يئزّ الحاضرينَ أزًّا عظيمًا، وكانت الكلمات تسقط على السّامعينَ الجامدين بلا حراكٍ، فتحيلهم كتلًا من الجليد الصّامت.
“اللهم أجعل دمى لعنة عليه إلى يوم القيامة، اللهم إنّي على دينك، وفى سبيلك، وأموت عليه. اللهم هذا الطاغوت تكبر وتجبر، اللهم رحمتك وجنتك يا أرحم الراحمين، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون”
هذا ما نطق به الشّهيد “السّيد قطب” قبل أن يعانق حبل المشنقة.
يسجّل الصّحفي أنيس منصور هذه اللحظات قائلًا:
لقد كان يرحمه الله طويلًا وشاحبًا، يتساند على جلاديه، لم يكن خائفا، وإنّما كان مريضا، لم يكن خائرا، وانما كان شيخا، لم يكن ثقيل الخطى، وإنّما كان علما وقرآنا، لم يكن بشرا. لقد كان جبلا من الإيمان والصبر واليقين، بحثت عن يدي ألطم بهما خدي، لم أجدهما. ما الذي انتابني؟ ما الذي أصابني، فأرى سيد قطب، العالم الجليل والشهيد الكريم، صديقي في حب الأستاذ العقاد والإعجاب به، أحد الأنوار الكاشفة للإيمان والغضب النبيل من أجل الله وفى سبيله. هل هو فرن ذلك الذي وقفنا فيه؟ فكل شيء لونه أحمر، الجدران، الأرض، الوجوه الجامدة. هل انفتحت جهنم جديدة؟ حمراء باردة، هل حمراء ملتهبة؟ ولكن الأعصاب هربت، نزعوها جعلوها حبالا يتدلى منها سيد قطب؟! هل هو عندما دخل، نزل، مشى، سحب أرواحنا فأصبحنا أشباحًا، موتى وهو الحي الحقيقي؟ هل هذا الجسم الهزيل الشاحب قد جمع كل قواه وقوانا وحشدها في حنجرته فزلزل بها المكان: لا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لبيك اللهم لبيك، اللهم إنّ الموت حق، وإنك أنت الحق، لبيك اللهم لبيك؟!هل كان هذا صوته؟ أم صوت الجدران والأبواب والنوافذ؟! هل استولى على حناجرنا؟ هل قفزت إلى قلبه قلوبنا، وانضمّت إلى صدره صدورنا؟ وبحثت عن رأسي فلم أجده!!ذراعي أمدّها… أسحبه بعيدًا عن الحبل… هل رأيتُ دموعًا في عينيه، أم أنّها دموعي؟! هل سمعت عويلًا حولي؟ هل حقًّا ما حدث؟! لا حول ولا قوّة إلّا بالله.
هذا ما سجّله الصّحفيّ الكبير أنيس منصور في مقدّمة كتابه “عبد الناصر المـُفتَرَى عليهِ والمـُفْتَري علينا”.
المكان: سجن الاستئناف العمومي بباب الخلق.
الزمان: صباح الأحد 29 أغسطس عام 1966.
المشهد: العلم الأسود يرفرف فوق أكبر سارية بسجن الاستئناف..
هذا المشهد لا يشير إلا لشيء واحد.. يعرفه الناس جيدا برؤية العلم الأسود، حكم بالإعدام سينفذ هذا الصباح.
الحكم هذه المرة، جزء من تاريخ مصر المعاصر؛ بل هو رمزٌ من رموز هذا العصر، وقد يمتد أثره إلى عصور تاريخية تالية، وقد يلعب دورًا في أحداثها ومجرياتها؛ لذلك قررت الدولة أن ينفذ هذا الحكم سرًّا، كيلا تهيج المشاعر الإنسانية في الشارع المصري والعربي على حد سواء.
وحرصًا على ألا تبالغ وكالات الأنباء التي ترقبه، وتترقبه في نقل وصفه إلى العالم بأسره، والسبب الأهم هو وضع بعض رؤساء الدول، الذين يتدخلون بين ساعة وأخرى لمنع تنفيذ هذا الحكم، بأي ثمن أمام الأمر الواقع، فلا يبقي أمامهم سوى الدعاء بالرحمة على الفقيد بعد إعدامه.
وصدرت الأوامر حاسمة وقاطعة إلى كل وسائل الإعلام بعدم إبراز أخبار هذا الحكم..!! بل كان بعض الصحفيين لا يعرفون أنّ الحكم قد نفذ، إلا بعد إتمام الإعدام بساعات طوال.. لكنّ بعض أصحاب “الحظوة”، سوف يتمكنون من حضور تنفيذ حكم الإعدام.. بشرط أن يخرج كل منهم من مبنى السجن لا يسمع، لا يرى، لا يتكلم..!
أحد كبار الصحفيين كان خائفا من أن يروي عشماوي لأقاربه بعض ما حدث.. فلا تجد الدولة من تتهمه بترويج الخبر وأحداثه سوى هذا الصحفي؛ الأمر الذي يؤدّي به إلى دفع حياته ثمنًا لهذا الترويج الذي منعه الزعيم المـُلهم، لذلك كان حريصا على مصادقة عشماوي والتقرب إليه ونيل رضاه، وفي كل لقاء بينهما كان ينصح عشماوي بألا يفشي شيئا من أسرار مهنته، كي لا يعدموه. كلّ ما كان يخشى منه الصحفي كان يحذر ويخيف عشماوي منه، لا يختلف اثنان من زملاء ومعارف هذا الصحفي على أنه نقيب البخلاء في المهنة رغم ثرائه، ولم يختلف اثنان أيضا على أنه كان في قمة الكرم مع عشماوي.
أمام حجرة الإعدام كانت اللحظات الأخيرة.
نودي على المتهم.. الاسم: سيد قطب ابراهيم.
العمر: 60 عاما.
المهنة: أستاذ سابق وعالم من خيرة علماء المسلمين.
التهمة: محاولة قلب نظام الحكم.
عقارب الساعة تتحرك ببطء بالغ.
الرجل المحكوم بإعدامه يبدو أشجع بكثير ممن حوله؛ وكأنّ الموت يفر منه رعبًا، بينما هو مقبل عليه. كانت المرة الأولى، وربّما الأخيرة التي شوهد فيها عشماوي كرجل بلا قلب. إنه لا يمارس مهنته كما اعتاد. إنه الآن مكره على تنفيذها. أول مرة يتصادف فيها أن يقوم عشماوي بإعدام شخص يعرفه؛ بل يعرفه عن قرب، دون أن يلتقي به من قبل. كان يسمع عنه من أقاربه ومعارفه وأصدقائه، يحفظ شكله دون أن يراه، يعرف أسماء كتبه وكأنه قد وقّع له عليها بإهداء خاص!
شيء صعب وغريب؛ بل مرير جدًّا أن تقتل رجلاً تحترمه بيدك، وأصعب منه أن ينظر إليك هذا الرجل مبتسمًا، وأنت تلفّ حبل المشنقة حول عنقه، كما كانت نظرات سيد قطب إلى عشماوي لحظة الإعدام.!!
لكنَّ لحظة الإعدام لم تأت مسرعة.
لابد بعد تلاوة الحكم وأسبابه، من حديث الواعظ الذي تنتدبه وزارة الأوقاف إلى المتهم، قبل لحظات من إعدامه. طلب الواعظ من سيد قطب أن يتلو الشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدًا رسول الله. الشّهيد السيد يبتسم في بشاشة وهو يربت على كتف الواعظ قائلا:
– وهل تري يا أخي أني جئت إلى هنا إلا من أجل تلك الكلمات؟
ويكاد الواعظ أن يخر مصعوقا أمام العالم الأكبر، والداعية الإسلامي الأشهر. بهت لون الواعظ، اصفرّ وجهه، تحشرج صوته، تاهت كل الكلمات فوق لسانه، تمتلئ ملامحه وصوته بالخجل، تضاءل أمام نفسه فجأة، ولم ينقذه سوى نظرات حانية عطوفة من عين الشيخ العالم، وابتسامة عريضة حاول بها أن يخفف من آلام ومتاعب ردّه على واعظ الأوقاف، قليل الحيلة والعلم.
ممثل النيابة يختتم حديثه هو الآخر بجملة تقليدية:
نفسك في حاجة؟
لكن الشيخ العالم لم يطلب شيئًا، لا شيء في تلك اللحظة يعادل حلاوة اللقاء مع الخالق؛ لذلك كان سيد قطب حريصًا على أن يلبي النداء؛ إن لم يكن قبل موعده بلحظة، ففي لحظة موعده بالضبط.
كل هذه الإجراءات كانت تضايقه، لأنها تؤخره عن موعد الحب الأكبر، واللقاء العظيم بملك الملوك.
وتقدم سيد قطب نحو المكان الذي سينتهي فيه أجله الدنيوي، كان يعرف أنَّ الحجرة التي يدخلها بساقه الآن هي آخر ما تشاهده عيناه، وفيها ستصعد روحه إلى السماء، ليخرج بعدها من نفس الحجرة جثة لا نبض فيها.
لكنه كان واثق الخطى، رابط الجأش، قوي الأعصاب، في قمة تركيزه واتزانه، وفي مثل هذا الموقف فإنّ عين المحكوم عليه بالإعدام، تقع أول ما تقع على الحبل المفتول الذي يتدلى من سقف المشنقة، لكنّ الحبل المشؤوم لم يكن هدفًا لنظرات سيد قطب؛ بل انشغاله بالشهادتين همسًا، كان قد نقله إلى عالم آخر يختلف كثيرًا عن عوالم المحيطين به.
لم تكن مصر تشعر بشيء، وكم عاشت مصر مع حكامها كالزوج المخدوع “آخر من يعلم”.
الصحف الصادرة صباح هذا اليوم غارقة لشوشتها في أخبار سباق القناة الدولي للسباحة، ولقاءات واجتماعات زعيم هذا العصر جمال عبد الناصر.
الغريب في الأمر أنَّ خبرًا واحدًا مما نشرته كل صحف ومجلات مصر في هذا الصباح، لم يقترب خطوة من سجلات وصحف التاريخ “الحقيقي” لمصر؛ بينما خبر إعدام سيد قطب بكل ثقله التاريخي، تتجاهله الصحف التي لم تستطع في هذا الصباح، إلا أن تنشر خبرًا بالصفحة الأولى، عن وفاة شرطي في حادث هجوم على سفارة فرنسا بالقاهرة، أثناء جهاده في مقاومة الطلبة الصوماليين؛ وكأنّ وفاة العسكري عبد المنعم أحمد عوض من فرق أمن الجيزة، أهم وأكثر إثارة للقارئ المصريّ، من خبر إعدام أكبر داعية إسلامي في هذا الوقت، أو أنّ جهاد الشاويش عبد المنعم في مقاومة الطلبة الصوماليين، أفضل منزلة من جهاد المفكر الإسلامي في مقاومة أعداء الإسلام، والدعوة لدينه الحنيف.
نقل كاتبو سيرة سيّد عنه عبارات عندما طُلب منه أن يسترحم عبد الناصر بعد صدور حكم الإعدام، فقال: “إنّ أصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية، ليرفض أن يخطَّ حرفًا يقرّ به حكم طاغية”، وقوله “لماذا أسترحم؟! إن سُجنت بحقٍّ، فأنا أرضى حكم الحقّ، وإنْ سجنت بباطل، فأنا أكبر من أن أسترحمَ الباطل”
“المانشيت” الرئيسي لجريدة الأخبار كان يقول بالحرف الواحد: “فاز حنفي بسباق القناة الدولي”، ثم تفاصيل الخبر، وصورة لبطل السباق على ثلاثة أعمدة، وفي الصفحة الثانية خبر كبير على ستة أعمدة يقول: “ثوار فيتنام أغرقوا سفينتين حربيتين أمريكيتين، ونسفوا كاسحة ألغام في سايجون”، وعلى الصفحة الثالثة تحقيق على ثمانية أعمدة، كتبه صلاح قبضايا تحت عنوان “قذائف من الجو إلى الأعماق، وأسلحة صاروخية مضادة للغواصات”، وأسفل الصفحة إعلان عن فيلم “سانجام” الهندي، أمّا الصفحة الرابعة، فقد امتلأت بتحقيق كبير، عن مصيف رأس البر، والخامسة يتصدرها موضوعان الأول: عن جيوش الفئران التي تهدد الإنتاج الزراعي في الفيوم، والثاني: عن مطاردة مهنة “حلاق الصحة” في محافظة البحيرة، والصفحة الرابعة تقدم خبرها الرئيسي، الذي كتبه جميل جورج تحت عنوان يقول: “40 دولة تشترك في سوق القاهرة الدولي”، ومحمد زكي عبد القادر -رحمه الله- يكتب عموده اليومي “نحو النور” عن تشجيع الالتحاق بمراكز التدريب المهني، ثم الصفحة الثامنة عن سباق القناة الدولي، كتب الصفحة دسوقي عثمان تحت عنوان: “حنفي الأول -جامع الثاني- وليامز الثالث”، سمير شديد أول الهواة وسامية مندور أولى السيدات، ثم الصفحة التاسعة التي يقدم من خلالها رشدي صالح “أخبار الفن”، تحمل موضوعا رئيسيا بعنوان: “ليلي رستم ترد على الهجوم الليلة”، أمّا الكاتب الساخر جليل البنداري، فقد كتب عمود هذا العدد عن وحشة القاهرة له وهو في بيروت، وأنّ أكثر الأشياء التي وحشته فيها الجلابيب البلدي، والطواقي والملاءات اللف وسلطانية الطرشي، ومواويل محمد طه، وفي الصفحة العاشرة موضوع كبير على خمسة أعمدة، اختير “مانشيتا” للصفحة، كتبه نبيل عصمت من بيروت بعنوان “ملكة جمال العرب”، نجحت الفكرة وفشل المهرجان، الصفحة قبل الأخيرة “الوفيات”، والصفحة الأخيرة تتصدرها صورة من أعياد البحرية، على أربعة أعمدة، ويوميات الأخبار بعنوان “هل يخلع أوثانت الحذاء الذي يؤلم قدمه”، بقلم حسين فهمي، وعمود مواقف لأنيس منصور كتبه في هذا الصباح عن إحدى زياراته لألمانيا.
هكذا كانت الأخبار الرئيسية الهامة في جريدة الأخبار صباح 29 أغسطس 1966، حيث جعلت خبر إعدام سيد قطب على الصفحة السادسة، على مساحة عمود في أقصى يسار الصفحة، في مكان غير ظاهر، وكتبت الخبر في أربعة أسطر فقط.. قالت في عنوان الخبر:
تنفيذ حكم الإعدام
ثم فصلت العنوان المبهم مكتفية بثلاثة أسطر:
“نُــفّذَ فجر اليوم حكم الإعدام، في كلّ من سيد قطب إبراهيم، ومحمد يوسف هواش، وعبد الفتاح إسماعيل.
والطريف في الأمر أنّ الجريدة نشرت في العمود المواجه لخبر إعدام سيد قطب، خبرًا واضحًا عن فيلم “امرأة من نار”، ونشرت أسفل خبر إعدام سيد قطب، إعلانًا عن فيلم “الأصدقاء الثلاثة”، ولم تكن تقصد الجريدة – قطعًا – أيّ تلميح، أو إشارة إلى إعدام سيد قطب وصديقيه، واللافت للنظر أن الصفحة الأخيرة صدرت بغير عمود “فكرة” الذي يكتبه الراحل الكبير علي أمين؛ لأن الدولة كانت قد اعتقلت مصطفي أمين قبل هذا اليوم بأسابيع قليلة، واضطر توأمه ألا يعود من رحلته إلى لندن.
لم يكن هذا هو حال جريدة الأخبار وحدها.
بل ربما كانت جريدة الأخبار أفضل حالًا من باقي الصحف الصادرة في هذا اليوم، ولم يكن هذا التجاهل الغريب من وضع وسائل الإعلام، لكن القيادة السياسية أمرت بألا يكون للإعلاميين أي حق في مناقشته.
لم يكن الشعب المصري يدري بما حدث.
يتبع في الحلقة القادمة بعون الله

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى