أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

كن راحلة مجتمعنا

د. أنس سليمان أحمد

النفوس أصناف، فهناك النفس الصغيرة والنفس الكبيرة، وهناك النفس اللاهية والنفس الجادة، وهناك النفس الأنانية والنفس الباذلة، وهكذا إلى ما يُحصى من أصناف النفوس، وإن الناظر بإمعان إلى اختلاف هذه النفوس يجد أن أحد أسباب اختلافها الأساس هو اختلاف كل همة نفس منها، فالنفس الصغيرة تحمل همة صغيرة، والنفس الكبيرة تحمل همة كبيرة، والنفس اللاهية تحمل همة لاهية، والنفس الجادة تحمل همة جادة، والنفس الأنانية تحمل همة أنانية، والنفس الباذلة تحمل همة باذلة، وهكذا تختلف الهمم باختلاف النفوس، وتختلف النفوس باختلاف الهمم، وكم هو الفارق صارخ بين صاحب الهمة الكبيرة وصاحب الهمة الصغيرة ، فصاحب الهمة الكبيرة فهو من يحسن القول وتأبى عليه نفسه إلا أن يترجم قوله إلى عمل، وصاحب الهمة الصغيرة لا يحسن إلا القول، ولا يزيده قوله إلا قولاً!! ، وصاحب الهمة الكبيرة هو من يحسن النقد، ولكن تأبى عليه نفسه إلا أن يترجم نقده إلى سعي للتغيير والتصحيح والإصلاح وإن وقف الكل من حوله موقف المتفرّج، بل قد يقفون موقف المثبط للجهود والمحبط للطموح والمعرقل للعطاء، ومع ذلك لا يضيره كل ذلك، بل يمضي قدماً إلى الأمام ولسان حاله يقول: { إن أريد الإصلاح ما استطعت}، ولكن في المقابل فإن صاحب الهمة الصغيرة لا يحسن إلا النقد، ولا يتقن إلا الجدل والمراء والمماحكة، ولا يبدع إلا في مجالس القيل والقال والثرثرة ونحت الشعارات وتدبيج الخطب ورص المقالات، ولذلك لو تفحصنا حال مجتمعنا المكلوم والموجوع والمتعثر لوجدنا فيه الكم الهائل الذي لا يُحصى عدده ممن يجيدون فن القول والنقد والاقتراح ويقفون عند حد القول والنقد والاقتراح، وكأنهم لما قالوا أو انتقدوا أو اقترحوا فقد قاموا بواجبهم وأدّوا ما عليهم وأراحوا ضمائرهم وَبَرُّوا بأنفسهم وبيوتهم ومجتمعهم ودخلوا التاريخ من أوسع أبوابه!! وفي المقابل هذا الكم الهائل الذي لا يُحصى عدده هناك بضعة أفراد ما دون العشرة وقد يكونون ما دون الثمانية، وقد يكونون ما دون الخمسة، أبت عليهم نفوسهم أن يقفوا عند حد القول والنقد والاقتراح، ولم يرضوا لها أن تبقى أسيرة صناعة الكلام وبيع والوهم وعشق السراب ووأد الآمال وإفشاء التلهي، بل شمّرت عن ساقيها وواصلت السير في الدرب وإن كان طويلاً وشاقاً وشائكاً وموحشاً ومحفوفاً بالمخاطر ومرصوصاً بالتضحيات!! فما أحسن أثر هذه البضعة من الأفراد على نفوسها وبيوتها ومجتمعها!

ولذلك العجب كل العجب أن هناك عشرات آلاف الأقلام منا التي تكتب كل يوم في صفحات التواصل الاجتماعي عن حال مجتمعنا السقيم وتقف عند حد الكتابة ثم تضع رؤوسها على وسائدها آخر الليل وتنام ملء جفونها، وكأنها أسهمت بذلك في كبح غول العُنف الذي بات يفترس مجتمعنا بلا شفقة ولا رحمة!!، وكأنها اقتلعت آفة المخدرات من جذورها وألقت بها في عرض البحر!! وكأنها شقت طريق المجد لعشرات آلاف المتسكعين ليلاً من شبابنا في شوارع بلداتنا، وهم لا يدرون لماذا يتسكعون، وماذا يريدون، وإلى أين المسير!! وكأنها أغاثت نداء الاستغاثة الذي لا تزال تلهج به لغتنا العربية صارخة فينا أنا المظلومة والمنسية والمطرودة فيكم!! بعد أن كدنا نتنازل عن الكثير من مفرداتها في حديثنا اليومي!! وكأن عشرات آلاف الأقلام هذه استعادت العافية للعلاقة الحية المطلوبة بيننا وبين أرضنا وبيوتنا ومقدساتنا وقدسنا وأقصانا!! والعجب كل العجب أنه في مقابل عشرات الآلاف هؤلاء لا يوجد إلا الواحد والاثنين ونيف، ممن قاموا ولم يناموا، ونهضوا ولم يستريحوا، وساروا ولم يتوقفوا، ولسان حالهم يقول: إن رضي غيرنا أن يكون الألف منهم مثل واحد، فنحن الواحد منا مثل ألف، ونطمع أن يكون الواحد منا مثل عشرة آلاف!! وما ضرنا أن يكون الغير قد رضوا لأنفسهم أن يصدق فيهم قول الشاعر:
ولم أر أمثال الرجال تفاوت لدى المجد حتى عُدّ ألف بواحد

إن الواحد والاثنين ونيف عملوا ولا زالوا يعملون، وأعطوا ولا زالوا يعطون، وبذلوا ولا زالوا يبذلون، وضحّوا ولا زالوا يضّحون، صابرين مصابرين مرابطين، مرددين: {لا نريد منكم جزاء ولا شكورا}!! فهؤلاء هم النفوس الكبيرة صدقاً وحقاً!! وهؤلاء هم الهمم الكبيرة مظهراً وجوهراً!! وهؤلاء من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الناس كأبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة” (والأبل في تعارف العرب: اسم لمائة بعير، فمائة أبل هي عشرة آلاف)!! فما أكثر الأبل وما أقل الرواحل!!

فيا أخي يا ابن المشروع الإسلامي: كن راحلة مجتمعنا التي تفزع إليها الناس لقضاء حوائجها، وحلّ مشاكلها، وحمل همومها، وجبر خواطرها، وتضميد جروحها، وستر بيوتها، وصون أعراضها، ونصر مظلومها، ولا ترضى لنفسك دون ذلك!! وإيّاك ثم إّيّاك أن تقعد مع القاعدين، وأن تتلهى مع المتلهين، وأن تتولى عن الزحف مع المتولين!! فأنت ابن المشروع الإسلامي ولست ابن المشروع الجاهلي على اختلاف أسمائه وأعلامه وأقلامه!! فكما قال الحكيم: قد نرى واحد كَعَالَم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى