أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

خواطر شامية

الشيخ كمال خطيب

في العام 1962 كان المرحوم الدكتور مصطفى السباعي الحمصي السوري يسجل خواطره القصيرة والتي تسمى اليوم في عالم الفيس بوك وتويتر “تغريدات” والتي بلغت 1174 خاطرة، وذلك خلال وجوده مريضًا في المستشفى والتي جُمعت بعد ذلك في كتاب سمي “هكذا علمتني الحياة” صدرت الطبعة الأولى منه في العام 1999، وقد قام على جمع ذلك الإرث المبارك أبناؤه وأحفاده.
حبًا وعرفانًا للراحل الشيخ السباعي فإنني أقتبس بعض خواطره لأن صدق قلم كاتبها ونورانية قلبه تجعلك تشعر بأن ما قاله يومها فإنه كان يصلح ليومها وليومنا هذا، بل ولأيام ستأتي من بعدنا.

لو كنت
“لو كنت متوكلًا على الله حق التوكل لما قلقت للمستقبل، ولو كنت واثقًا من رحمته تمام الثقة لما يئست من الفرج، ولو كنت موقنًا بحكمته كل اليقين لما عبت عليه في قضائه وقدره، ولو كنت مطمئنًا إلى عدالته بالغ الاطمئنان لما شككت في نهاية الظالمين”.
وإذا كانت خاطرة الشيخ السباعي تعتبر رسالة عامة لكل زمان ولكل مكان، إلا إنني أجدها تصلح أكثر ما تصلح لأهل مدينته حمص ولأهل وطنه سوريا التي دمرها الطاغية بشار وشرّد أهلها وحولهم إلى لاجئين وهائمين على وجوههم. إنها رسالة لهم ولنا نحن أبناء الشعب الفلسطيني ولأبناء الشعب المصري والسوداني والجزائري واليمني والليبي، ولكل شعوبنا المقهورة المظلومة التي يريد لها الطواغيت أن تقبع في خانة اليأس وأن تنظر إلى المستقبل نظرة متشائمة سوداوية لا ترى فيها أملًا بالفرج ولا ثقة بتغيير الحال وزوال وهلاك الطواغيت من الزعماء الفاسدين.
إنه يدعونا رحمه الله لصدق التوكل على الله سبحانه، لأن في صدق التوكل طمأنينة للمستقبل بلا قلق ولا توجس مهما اشتد الخطب وادلهّم الليل ولسان حاله يقول (لو كنت)، أي يجب عليك أن تكون متوكلًا وواثقًا وموقنًا ومطمئنًا، متوكلًا للمستقبل الآتي وواثقًا بالفرج القادم وموقنًا بتدبير وحكمة الله في كل ما يحصل، ولعل من حكمته إيقاع أشياء نحن نكرهها لكنه سبحانه يعلم أن فيها الخير كل الخير، ثم في النهاية عليك أن تكون مطمئنًا بالغ الاطمئنان بلا ريب ولا شك بنهاية الظالمين وزوال ظلمهم، وإن بدا لك ولهم أنهم مخلدون وأنهم لا يُغلبون، لكن حسن توكلك عليه سبحانه وإيمانك به تجعلك تعيش هذه الطمأنينة بأن الله سبحانه لا يغفل عما يعمل الظالمون، وإنما حكمته وقدره وتدبيره في تحديد زمان وقوع ناموسه العادل عليهم كما قال الشاعر يناجي الخالق سبحانه:

لأنك الله لا خوف ولا قلق ولا عزوب ولا ليل ولا شفق
لأنك الله قلبي كله أمل لأنك الله روحي ملؤها الألق


الدين والتربية

قال رحمه الله في خاطرة من خواطره: “الدين لا يمحو الغرائز ولكن يروضها، والتربية لا تغيّر الطباع ولكن تهذبها”.
نعم لقد خلق الله سبحانه وتعالى فينا بعض الغرائز والنزعات والطباع، ولكل منها فوائد وغايات إن تم استخدامها واستغلالها وفق الحكمة التي أرادها الله سبحانه وتعالى، فالدين وأحكام الشرع الحنيف ما أرادت لهذه الغرائز أن تقمع لأن في هذا منافاة للفطرة، ولا أراد لهذه الغرائز أن تنفلت ويطلق لها العنان لأن في هذا الشر المستطير، وإنما كان الدين وأحكامه من أجل ترويض هذه الغرائز واعتدالها، لذلك فقد حرّم الإسلام الرهبانية والعزوف عن الزواج، بل إن الزواج والعلاقات الزوجية من سنن الإسلام وسنن الفطرة، وفي المقابل فإن الإسلام حذّر ونهى من انفلات هذه الغرائز ليصبح الإنسان شهوانيًا بل حيوانيًا في ممارسة وإطلاق هذه الغرائز.
إنها وسطية الإسلام، لا تطالبنا بالملائكية لأننا ما خلقنا لنكون ملائكة، ولكنها بالمقابل تنهانا أن نتحول إلى شياطين ونحن ما خلقنا لنكون شياطين.
ومثلما أن الدين ما جاء ليمحو ولا ليقمع ولا ليحارب الغرائز، وإنما جاءت أحكام الشرع الحنيف من أجل ترويضها وضبطها، كذلك فإن التربية لا تغير الطباع وإنما تهذبها وتقوّم سلوكها.
إن في الإنسان طباعًا مثلما أن في الحيوان طباعًا، وهذه وتلك إنما جعلها الله سبحانه لتناسب الغاية التي لأجلها خلق الإنسان وخلق الحيوان، ولكن هذه الطباع تكون قابلة عند الإنسان للكبت وفي هذا ضرر، وتكون قابلة للانطلاق وفي هذا ضرر كذلك، فكانت أحكام الدين من أجل تهذيب هذه الطباع، لذلك كانت الخاطرة الأخرى للشيخ السباعي رحمه الله التي تقول: “إذا همت نفسك بالمعصية فذكرها بالله فإذا لم ترجع فذكرها بأخلاق الرجال، فإذا لم ترجع فذكرها بالفضيحة إذا علم بها الناس، فإذا لم ترجع فاعلم أنك تلك الساعة قد انقلبت إلى حيوان”. نعم أنه الميل للمعصية معناه إطلاق الغريزة وانفلات الطباع، والعاقل عليه أن يضبط غريزته وأن يهذب طباعه وإلا فإنه عند ذلك سيتحول إلى حيوان هائج الغريزة منفلت في الاستجابة لغرائزه الحيوانية والسبعية التي من مظهرها الحاجة الجنسية الغرائزية ومنها كذلك العدوانية والافتراس، كما هي غريزة وطبع السبع والوحش.
إن كل الذين يتهمون الدين ويحاربون أحكامه ولا يريدون الالتزام بضوابطه فإنما هم الذين يريدون إطلاق العنان لغرائزهم ويبررون ويفلسفون انفلات طباعهم، وباختصار إنهم يريدون لهذا الإنسان الذي كرّمه ربه سبحانه أن يغرق في طوفان الغرائز وأن يصبح عبدًا أسيرًا لطباعه وفي هذا الشر المستطير، ولنا في مجتمعات كثيرة المثال والعظة والعبرة.
إن مصطلحات الكبت والقمع والتسلط والتحريم التي يطلقها هؤلاء في محاولة تشويه أحكام الدين، فإنها لم تأت إلا في سياق رغبة هؤلاء للعيش في مجتمع منفلت الغرائز هائج الطباع وهذا المجتمع ليس مجتمع الإنسان الذي كرّمه الله تعالى ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وجعله خليفته في أرضه. وأما دعاة هذا الانفلات وهذه الثورة الغرائزية، فإنهم شرّ الناس على الإنسانية مهما كان لشعاراتهم من بريق ومهما كان كلامهم معسولًا ومزخرفًا.

اعتذار
قال الدكتور الشيخ مصطفى السباعي رحمه الله في خاطرة من خواطره: “قيل لخطيب منافق لماذا تتقلب مع كل حاكم؟ فقال: هكذا خلق الله القلب متقلبًا، فثباته على حالة واحدة مخالفة لإرادة الله”.
بربكم أليست خاطرة كتبها صاحبها وكانت زفرة من زفرات ألم في العام 1962 تصلح، بل كأنها كتبت لتعبر عن الألم والوجع الذي يصيب كل واحد منا ونحن نرى تقلب مواقف العلماء والخطباء في العام 2019.
هكذا يبررون ويفلسفون سقطاتهم وزلاتهم، وهكذا يوجدون الإجابة لمن يسألهم عن هذه الحالة الزئبقية من التقلب والتلوّن. إنها حكمة الله وإرادة الله حسب زعمهم أن يتقلب القلب ولا يثبت على حال، وكأنه ليس من إرادة الله ولا من نداء الله للعلماء والدعاة بأن يثبتوا وأن يصبروا وأن يظلوا مع القرآن يدورون معه حيث دار إذا اختلف القرآن والسلطان، وإذا بهم يختارون الانحياز إلى السلطان وليس إلى القرآن ويدورون مع السلطان حيثما دار بينهما يديرون الظهر للقرآن، لكأني بالمرحوم الشيخ السباعي وهو يعنون من خاطرته رقم 138 في صفحة 42 من كتابه بعنوان “اعتذار” لكأنه كان يعلم باعتذار الشيخ والخطيب والداعية المشهور عائض القرني عن السنوات التي قضاها من عمره وهو في خدمة مشروع الدعوة إلى الله وإلى الدين فيما سمي بالصحوة الإسلامية التي شهدها المجتمع في بلاد الحجاز في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.
إنه يعتذر عنها ليبرر تقلبه مع الحاكم الظالم والفاسد والقاتل محمد بن سلمان ويعتبر هذا التقلب سنة كونية بينما الثبات مخالفة لإرادة الله سبحانه.
رحمك الله أبا حسني رحمك الله يا دكتور مصطفى وأنت قد انطق الله لسانك لوصف حالة ومرحلة قد نجاك الله من فتنتها، بينما كتب الله لمحبيك والسائرين على دربك أن يتلظوا بنارها. رحمك الله وأنت تكتب خاطرتك الرائعة عام 1962 حيث التلفاز كان في بدايات بثه في عدد من الأوطان العربية، وهذه الخاطرة لم ترَ النور إلا في العام 1999 في وقت نحن فيه اليوم نرى ونسمع اعتذار الشيخ عائض القرني وتبريره لتقلبه مع الحاكم بالبث المباشر.

فتوى السوق
قال المرحوم الشيخ مصطفى السباعي في خاطرة من خواطره بعنوان فتوى السوق: “لمّا أصبحت الفتوى تشترى بالمال، صار المُفتون يبيعون دينهم بالمال فأصبحت عندهم فتاوى جاهزة تحت الطلب يبيعونها لمن يدفع لهم الثمن أكثر فكانوا بذلك أمراء للظالمين، أما الجاهلون منهم فهم عار الإسلام وسُبّة المسلمين”.
دائمًا وأبدًا كان العلماء والمُفتون هم الملح الذي يحفظ المجتمع من الفساد وهم البوصلة التي تحفظ السفينة من الضياع في لجج البحار ثم الغرق بعد ذلك، كان العلماء لا يخشون في الله لومة لائم لأنهم هم ورثة الأنبياء، وكانوا لا يسعون لنيل رضى أحد من الخلق وإنما كان رضى الله هو مبتغاهم وكأنهم هم من يوقّع عن رب العالمين سبحانه لمّا يقومون بتفسير آياته أو إصدار الأحكام الشرعية في دين الله، حتى أن أحدهم ألّف كتاب إعلام الموقّعين عن رب العالمين، يقصد بذلك العلماء والمُفتين.

دارت الأيام وإذا بنا نرى ونسمع من أصبح من العلماء من يسعون لرضى الناس والحكام خصوصًا، يبيعون دينهم بالمال وتكون الفتوى فضفاضة ومائعة وتحتمل أكثر من وجه وفق وبناء على طلب من يريدها، وبمقدار المنفعة التي تتحقق للمفتي والشيخ من عطاء صاحب الجلالة والفخامة.
وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد فقد أصبحت الفتوى تعرض في بورصة المواقف السياسية، بل إنها أصبحت تحل الحرام وتحرم الحلال بناءً على طلب ولي الأمر والحاكم الفاسد الذي يعيش في كنفه هؤلاء العلماء. وما يجري في بلاد الحرمين من تجريم للمشايخ والعلماء بل والحكم بالإعدام على البعض منهم وزجّ المئات منهم في السجون إلا بسبب رفضهم المهادنة في دين الله ورفضهم أن يبيعوا فتاوى في السوق، وأن تكون مواقفهم الشرعية حسب طلب الفاسدين من آل سعود، وما يجري في مصر والإمارات تحت حكم السيسي وابن زايد إلا صورة طبق الأصل عمّا يجري في بلاد الحرمين.
وما أجمل خاطرة الشيخ السباعي الأخرى التي فيها يتحدث عن موقف العلماء لمّا قال: “لا يجتمع حب الله وموالاة الظالمين في قلب عالم أبدًا، ولا يجتمع حب الدين وموالاة المفسدين في قلب داعية أبدًا، ولا يجتمع حب الحق وموالاة المبطلين في قلب مخلص أبدًا، ولا يجتمع حب الرسول وموالاة أعدائه في قلب مسلم أبدًا”.

بين الثعلب والأسد
قال المرحوم الشيخ السباعي في خاطرة من خواطره: “قال الثعلب للأسد بعد أن أوقعه في حفرة ظن أنه سيهلكه فيها، سأفضحك بين الحيوانات بضعفك. فضحك الأسد وقال: مهما فعلت فسأظل أنا أسدًا وأنت ثعلبًا”.
كثيرون هم الذين يحفرون للإسلام الحفر هذه الأيام ليوقعوه فيها ويقضوا عليه. إنهم يفعلون ذلك لدعاته ورموزه { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ….} آية 36 سورة الأنفال. إنهم يريدون تصوير الإسلام بالضعيف والمتهالك والذي انتهت فترة صلاحيته وأنه أصبح من التاريخ الغابر، يصفونه مرة بالرجعية ومرة بالظلامية ومرة بالانغلاق ومرة بالتطرف والداعشية والإرهاب. ليس أن أعدائه هم من يفعل ذلك، بل إنهم بعض أبنائه من الزعماء المارقين والفاسدين لا بل إنهم بعض الدعاة والعلماء ممن وقعوا في فخ وجاذبية وإغراء المال، وإذا بهم وبدل أن يكونوا صوتًا للإسلام فقد تحولوا إلى صوت للباطل، بل إلى سوط يجلدون به ظهر الحق والإسلام.
فللذين جعلوا من أنفسهم جزءًا من مخطط الحرب على الإسلام ظانين أنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، وأنه في النزع الأخير وسيتم تشييعه إلى مثواه الأخير. للذين نصبوا الشباك وحفروا الحفر وأعدوا السكاكين لنحر الإسلام أقول لهم: إن الإسلام سيظل المارد الذي لن يقع والجبل الذي لن تهدّه الرياح. إنه الإسلام الذي مرّ عليه مؤامرات ومحاولات استئصال لكنه تجاوزها كلها بسلام، وإن ما يجري في هذه المرحلة ليست إلا صورة عمّا كان في مراحل تاريخية كثيرة، لكننا نقول لأعداء الإسلام أيًا كانوا وممن كانوا، سيظل الأسد أسدًا وسيظل الثعلب ثعلبًا. سيظل الإسلام إسلامًا أما أنتم فلن تكونوا إلا من مخلفات التاريخ ولن يكون لكم موقع إلا على مزابل هذا التاريخ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} آية 17 سورة الرعد.
نعم يا أبا حسني، نعم يا مؤسس وعميد كلية الشريعة في جامعة دمشق، نعم يا مرشد ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، نعم يا من سيّرت كتائب المجاهدين من إخوانك السوريين للقتال في فلسطين عام نكبتها. لقد فعلت هذا كله يوم كان بشار ما يزال نطفة قذرة في ظهر أبيه حافظ، وقبل أن يصل الطائفيون النصيّريون البعثيون إلى حكم سوريا.
ستظل سوريا لأهلها وإن هجّروا منها، ستظل حمص مرقد خالد بن الوليد وإن عملوا على تشييعها وبناء الحسينيات فيها، وستظل دمشق خير مدن الأرض وإن نعقت فيها غربان إيران ولبنان، وسيظل أبطال سوريا هم الأبطال والمجاهدون وإن أسمتهم الدنيا إرهابيون، وسيظل بشار مجرمًا قاتلًا عميلًا طائفيًا جبانًا وثعلبًا، وإن قالوا عنه بشار الأسد.
السلام على الشام، السلام على سوريا، السلام على حمص، السلام على شيخها مصطفى السباعي، السلام على شهيدها عبد الباسط الساروت وكل الشهداء.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى