أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

يسألونك عن البديل للكنيست الصهيوني! (2)

حامد اغبارية

كما كنت قد ختمت القسم الأول من هذا المقال، فإنه رغم كل الظروف التي يمكن أن يظنَّ كثيرون أنها عقبةٌ في طريق إسقاط خيار الكنيست الصهيوني، واعتباره مرحلة سوداء في تاريخ شعبنا، حريٌّ به أن يجعلها وراء ظهره، وأن يتطهر منها، ويشطبها من تاريخه نهائيا، بل ويعتذر عنها، لأنها في حقيقة الأمر سقطةٌ على المستوى التاريخي والوطني والأخلاقي – السياسي، وينتقل إلى مرحلة جديدة من حياته؛ ورغم أننا، في هذه المرحلة على الأقل، لسنا ملزمين بتقديم بديل فوري ونهائي ثابت الأركان، ورغم أننا لا نزعم أننا نملك حلولا سحرية تنقلنا إلى مرحلة الانعتاق من قيود اللعب داخل ملعب السياسة الإسرائيلية، ورغم أنه يكفينا الآن – كما ذكرت سابقا- أن نرفض المشاركة في الكنيست من منطلقات مبدئية، ورفضًا للظلم الصادر عنها تجاهنا، وتجاه قضية شعبنا الفلسطيني، وتجاه كل ما يتعلق بالمقدسات والأوقاف والأرض والحريات الدينية والسياسية والفكرية والإعلامية، ورغم أنه تكفينا الإشارة إلى أن الطريق عبر الكنيست يعني الوصول إلى حافة الهاوية، ويكفينا كشف الحقيقة وإزالة الغِشاوة عن عيون الناس فيما يتعلق بهذه القضية، فإننا في الحقيقة عندنا بدائل كثيرة، ولكن حتى نحقق هذه البدائل لا بد من شروط، أوَّلُها أن تكون لدينا إرادة جماعية، بعد أن نحدد البديل أو البدائل، ثم أن تكون لدينا القناعة التي لا يداخلها شكٌّ أننا نستطيع العيش بكرامة بعيدا عن الكنيست، الذي لم يحقق لنا أية كرامة، بل على العكس من ذلك. لا بدّ من توفر القناعة حتى نتقدم خطوة إلى الأمام، تتبعها خطوات. ودون ذلك فإن عجلات العربة ستبقى تدور في مكانها، وستتفاقم الأزمة حتى نغرقَ جميعا في مستنقع التجاذبات والأقطاب المتنافرة، وسيسوء حالنا أكثر مما هو عليه الآن.
وحتى يتحقق لنا الانتقال إلى مرحلة جديدة نظيفة، نتنسَّم فيها نسائم الانعتاق والتحرر من تلك القيود والأغلال التي وضعناها بأنفسنا حول مصيرنا ومستقبلنا، لا بد من التضحيات. إذ لا يمكن لأمة أو شعب النهوض إنسانيا وحضاريا إلا بتقديم التضحيات. والتضحية المطلوبة منا عمليا ليست من تلك التضحيات الممهورة بالدماء، كما قد يصوِّرها بعض المتفلسفين- المثبِّطين الذين لا يريدون التضحية ولا يريدون لغيرهم أن يضحي، بل هي تضحية متواضعة نقدر عليها، وهي التنازل عن “الامتيازات” الضيقة، وعن “الإنجازات” الوهمية التي خدعنا بها أنفسنا على مدار سبعة عقود. ثم يلي ذلك نوع آخر من التضحيات؛ وهو الصبر على صعوبات وتعقيدات وعقبات ستشوب مرحلة الانتقال من الوضع الحالي إلى الوضع الجديد. وهذا في الحقيقة يحتاج إلى قوة إرادة وعزيمة وإيمان راسخ بأنه بعد هذا الصبر – طالت فترته أم قصُرت- لا بد من الانفراج، ثم الانطلاق.
ونحن هنا لا نسوق بدائل جديدة لم يسمع بها أحدٌ من قبل، وإن كان هناك من يتنكّرون لها، ويرفضونها، ويستهينون بها، ويستصغرونها، ويقللون من شأنها، ويشككون في نجاعتها وإمكانية نجاحها، وذلك تحقيقا وانتصارا لمصالح فئوية وحزبية ضيقة، لا يمكنهم تحقيقها إلا من خلال ربط مصيرهم بالكنيست وتوابعه. وحريُّ بهؤلاء أن يطلبوا لأنفسهم الشفاء من هذه العلة، وأن يتنازلوا عن المصلحة الضيقة تحقيقا للمصلحة العامة، وأن يضربوا لشعبهم مثلا في إنكار الذات، والتضحية بما يسمونه “امتيازات” أو “إنجازات” هي في الحقيقة لا تساوي شيئا إذا ما قيست بالمصلحة العامة، وبمصائر الشعوب ومستقبلها، بل وتشكل عقبة في طريق تحقيق البديل. وحتى أكون أكثر وضوحا، فإن المقصود بهذا الكلام هو كل الأحزاب والأطر السياسة التي ربطت مصيرها بالكنيست، وكل إطار سياسي جديد ظهر مؤخرا أو سيظهر مستقبلا من أجل خوض انتخابات الكنيست تحديدا، وليس لأجل أي شيء آخر له علاقة بالهمّ العام، ولا بمصلحة مجتمعنا، ولا بقضايانا الوطنية. فلا علاقة للكنيست بقضيتنا الوطنية، ولا بهويتنا ولا بانتمائنا لشعبنا الفلسطيني وعالمنا العربي وأمتنا الإسلامية. وكل من يزعم أن الهدف من الذهاب إلى الكنيست هو عمل وطني، أو تحقيق لأهداف وطنية فهو لم يقرأ التاريخ، وهو مخادع مضلِّل مشوِّه للحقيقة. هم يعرفون هذا، ونحن نعرف هذا، والنتائج أمام الجميع، يستطيع أن يقرأها من يريد الحق، أما المماليء المكابر، أو ذو المصلحة الضيقة (شخصية أو حزبية) فلا فائدة تُرجى منه، وإن كنا نطمع أن يتوقف قليلا ويفكر برويَّة ويقرأ المرحلة السابقة، ثم ينظر تحت قدميه ليرى ما حققه حتى الآن!! فإن كان صادقا مع نفسه، فسيكتشف أنه يقف فوق صفر من الإنجازات، وأن كل “الإنجازات” التي يزعم أنه حققها هي في حقيقة الأمر تحصيل حاصل، لأنها من واجبات المؤسسة الحاكمة، ولسنا في حاجة إلى عضوية الكنيست من أجل تحقيقها، بل عند الضرورة يمكن تحقيقها بالوسائل الشعبية الجماهيرية الضاغطة (إذا لم تتحقق تلقائيا وبشكلها الطبيعي). وإذا كان هناك من يمكن أن يأتينا ويشكك مستهينا بأهمية الضغط الجماهيري، فلينظر حوله وليرَ بأم عينيه مدى تأثير الهبَّات الجماهيرية – الشعبية من حولنا، وليسأل نفسه: لماذا يزعم الذاهبون إلى الكنيست أن ذهابهم إلى الكنيست هو “إرادة شعب”؟ ولماذا يلجأون إلى حشد الجماهير في الميادين والشوارع في المحطات المفصلية وفي الأزمات؟!!
لقد بدأ تمثيل “عرب الداخل” في الكنيست الصهيوني مباشرة بعد أشهر قليلة من النكبة، وتحديدا في 25\1\1949، وهذا بحدّ ذاته مأساة. وقد كان ذلك بمبادرة من المشروع الصهيوني، الذي رأى أن من وسائل تحقيق سيطرته على فلسطينيي الداخل، خاصة في حقبة الحكم العسكري (21 تشرين الأول 1948- 1 كانون الثاني 1966 وألغيت جميع قيوده نهائيا يوم 22\9\1967)، وعزلهم عن امتدادهم الفلسطيني والعربي والإسلامي، ووضعهم داخل جيتو إسرائيلي، هو إدخال أعضاء عرب إلى الكنيست من بوابة الأحزاب الصهيونية (مثل مباي ومبام وغيرهما من الأحزاب التي ظهرت لاحقا). وهنا علينا أن نتأمل جيدا، من هم أعضاء الكنيست الذين دخلوها منذ الكنيست الأولى ولغاية سنوات السبعين (قبل يوم الأرض)، ثم سنوات الثمانين (قبل الانتفاضة الأولى)؟ والسؤال ليس عن أسمائهم (فهي معروفة!!) بل عن مواقفهم وأفكارهم والدور الذي أدَّوْه. وهل كان دخولهم بدوافع وطنية أم خدمة لأهداف المشروع الصهيوني؟ وهل تغير شيء منذ ذلك الوقت إلى الآن؟ نعم، قد يأتي من يقول إن أولئك الأوائل خدموا المشروع الصهيوني جهارا نهارا، وساهموا في السيطرة على فلسطينيي الداخل، ولكن الأمور تغيرت، وأصبحت عندنا أحزاب وطنية مستقلة عن الأحزاب الصهيونية. هذا صحيح، بشكل أو بآخر، ولست هنا أناقش وطنية الأحزاب الحالية وطروحاتها، وإنما نقاشُنا يدور حول: هل الذهاب إلى الكنسيت هو عمل وطني أم يصب في نهاية المطاف في مصلحة المشروع الصهيوني؟ وجهة نظري التي أؤمن بها إيمانا راسخا، وفي الآثار والنتائج خير دليل، أن المشاركة في الكنيست تخدم المشروع الصهيوني، حتى لو كان ذلك بصورة غير مباشرة، وربما عن غير قصد من بعض الأحزاب (هناك أحزاب فعلت ذلك وتفعله عن قصد).
من هنا لا بد أن نستوعب أنه منذ البداية، ومباشرة بعد وقوع النكبة على شعبنا الفلسطيني، لم تكن نية لدى المؤسسة الإسرائيلية استيعاب أو دمج فلسطينيي الداخل، وإنما على العكس من ذلك، عملت على تهميشهم ووضعهم داخل جيتوات جغرافية غير قابلة للتطور والاتساع، (المدن والقرى والتجمعات التي حوصرت عبر السنوات بمستوطنات يهودية) وإهمالهم واستثنائهم من الحياة الإسرائيلية العامة، وفي المقابل وضعت تلك المجموعة من الشعب الفلسطيني تحت المجهر الأمني، وأخضعتها للرقابة المشددة من قبل الأجهزة الأمنية الإسرائيلية المختلفة (الشرطة والشاباك وغيرهما)، بهدف حرمانها من التحكم بشؤونها الخاصة، وتطوير ذاتها ومجتمعها، وبناء مستقبلها في مختلف المجالات الحياتية، وعرقلت كل محاولة لبناء مؤسسات وطنية حقيقية، وتعاملت مع الجمهور الفلسطيني باعتباره تهديدا أمنيا وديمغرافيّا، ولذلك تعاملت معه من خلال أنظمة الطواريء، بل هي تعيش في حالة طوارئ منذ 1948 ولغاية لحظة كتابة هذه السطور، وإلى ما شاء الله (للمزيد: راجع كتاب: المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني- دراسة واقع الأقلية العربية في الداخل الفلسطيني، مركز الدراسات المعاصرة، أم الفحم، 2006، ص 9-18).
هذه هي حقيقة وضعنا، الذي ساهمنا نحن أيضا (من خلال سلوكنا السياسي والفكري) في إنشائه، ونتحمل جزء كبيرا من إثم تبعاته وآثاره. فما العمل إذاً؟
سأحاول أن ألخّص ما يمكن اعتباره بديلا حقيقيا ممكنا وعمليا، في أربع نقاط أو أربعة مجالات، سآتي على تفصيلها في الجزء الثالث وما سيليه من هذا المقال. والمجالات الأربعة هي: لجنة المتابعة، بناء المؤسسات المتخصصة، المجتمع العصامي، العمل الشعبي- الجماهيري. ومن البداية يمكن القول إن هذه النقاط الأربع مرتبط بعضُها ببعض برباط وثيق هو الضّامنُ لنجاحها، وتشكل هرما قاعدتُه العمل الشعبي- الجماهيري، ورأسه لجنة المتابعة، وبينهما مؤسسات تعمل في مختلف المجالات، من خلال إطار المجتمع العصامي. يتبع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى