أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

في حضرة غياب الوعي

صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي
استهلال..
الوعي معلم هام من معالم الرقي الحضاري والتقدم المجتمعي في أي مجتمع كان، وللوعي مقاييسه وأدواته التي بها يتم فحص وعي شعب أو امة “ما”.
والوعي مرتبط بإدراك الفرد ابتداء، ومن ثم المجموعة التي يعيش في كنفها ومن بعدُ، المجتمع والشعب والامر متعلق في إدراك الامور التي تحيط بهم / بنا، والتفكير وإعمال العقل لفهمها فعملية الوعي لا تتم الا من خلال ثلاثية التكامل: القراءة والمعرفة والتحليل.
والوعي كذات له حدوده كما له محدداته بحكم أن الوعي حالة مستحدثة وتراكمية تراكم القراءات والمعرفة والتحليل بعدئذ تستوي على ناصيته. والوعي “كذات” تصدر عن نفس بشرية عاقلة لذلك يصبح التاريخ والجغرافيا وحركة الحياة سواء بأحداثها الجارية أو بالعادات والتقاليد والقيم، جزءا من محددات هذا الوعي، ومن هنا تحيله هذه المحددات الى تخصصات الوعي المختلفة كقولنا الوعي السياسي والوعي المجتمعي وهكذا… ويشكل الوعي السياسي المدماك الاساس في تحقيق متواليات الوعي المختلفة، ذلكم أنه يحتاج الى جهد خاص ليتحقق بمعنى انه لا يتحقق من خلال القراءات الصحفية مثلا او الاستماع الى نشرات الاخبار “فحسب”، فما بالك مع استعمالات العالم الافتراضي الرخيصة التي لا تتجاوز في كثير من الاحيان صورة وخبر بسطرين أو تعبير عن موقف “ما” .
أضع هذه المقدمة لتناول ما تعلق بأكبر عملية قرصنة هدم تمت في القدس منذ عام 1967 يقابلها قدوم مجموعة من الإعلاميين العرب الى البلاد حيث توافقت زيارتهم مع عملية الهدم، واخذت صورة الاعلامي السعودي في المسجد الاقصى المبارك وبعض من الشباب يتعرضون له زخما خاصا بل وذهب بعض المحللين والمتابعين للشأنين الفلسطيني والمقدسي الى أن حادثة الصحفي غطت على جلالة الحدث الكبير. وهذه القضية بتفصيلاتها “المفسبكة” وما جيء به من عوالم الافتراض كشفت عن حجم غياب الوعي الذي نعيشه نحن من نقارب الاحداث، فكيف بمن همه الاكل والطعام والرحلات وعالم الموضة وآخر صرخاتها؟

واقع مرذول يفرز تداعيات مرذولة
لا يختلف معي القارئ الكريم والقارئة الكريمة في أننا معشر العرب نعيش اسوأ اوضاعنا منذ البعثة المحمدية في معايشاتنا للصيرورات الزمانية وإلى هذه اللحظات، وما يمر على أمتنا العربية من تشرذم واقتتال واحترابات داخلية وبينية ما هو الا غيض من فيض هذا الواقع المرذول الذي بدأت خيوطه الاولى يوم قبل المسلمون العرب على أنفسهم حكما ملكيا أوصلنا الى لحظات الحكم العضوض والجبري الذي نعيش، وأورث الامة العربية نكالا لا تخطئه عين الباصر والناقد، ولأننا في هذا الواقع المرذول فإن افرازاته ستكون تبعا له، ولذلك فالاحتلال الاسرائيلي والاحتلال الايراني والاحتلال الروسي والاحتلال الامريكي واحتلال الجيوش العربية لشعوبها- الا ما رحم ربي- إفراز طبيعي لتلكم التراكمات المرذولة فلا غرو أن تكون زيارة هذه المجموعة من الصحفيين من ضمن سلسلة تلكم الافرازات السيئة المرذولة.
هذا الواقع السيء مثله كمثل لعبة الدومينو إذا سقط الحجر الاول سقطت باقي الحجارة، ومن منا ينكر أن السقوط العلني للحجر الاول كان عام 1977 عندما زار السادات المؤسسة الإسرائيلية، من هناك بدأت حجارة الدومينو تتساقط متجاوزين طبعا النكبة والنكسة وما بينهما، وأن يقوم وفد إعلامي عربي بزيارة للبلاد فهذا يقع ضمن نطاق البدعة العلنية الاولى التي قام بها السادات أحد قيادات ثورة الضباط الاحرار.
هذه المجموعة من الإعلاميين من السعودية ومصر والامارات والعراق جيء بهم الى بلادنا عبر الخارجية الإسرائيلية، وطبعا بمشاركة أجسام وهيئات أخرى للتواصل والاطلاع على الدولة العبرية التي استحوذت على عقولهم ليطلعوا على إنجازات هذه الدولة الفتية التي باتت مجموعات عربية لا نستطيع عدها الدقيق تعتبر اسرائيل وقيامها معجزة حري استلهام تجربتها، وبغض النظر عن دقة وصوابية هذا التوجه، فإنه يدل على حجم أزمة الهوية والوعي والثقافة التي تعيشها هذه المجموعة/ ات التي تفكر بهذا الشكل وهذا المنطق، إذ تغيب عنها حقائق الجغرافيا والتاريخ والدين وحركات الخَلق من العرب والفلسطينيين في مقارعة هذه الدولة التي تحميها منظومات دولية كاملة.
وحتى تكتمل سودواية المشهد العربي لهذه المجموعة من الاعلاميين تم تنظيم زيارات لهم مبنية على أساس من اختراق نهائي للوعي وعرقلة استرداده في ظل الغياب والتغييب المتعمد والمبرمج الذي يمضي به الحكام العرب وأجهزتهم الأمنية، إذ تتواطأ على تمريره دول البغي العربية ومعها انظمتها الاستخباراتية المختلفة وما اكثرها في دنيا العرب، إذ لا يمكن لعاقل أن يصدق ان هذه المجموعة من الإعلاميين جاءوا الى إسرائيل دون موافقة من مخابرات دولهم أو بتشجيع منهم وبتمويل من جهات عدة قد لا تكون اسرائيلية بالضرورة، وهنا أترك لعقل القارئ الكريم والقارئة الكريمة العنان ليسبح في التفكير وينظر مليا في هذه الجيئة وما تحمل معها.
مصلحة إسرائيلية
اسرائيل كدولة احتلال من مصلحتها أن تبيّض وجهها وأن تواصل الليل بالنهار لتحقيق هذه العملية خاصة بين أبناء العروبة من حيفا حتى طنجة لا تستثني احدا قط، وتتعامل مع كل من عنده الاستعداد لمجرد الاستماع الى روايتها ولذلك فهي تبحث بإبرة وفتيلة عن كل شخص يمكنه أن يساعدها لتحقيق هذا الهدف: إنها دولة تريد العيش بسلام ولا تبغي سوى هذه القطعة الصغيرة من الأرض، وبالتالي فكل معترض على هذا الهدف النبيل هو في عداد الارهابيين ورافضي السلام والكاره للشعوب والمناهض للقيم الإنسانية، وفي ظل غياب وعي تاريخي وجغرافي وسياسي، وفي ظل غياب وعي ديني واجتماعي ومجتمعي، تصبح الدعاية لتحقيق هذا الهدف” النبيل” جد ميسور، خاصة إذا تزامن مع إرادة من الحكام المستبدين ومن يدور في فلكهم من أصحاب الأهواء والمصالح. ولذلك من مصلحة اسرائيل استقدام أمثال هؤلاء للترويج لروايتها، خاصة وانها تجعل محورها الاخلاقي “الهولوكست” أي المذابح والابادة التي تعرض لها يهود أوروبا، لتتشابك في تلكم اللحظة في محطات الوعي المغيب معطيات الواقع، مع جدل حق الحياة ومعاني الانسانية ليتحول هؤلاء القادمون الى اسرائيل لخط دفاع اول عنها وعن سياساتها. عندئذ يكون هدم بيت أو ألف بيت سواء، ذلكم انها تفعل ذلك دفاعا عن نفسها ووقوفا أمام الارهاب الفلسطيني الاسلامي “تحديدا” وفي سياق الحرب على الارهاب يصبح كل فعل إسرائيلي مبرر مرتين، مرة من الناحية الأخلاقية، ومرة من الناحية السياسية، وهكذا يذبح شعب وتدمر مبانيه على رأسه وتجد في العالم من يطبل للفاعل برسم أنه يدافع عن نفسه.
هكذا تجري الأمور في سوريا واليمن وليبيا وهكذا تجري على أرض فلسطين التاريخية.
ونحن أمة عادة ما تستدر بالعاطفة وتتحكم بها المشاعر، وبالنسبة للإسرائيليين تلكم فرصتهم لعرض عذاباتهم التاريخية وخاصة مذابح الإبادة النازية التي تستدر عاطفة كل بشر، والحق أن اسرائيل حققت كسبا سياسيا أخلاقيا لا يزال يضاف الى رصيدها في هذا المضمار، ولا ترعو في الدعوى أن ليس لهم مكان في الارض يذهبون إليه، وفي عصر برمجة العقول حيث تختصر الحيوات بمجموعات من الكلمات الركيكة عند الغالبية الساحقة من البشرية عبر أدوات التواصل، فلماذا لا تستفيد اسرائيل من هذه الثورة، وهي اليوم واحدة من اركان هذا العالم “الافتراضي” الذي يمور مورا ويؤثر على مليارات البشر ومنهم العرب من المحيط الى الخليج.
في غياب وعي عربي يكاد يكون عامّا وطامّا نزل على الامة، الا القليل من أبنائها من المغيبين في السجون والمعتقلات أو من المشردين في أصقاع الارض أو منزو لا يجرؤ على الكلام، تتم عملية صناعة الانسان العربي المستأنس، وهذه الزيارة جزء من هذه العملية.
وفي ظل استعلاء ثقافات الاستهلاك والشهوات وتراجع القيم الدينية والاخلاقية والوطنية لصالح قيم عولمية كونية تخدم أجندات الكبار، خاصة الولايات المتحدة الامريكية، فمن الطبيعي أن يتسور المحراب من بيده ناصية المراقبة والتغيير والتوجيه، وفي مثل هذه الحالة تتقدم الحضارة الغربية تقذف بقيمها وأخلاقها ويتلقفها شبابنا المغيب عن دينه وقيمه ووطنه، فتكون زيارة وفد لإسرائيل زيارة معيارية بامتياز بالنسبة لإسرائيل، التي تطمع ان تكون رأس حربة “الديموقراطية” في عالم العرب المبتلى بأنظمة شمولية فاسدة، وهي التي تتحسب من كل حركة وهبة جماهيرية على قاعدة “هم العدو فاحذرهم”، من أجل ذلك سعت بكل ما أوتيت من قوة لمنع العرب من تحقيق حلم حريتهم وتحقيق نظام حياة كريم فكانت انقلابات وسالت دماء ودمرت دول وشعوب، إذ تتضافر اسرائيل ودول الاستبداد وتجتمع معا للحيلولة دون فكاك العرب من استعمارات جيوشها ومخلفات سايكس بيكو، فما قامت اسرائيل الا بمساعدتهم وبفضلهم، ووجود هذه الأنظمة هو استمرار لغياب وتغييب الوعي، إذ في ظل وعي خلاق لا وجود لهذه النطيحة والمتردية من الانظمة والحكام، ومن أجل بقائها على استعداد للتضحية بملايين الافراد ودفع الالاف منهم ممن ارتضوا سيادتهم ليكونوا جسورا في استمرار صناعات تغييب الوعي، ولذلك كانت هذه الزيارة جزءا من هذه السياسة التي يُعمل على استدامتها بل وتطويرها.
عديد المعلقين في العالم الافتراضي ذهبوا الى أن هذه الزيارة وما نشر عن كيفية استقبال بعض الشباب في المسجد الاقصى للإعلامي السعودي جاء ليغطي على مجزرة الاحتلال بهدم مئة بيت في صور باهر ووادي حمص التابع عمليا وقانونيا وفقا لاتفاقية اوسلو للسلطة الفلسطينية، والحقيقة في تصوري ليست كذلك، فالاحتلال اليوم يمارس طغيانه علنا وبحماية اورو-أمريكية-عربية، ولا يخفي علوه واستعلاءه، خاصة وأن سلطة رام الله تتعاون معه أمنيا وتَعتَبرُ التعاون الامني أمرا مقدسا لا محيص عنه. فالاحتلال في تعاطيه مع الملف الفلسطيني ينطلق من منطلقات أمنية، باتت مؤخرا تتجلبب عند البعض بمنظار ورؤية دينية، بيدَّ ان البعد الامني هو المحدد الوحيد اسرائيليا في التعامل مع الفلسطينيين اينما كانوا، وخاصة في الاراضي المحتلة عام 1967، ومن هنا وجب التفكير على هذا الأساس في اسباب الهدم-طبعا هذا أمر غير مبرر-والتعامل معه بناء على هذا المنطق.
لا نشك للحظة أن الاحتلال يستغل غياب الوعي العربي لتمرير سياساته، بل والترويج له، إذ هو اليوم شريك في الحرب على الارهاب اي على الحركات الاسلامية وفي المقدمة منهم الاخوان المسلمين، ولذلك فإن الانظمة العربية التي تهدم وتقتل يوميا شعوبها لن يضيرها لو قامت اسرائيل بهدم آلاف المنازل وقتل آلاف الفلسطينيين.

لو كنت في القدس
لو كنت مكان الأخوة في مدينة القدس ورحاب الاقصى الشريف ما استقبلت هذا الاعلامي السعودي بهذا الاستقبال فهذا الاعلامي المعبأ من بعض عناصر دولته والمغيب وعيا، كان يمكننا اصطحابه الى مكان الهدم في صور باهر ووادي حمص، ليرى بأم عينيه كيفية الهدم ولماذا تمَّ الهدم خاصة وانه تمَّ في منطقة لا يجوز للاحتلال دخولها، فكيف بهدم البيوت فيها، هذا إلى جانب أنهم هدموا في منطقة لسلطة تتعاون أمنيا مع الاحتلال وهي واياه حرب على “الإرهاب”.
كان بالإمكان استقباله وبيان فساد ما يقوم به ولماذا نحن الفلسطينيون نرفض التطبيع، وإن كان معه مرافق لا نعرف هويته، ذلكم أن امثال هذا الاعلامي من العرب تحديدا يحتاجون الى كي الوعي ولا يتم كي الوعي الا بمصارحة كاشفة ناصعة لاشية فيها، فهم يعيشون حالة من غياب وتغييب الوعي، وهؤلاء يعيشون ضغثا على ابالة ويعتقدون انهم على حق فالحاجة الى كسر أسوار اغلاقات العقل ماسة.
وماذا سنخسر نحن يوم أن نطلع هذا الوفد الذي جيء به خصيصا لتدمير وعيه نهائيا إن وضعناه تحت محك الواقع وطالبناه بالمجيء ليرى روايتنا التي تقابل روايتهم، كيف يسرقون الارض والماء والمعادن والحياة وكيف يهدمون البيوت والمساكن والطرقات وكيف يسرقون البسمة من وجه الانسان الفلسطيني مع علمنا بمهمته التي من أجلها جيء به فهو ليس أول مطبع ولن يكون في عصر الرويبضات آخرهم.
وما يضيرنا أن هذا الوفد تحدث للإعلام العبري ولوسائل إسرائيلية مختلفة، ونعلم أنه نافقهم فهم يدرسون ويٌدَرَسون النفاق السياسي وقد أدرك هؤلاء بحسهم الذي طوروه كيف يمكنه المضي قدما مع هؤلاء الذئاب التي يقومون على خدمتها، فالوفد يزعم انهم في جنة ومذهولون من عظمة ما رأوه في اسرائيل من رقي وتقدم، وهم على كل الاحوال معذورون اذ في بلادهم لا يرون الا ما يريد أسيادهم أن يروه.
كان حريا بنا أن نحاورهم ونبيّن لهم سوء ما فعلوه وحجم الطعنة التي وجهوها ليس للشعب الفلسطيني والقضية الفلسطينية، بل لقضية الامة الاولى: قضية القدس والمسجد الاقصى المبارك، وأن نبيّن لهم حجم الإثم الذي ارتكبوه بحق أنفسهم وبحق شعوبهم وضرورة أن يتوبوا، فكما أن هناك توبة من الاثم والمعصية والعصيان، هناك توبة سياسية عن سوء ما يفعلون وهم يظنون انهم يحسنون صنعا. ويوم يرفضون الاستماع لنا ولأقوالنا وحججنا يومئذ يحق لنا أن نتحدث وفي جعبتنا الكثير الذي نتحدث عنه وفيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى