أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الشيخ رائد، والنيابة، و “الغيتو الثقافي”

توفيق محمد
وانا استمع الى شهادة الشيخ رائد صلاح يوم الأربعاء قبل الماضي 15.5.5019 لفت نظري استعماله لمصطلح أنتم تفرضون على أنفسكم “جيتو” ثقافي، ولا شك ستكونون أنتم الخاسر فيه، وهذا دفعني للبحث عن أصل لهذا القول، فكلنا يعرف “الجيتوات” بمعنى “الأحياء اليهودية” التي أقيمت لليهود بداية من سنة 1941 فلاحقا، ولكن “الغيتو” بالمعنى الذي استعمله الشيح رائد في المحكمة وهو “الغيتو الثقافي” أو “الغيتو الفلوكلوري” أي المعزل الثقافي، فهل كان له أصل في الثقافة اليهودية أم لا.
في الحقيقة فإن بحثا بسيطا جدا يوصل الى المادة أدناه تحت عنوان “هرتسل والحركة الصهيونية” وهي موجودة في موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية وهي مادة عن مؤسس الحركة الصهيونية ثيودور هرتسل وقد ورد في موقع وزارة الخارجية ما يلي: “…كان هرتصل في ذلك الوقت يعتبر المشكلة اليهودية قضية اجتماعية. وفي العام 1894 انتهى من كتابة مسرحية تحمل اسم: الغيتو (حي اليهود) والتي عبر من خلالها رفضه لفكرة اندماج اليهود في الشعوب الأخرى …”. وجاء أيضا ان هرتسل استنتج بعد قضية الضابط اليهودي الفرنسي درايفوس ما يلي
“هرتصل استنتج أن معاداة السامية عامل ثابت في المجتمع الإنساني لا يمكن لفكرة اندماج (اليهود) أن تحله. على هذا الأساس كان هرتصل يدرس فكرة السيادة اليهودية”
ويشير “الغيتو” (بالعربية المَعْزِل) إلى منطقة يعيش فيها، طوعاً أو كرهاً، مجموعة من السكان يعتبرهم أغلبية الناس خلفية لعرقية معينة أو لثقافة معينة أو لدين. أصل الكلمة يعود للإشارة إلى حي اليهود في المدينة، الغيتو أيضا درج على وصف الأحياء الفقيرة الموجودة في المناطق المدنية الحديثة.
في المحكمة حاولت ممثلة النيابة تأطير المفاهيم الإسلامية وفق الفهم الذي تريده هي، أو قل حاولت ان تفرض سجنا على مفاهيمنا الإسلامية واستبدالها بمفاهيم إسرائيلية تسعى لفرضها على مجتمعنا وحيزنا العام، ولذلك كان من ضمن عشرات الأسئلة التي سألتها بمصطلحات وكلمات مختلفة ومعنى واحد قولها للشيخ رائد لماذا لم تقل للمشاركين في الجنازة ان ما حصل في الأقصى لم يكن عملية.
الشيخ رائد الذي يشكك أساسا في رواية الشرطة حول الحدث قال لها: “أنا لست واعظا تحت الطلب ولا آخذ أوامر لا من النيابة ولا من المخابرات، أنا أتحدث عن أدبنا الإسلامي”.
رغم أن الحديثِ بَيِّنِ الوضوح الا ان ممثلة النيابة كانت تحاول كل الوقت فرض المفاهيم التي تريدها هي، ومن أرسلها على أجواء الجلسة حتى تصبح هي المفهوم الجديد للمصطلحات الدينية التي تريد ان تستبدل مفهومها الأساس بمفاهيم تتوافق مع الرؤية الإسرائيلية لها، وتفرغها من المعنى الإسلامي الحقيقي لها سعيا منها لإفراغ الدين من المعاني الحقيقية للشهادة والرباط وسائر العبادات والمفاهيم.
في إجاباته على هذه المحاولات قال الشيخ “أنتم من خلال ملاحقة المفاهيم الثقافية والفلكلورية والدينية للآخر تفرضون “غيتو” ثقافي، لا شك ستكونون أنتم الخاسرين فيه”.
والسؤال الذي يسأل هل مسرحية “الغيتو” التي أنهى كتابتها هرتسل في العام 1894 كانت خاصة بالشعب اليهودي في تلك الفترة أم أن ذات العقلية ما تزال تتحكم في مفاصل التعامل مع الآخر حتى يومنا هذا.
في الواقع فإن في الثقافات العامة التي يتشارك فيها مجمل الكون لا تلمس ذلك، لكن في التعاطي مع الدين والقومية فإن المعزل الذي تفرضه ذات العقلية التي ما تزال مسيطرة على الحيز العام هو هو، بل إنه يزداد شيئا فشئيا، فاذا كان لهرتسل في حينه (وفق مفهومه) ما قد يبرر به سعيه لمنع الاندماج في المجتمعات الأوروبية، فان ذات العقلية التي تقود المجتمع الإسرائيلي اليوم، ورغم ان لها صولة ودولة قوية إلا أنها ما تزال تسعى لفرض هذا الغيتو الثقافي ولا أقول مجددا لان هذه العملية مستمرة منذئذ وحتى الآن، ومن ينظر نظرة عامة الى سلة القوانين العنصرية التي بات الكنيست يشرعها في هذا الجانب يرى ذلك بوضوح، كقانون القومية الذي يعتبر الدولة دولة الشعب اليهودي قبل أن تكون دولة ديموقراطية يتمتع فيها كل السكان بنفس الحقوق التي يتمتع فيها السكان في سائر الدول الديموقراطية، وهي بذلك استثنت أساسا هاما من الأسس التي يقوم عليها النظام الديموقراطي، وذلك لخوف المَشَرِّع الإسرائيلي من سائر الثقافات الدينية والقومية والوطنية (الإسلام والعروبة والفلسطينية) في البلاد واعتبارها تهديدا دينيا وقوميا ووطنيا مباشرا على الدين والقومية لدى الشعب اليهودي، ولأجل ذلك كان قانون منع إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية، وتغريم المؤسسات الرسمية التي تفعل ذلك ومعاقبتها ومحاسبتها، وما هي ذكرى النكبة سوى ثقافة شعب تسبب حاكم بلاده الآن بنكبته، ويقوم هذا المنكوب بنشاطات وفعاليات تربوية وثقافية وفلكلورية وجماهيرية في هذه الذكرى تذكر أبناءه وأهله بوطن وحضارة وثقافة عاشها أجداده على هذه الأرض، ولأجل ذلك هناك قانون منع لم الشمل وهو ببساطة يمنع الفلسطيني الذي يعيش في الداخل من الزواج بفلسطينية أحبها وأحبته لأنها تعيش في جنين أو رام الله أو نابلس، إلا إذا تحول هذا الأخير للسكن عندها ونزع عن نفسه الحقوق المدنية التي تكفلها له بطاقة الهوية والجواز اللذين يحملهما، ولأجل ذلك هناك محاولات لسن قانون منع الأذان بحجة أنه يزعج السكان اليهود، وهناك المحاولات البائسة التي شهدتها وما تزال مدينة اللد لمنع إقامة صلاة العيد في فضاء الحيز العام الملاصق للمسجد الكبير في اللد ومنع رفع الأذان رغم ان فرق المتدينين اليهود تقوم بأداء الرقصات الدينية اليهودية في نفس هذا الحيز- وهو حيز عربي- بأسلوب استفزازي ومزعج للفضاء العام في المدينة، وغيرها الكثير من الممارسات والقوانين التي سنها المَشَرِّع الإسرائيلي مؤخرا استمرارا لما كان منذ 70 عاما.
في الممارسات حدث ولا حرج نذكر منها احتفالات الأسرى السياسيين بالتحرر من الأسر، حيث تمنع الشرطة الإسرائيلية أهالي الاسرى وأحباءهم من الاحتفال بتحررهم، وتضيق عليهم الفضاءات، وقد رأينا كيف أنها ضيقت على الأسير الفحماوي المحرر السيد محمود جبارين أبو حلمي، وعلى أهله، فكانت تفعل كما يعمل الأولاد في المعارك الانتخابية بالضبط، حيث كان أفرادها ينزعون لافتات الترحيب به ويمزقونها، ومنعوا الاحتفال به، فلجأ الأهل للاحتفال به في أرضهم الخاصة، وكذلك الأمر مع الأسير المحرر د.حكمت نعامنه، حيث منعوا البلدية من السماح للأهل بالاحتفال به في ساحة عامة في البلد، وهدد وزير الداخلية أرييه درعي بسحب الميزانيات من البلدية في حال سمحت بذلك، واعتبروا المسجد مكانا عاما ومنعوا الأهل من الاحتفال به فيه، حتى الجأوا الأهل للاحتفال به في البيت، بل أبعد من ذلك فقد قامت مؤسسة “مفعال هبايس” بتهديد بلدية أم الفحم بمنع ميزانياتها عنها لسماحها بإقامة مهرجان تضامني مع رئيسها الأسبق الشيخ رائد صلاح في مبنى القاعة الرياضية التابع لها، كما ولاحقت كل الأماكن العامة والفضاءات المختلفة ومنعتها من الاحتفال برواية الأسير السياسي وليد دقة “حكاية سر الزيت” وهذه النشاطات أعلاه ليست الا نشاطات ثقافية تثقيفية تحمل أبعادا سياسية يرى منظموها وجوب إطلاع المجتمع عليها وتثقيفهم بها، لكن المؤسسة الإسرائيلية تسعى أيضا هنا الى فرض “غيتو” ثقافي ليس على نفسها فقط إنما على المجتمع العربي أيضا.
على هذا الأساس فإن مصطلح “الغيتو الثقافي والفلوكلوري” الذي استعمله الشيخ رائد صلاح في جلسة محاكمته الأخيرة مخاطبا ممثلة النيابة ومن خلفها كل المجتمع الإسرائيلي يصبح مصطلحا صحيحا، بل ودقيقا في توصيف الحالة الإسرائيلية التي تنأى بنفسها عن باقي الثقافات بل وتسن القوانين التي تحاصرها وتمنعها.

– https://mfa.gov.il/MFAAR/InformationaboutIsrael/TheHistoryOfTheJewishPeople/TheHistoryInBrief/Pages/herzl%20and%20zionism.aspx موقع وزارة الخارجية الاسرائيلية

– https://mfa.gov.il/MFAAR/InformationaboutIsrael/TheHistoryOfTheJewishPeople/TheHistoryInBrief/Pages/herzl%20and%20zionism.aspx موقع وزارة الخارجية الاسرائيلية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى