أنا ذهبت إلى بيت الله وأنت دعاك الله إلى بيته

الشيخ كمال خطيب
انتهى موسم الحج، وفي المطار المكتظ بالحجاج وبانتظار كل منهم طائرته جلس الحاج سعيد بجانب حاج آخر، وبعد السلام والتعارف وتجاذب أطراف الحديث قال الرجل الحاج سعيد معرفًا عن نفسه أكثر: أنا يا حاج سعيد أعمل مقاولًا كبيرًا وقد رزقني الله وفزت بمناقصة لتنفيذ مشروع كبير هو بالنسبة لي صفقة ومشروع العمر، فقررت أن يكون شكري لله على هذا العطاء أن أذهب للحجّ للمرة العاشرة. دعا له الحاج سعيد بالقبول لكن الحاج المقاول ومن باب الفضول سأل الحاج سعيد عن عدد حجاته.
أجاب سعيد أنها المرة الأولى التي يؤدي فيها الحج رغم عمره المتقدم ثم أسهب يقول: أنا أعمل منذ ثلاثين سنة معالجًا فيزيائيًا “فيزوترابيا” في مستشفى خاص، وخرجت للتقاعد وقد زوّجت بناتي والحمد لله، وبما تبقى لدي من مدّخرات فقد عزمت على أداء فريضة الحج.
وفي اليوم الذي أخذت كل حقوقي من محاسب المستشفى الخاص الذي أعمل به وإذا بأم أحد الأطفال الذين أعالجهم تقول لي وقد كسا وجهها الهمّ والأسى “استودعك الله يا أخ سعيد فهذه آخر زيارة لنا لهذا المستشفى”. استغربت من قولها وظننت أنها غير راضية من علاجي لابنها المصاب بشلل في أطرافه مع علمي بتحسن ملحوظ في حركاته، لكن المرأة قالت معتذرة: “بالعكس فقد كنت لابني أحنّ من الأب، وقد ساعده علاجك كثيرًا بعد أن كدنا نفقد الأمل في شفائه واغرورقت عيناها بالدموع.
ذهب سعيد إلى إدارة المستشفى وسأل المحاسب عن سبب خروج الطفل من المستشفى، فقال له إن هذا المستشفى هو خاص وليس حكوميًا وأن والد الطفل فقد وظيفته حيث يعمل ولم يعد بمقدوره تغطية مصاريف علاج ابنه. ترك سعيد المحاسب وذهب إلى المدير يرجوه الابقاء على الطفل في المستشفى لكنه رفض وقال هذا مستشفى خاص وليس جمعية خيرية ولا لجنة زكاة، ومن لا يستطيع الدفع فهو ليس بحاجة للعلاج هنا.
قال الحاج سعيد مكملًا حديثه للمقاول الحاجّ للمرة العاشرة: خرجت مكسوفًا مكسور الخاطر من عند المدير لأنه لم يستجب لرجائي، وأنا الذي عملت في هذا المكان منذ تأسيسه ولأكثر من ثلاثين سنة، وزاد في حزني رؤية الأم وطفلها عند الباب على الكرسي المتحرك وهو الذي بدأ يتحسن في علاجه، فما وجدت نفسي إلا وأنا أضع يدي على جيبي وفيه مدّخراتي المالية التي سأعطي بها تكاليف حجي الأول الذي انتظرته يومًا بعد يوم وسنة بعد سنة، ثم رفعت رأسي إلى السماء وخاطبت ربي قائلًا: “اللهم إنك تعلم أن ليس أحب إلى قلبي من حج بيتك وشوقي لزيارة نبيك صلى الله عليه وسلم، وقد سعيت لذلك طول عمري ولكنني مضطر وأنت ترى وتعلم أن أخلف موعدي معك فاغفر لي فأنت الغفور الرحيم”. ثم ذهبت إلى نفس المحاسب الذي أعطاني كامل مدّخراتي وأرجعت له كامل مدّخراتي أجرة لتغطية علاج الطفل عن ستة أشهر مقدمًا، ثم خرجت من عنده وهو ينظر إليها مندهشًا لا يكاد يصدق ما يسمع وما يرى!!!
رجعت إلى بيتي تغالبني دموع الحزن على ضياع فرصة العمر في الحجّ ودموع الفرح والرضا أنني فرّجت كرب تلك المرأة وطفلها المريض. نمت ليلتي ودموعي على خدي فرأيت نفسي في المنام وأنا أطوف حول الكعبة المشرفة ورأيت نفسي وأنا ألبس لباس الإحرام والناس يسلمون عليّ يقولون لي حجًا مبرورًا يا حج سعيد فقد حججت في السماء قبل أن تحجّ في الأرض. استيقظت من نومي تدغدغ مشاعري تلك الرؤيا التي لن تغير حقيقة أنني لن أذهب هذه السنة إلى الحج.
مرت أيام وإذا بهاتف البيت يرن، وإذا من الجهة الثانية مدير المستشفى الذي عملت به يستنجد بي ويتوسل إليّ أن ألبي له طلبه وأن لا يخيب أمله قائلًا: صحيح يا سعيد أنك خرجت من الوظيفة لكن أحد رجال الأعمال المستثمرين والذي يملك نصف أسهم المستشفى ينوي السفر للحج لأنه يعاني من آلام في رجليه، فكنت اتفقت مع زميلك المعالج الفيزيائي فلان يرافقه للحج ليعالجه عند الضرورة وأن هذا المعالج قد اعتذر بسبب قرب موعد ولادة زوجته. أرجوك يا سعيد أن تلبي طلبي وتذهب معه للحج وإلا فإن رفضت سيغضب الرجل وأفقد وظيفتي. ولتعلم يا سعيد أنت ستحجّ على نفقة رجل الأعمال وليس مطلوبًا منك أي إجراءات للتسجيل ولا أموالًا أبدًا.
ويكمل الحاج سعيد حديثه للمقاول في صالة المطار: ها أنا قد أكرمني الله بالحجّ وأصرّ الرجل مالك المستشفى أن يعطيني مكافئة مجزية جدًا لرضاه عن خدماتي، لا بل إنني كلمته عن المرأة وطفلها فأمر وهو في الحج وقد اتصل بمدير المستشفى أن يعالج الطفل على نفقته وأن تخصص وظيفة في إحدى شركاته لأبيه الذي فقد عمله.
نهض الحاجّ عن مقعده وقبّل رأس الحاجّ سعيد قائلًا: والله لم أشعر في حياتي بالخجل مثل ما أشعر به الآن وأنا أراك وأسمعك. كنت أحج المرة تلو الأخرى وأنا أحسب نفسي قد أنجزت شيئًا كثيرًا وعظيمًا لكنني أدركت الآن أن حجك أنت بألف حج من أمثالي يا حاج سعيد “أما أنا فقد ذهبت إلى بيت الله، وأما أنت فقد دعاك الله إلى بيته”. وقام والدموع تملأ عينيه ويقول اللهم اغفر لي اللهم اغفر لي.
إليـك إلهـي قـد أتيـت مُلَبـيـا فبـارك إلهـي حجتـي ودعائـيـا
قصدتك مضطـراً وجئتـك باكيـا وحاشـاك ربـي أن تـرد بكائيـا
كفانـي فخـرا أننـي لـك عابـد فيا فرحتي إن صرت عبـداً مواليـا
أتيت بلا زاد وجـودك مطعمـي وما خاب من يهفو لجودك ساعيـا
إليك إلهي قـد حضـرت مؤملا خلاص فؤادي مـن ذنوبي ملبيا
# أنا حبيبك في الدنيا وأنا شفيعك في الآخرة
ومثل قصه الحاج سعيد التي يرويها الدكتور الفاضل حسان شمسي باشا وأنا نقلتها بتصرف من كتاب -قلوب تهوى العطاء-فإنها القصة الشهيرة التي ترصّعت بها كتب السيّر والتاريخ، تروي حكاية العالم الجليل والمجاهد العظيم عبد الله بن المبارك وهو الذي عزم ذات سنة على الحجّ، فخرج إلى أصحابه ليودعهم ويسلم عليهم ويستميحهم إن كان قد أساء إليهم أو قصّر في حقهم.
وفي الطريق رأى مشهدًا ارتعدت فرائصه واهتز له كيانه وسالت منه الدموع. فقد رأى امرأة قبيل المساء ومع بداية الظلام وقد تعمدت الخروج في تلك الساعة تنحني على مكبّ نفايات تلتقط منه دجاجة ميته وتضعها تحت ذراعها وتنطلق في الخفاء وتحت جنح الظلام. فنادى عليها ابن المبارك قائلًا: ماذا تفعلين يا أَمَة الله؟ فقالت له وقد عرفته فهو العالم الشهير: يا عبد الله بن المبارك دع الخلق للخالق، فقال لها: ناشدتك الله أن تخبريني بأمرك. فقالت المرأة: أما وقد أقسمت عليّ بالله فلأخبرنّك، لكن دموعها أجابته قبل كلماتها وقالت: أليس الله قد أحلّ لنا الميتة؟ أنا امرأة أرملة لي أربعة بنات، غيّب الموت راعيهم واشتد بنا الحال ونفذ المال وطرقت أبواب الناس فلم أجد قلبًا رحيمًا، فخرجت ألتمس عشاء لبناتي اللاتي أحرق الجوع أكبادهن فرزقني الله هذه الدجاجة الميتة، فهل تجادلني في الحلال والحرام يا إمام؟!
فاضت عينا ابن المبارك بالدموع وذهب إلى بيته وأتى بالمال الذي كان قد ادّخره للحج وأعطاه للمرأة قائلًا لها: هذا المال لك ولبناتك ورجع إلى بيته، أما المرأة أم اليتامى فقد شكرته ورجعت إلى بيتها ولم تكن تعلم حقيقة هذا المال.
سافر الحجاج ورجعوا من سفرهم بعد أداء فريضة الحجّ، وكلهم يحدث زواره وأهل بلده وأهل بيته عن تفانى ابن المبارك في خدمتهم ويقولون رحم الله بن المبارك فما جلسنا مجلسًا إلا وزادنا فيه علمًا وفقهًا، ووالله ما رأينا خيرًا من ابن المبارك تعبدًا لله في الحج. عجب ابن المبارك من قولهم واحتار في أمره وأمرهم وهو يعلم أنه لم يغادر بلده ولكنه كذلك لا يريد أن يفصح عن سره مع تلك المرأة.
بات ابن المبارك ليلته تلك ليرى في المنام وجهًا يشرق ضياء ويتلألأ أنوارًا ويقول له: السلام عليك يا ابن المبارك، ألا تدري من أنا؟ أنا محمد رسول الله، أنا حبيبك في الدنيا، أنا شفيعك في الآخرة، جزاك الله خيرًا عن أمتى يا ابن المبارك لقد أكرمك الله كما أكرمت أم اليتامى، وسترك الله كما سترت اليتامى، وإن الله تعالى قد خلق ملكًا على صورتك قد حج عنك، وكان يتنقل مع أهل بلدك في الحج، وإن الله تعالى قد كتب لكل واحد منهم حجة وكتب لك أنت ثواب سبعين حجة.
هكذا إذن يجب أن يكون الفهم لمعنى رسالة الحج بل وكل العبادات في الإسلام. فليست العبرة بعدد المرات التي حجّ بها، ولا عدد الختمات التي ختم بها القرآن، ولا عدد الركعات التي يقوم بها الليل، وإنما العبرة بمقدار قبول الله لها وأساس ذلك القبول هو الإخلاص والصدق وإلا فكم من صائم لا يناله من صيامه إلا الجوع والعطش، وكم من مصلٍ لم تزده صلاته عن الله إلا بعدًا لأن صلاته هذه لم تبعده عن الفحشاء والمنكر.
إنه عبد الله بن المبارك الفقيه والمجاهد والعابد الذي ما فهم العبادة أنها اعتكاف في المسجد الحرام ولا مجالسة للحكام والسلاطين والتزلف إليهم بادعاء نصيحتهم، وإنما هو الذي فهم أن أعظم العبادة جهاد في سبيل الله، وأن أعظم الجهاد كلمة حق في وجه سلطان جائر. إنه ابن المبارك الذي كان يرابط على الثغور عند حدود بلاد المسلمين مع الروم، وسمع عن الفضيل بن عياض الذي اختار أن يجاور المسجد الحرام يعتكف ويتعبد فيه لله تعالى فأرسل إليه يقول:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبار خيل اللّه في أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب اللّه ينطق بيننا ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما سمع الفضيل ما قاله ابن المبارك بكى وبكى ثم قال صدق والله أبو عبد الرحمن.
فللذين يتباهون ويتفاخرون بعدد الحجّات والعمرات والطواف، طوفوا على بيوت الفقراء والمساكين، طوفوا على بيوت الأرامل والمرضى والمحتاجين، طوفوا على بيوت طلاب العلم بل طوفوا على المجاهدين الذين يسهرون على الثغور يدافعون عن الأرض والعرض والمقدسات. اجعلوا أموالكم في هذه الأبواب خيرًا لكم من أن تجعلوها في عمرات وحجّات تصبح سننًا بعد أداء الفريضة، بينما إغاثة الملهوف وإطعام الجائع هي فرض في كل زمان ومكان.
إننا نسمع وفي هذه الأيام بالذات عن أخبار المباهاة تنقلها وسائل الإعلام في السعودية أن جلالة الملك سلمان قد تعهد بتكاليف ألف حاجّ فلسطيني، وألف حاجّ سوداني، وألف من المسلمين الجدد وغير ذلك مما يسمونها مكرمة ملكية. والمضحك أن الخبر يفيد أن حجّ هؤلاء هو على نفقة الملك الخاصة أو على نفقة ولي عهده محمد بن سلمان، وكأن هذا المال الذي بين يديه هو مال أبيه وقد كسبه من كدّ يده ليس فقط أن هذا من مال الله الذي أنعم به على تلك البلاد من موارد إكرامًا لبيته الحرام ونبيه عليه الصلاة والسلام، بل إن عائدات ومنافع ملايين الحجاج والمعتمرين في كل سنة تصل إلى أربعين مليار دولار تدخل إلى خزينة الدولة، بل ولعلها تدخل إلى أرصدة المتنفذين فيها. وليس هذا وحسب بل إن تكاليف حفلة من حفلات الرقاصات والمغنيات اللاتي تقوم على دعوتهن هيئة الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف فإنها تفوق بمرات ومرات تكاليف استضافه ألف حاج بل آلاف الحجاج ممن يسمونهم ضيوف جلالة الملك، فعلى من تضحكون يا هؤلاء؟!!
أليست أموالكم تنتهك حرمات نساء اليمن، أليس بأموالكم تحاك المؤامرات على مصر وغزه وسوريا وليبيا والسودان وهناك يهلكون الحرث والنسل، فماذا سينفعكم أن تستضيفوا ألف أو آلاف الحجاج بينما يشرّد ويهجّر ملايين المسلمين بفعل مؤامراتكم.
وإذا كان عبد الله بن المبارك قد أعطى ماله الذي ادّخره للحجّ لتلك المرأة الفقيرة، فهكذا فهم الإسلام. وإذا كان عاب على صديقه الفضيل بن عياض أن يفهم العبادة أنها الاعتكاف بجانب الكعبة وفي المسجد الحرام، فقد قال له إن أفضل العبادة وخير الاعتكاف هو الرباط والجهاد لإعلاء كلمة الله ومقارعة أعداء الله.
فماذا عسى ابن المبارك يقول اليوم للعلماء المنخرسين بل الذين يزيّنون الفتاوى لإرضاء الظالمين من حكام مصر والإمارات والسعودية. ما بال هؤلاء العلماء الذين خطفوا منابر الخطابة ومنابر الافتاء لتصبح فتاويهم في أحكام الحيض والنفاس وكيفية وضرورة طاعة ولي الأمر وعدم الخروج عليه، لا بل إنهم الذين ذهبوا إلى أبعد من ذلك في تواطئهم وانخراسهم بالسكوت على الظلم الذي يقع على أخوة لهم من الدعاة والعلماء حيث يسجنون ويهانون ويتهددهم أوامر الإعدام التي ستصدر عن هؤلاء الفاسدين من الحكام.
قال الإمام أبو حامد الغزالي: “ما فسدت الرعية إلا بفساد الملوك، وما فسدت الملوك إلا بفساد العلماء”. وقال مصطفى صادق الرافعي: “لو نافق عالم الدين لصار كل منافق أشرف منه، فليست اللوثة في الثوب الأبيض كاللوثة في الثوب الأسود”.
أسأله سبحانه أن يعجّل بخلاصنا من الحكام الفاسدين الظالمين وأن يرزقنا بحكام صالحين، وأن يرزق الحكام بالعلماء العاملين المخلصين يكونون لهم بطانة خير، اللهم امين.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون