أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

صفقة القرن – الحملة الصليبية الأخيرة

حامد اغبارية

لسنا على أعتاب الحملة الصليبية الأخيرة، المتمثلة في جزئها الرئيس المعروف بـ “صفقة القرن”، ذلك لأننا نعيش فعلا أحداث هذه الحملة منذ أيلول 2001، ونعيش تفاصيل “صفقة القرن” منذ اللحظة الأولى التي أعلن عن وجودها، عقب تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية فالصفقة بدأ تنفيذها، وهي تطبق الآن مرحلة بعد أخرى، وخطوة تلو الخطوة، دون أن يعلن عن إطلاقها رسميا، ودون نشر تفاصيلها.

لقد بدأت الحملة الصليبية الأخيرة منذ أن أثارت واشنطن الفتنة بين إيران والعراق في الثمانينات، ثم حرب الخليج الأولى التي شنها جورج بوش الأب على العراق، ثم جاء جورج بوش الابن، ومعه طواغيت الغرب أمثال توني بلير الانجليزي، وشن حربه الإجرامية على أفغانستان، ثم حربه الدموية على العراق، كمقدمة لحملة تحقيق الحلم الصليبي- الصهيوني المشترك، الذي تحركه أطماع توراتية- إنجيلية باطلة، تقضي بسحق أية قوة إسلامية صاعدة من شأنها أن تشكل حجر عثرة أمام ذلك الحلم، ومنع ارتفاع أي صوت إسلامي حرّ ينادي بتحرر الأمة من قيودها وانعتاقها من التبعية؛ سواء كان ذلك الصوت على صورة تنظيم أهلي، مثل تنظيم الإخوان المسلمين، وحركة حماس والحركة الإسلامية (المحظورة إسرائيليا) في الداخل، أو كان على صورة دولة مثل تركيا. وكان من ضمن المخطط شيطنة الصحوة الإسلامية بكل روافدها وأطُرها، ووصمها بالإرهاب، والعمل على تشويه الإسلام كدين وعقيدة من خلال الإعلام الغربي والإسرائيلي وإعلام أنظمة العار العربية التي تدور في فلك الصليبية والصهيونية.

لقد أعلنت واشنطن أن “صفقة القرن” تهدف إلى إنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني! ولعله من الضروري أن نذكّر هنا أن حقيقة الصراع ليست إسرائيلية – فلسطينية، بل هو صراع صليبي صهيوني من جهة، وإسلامي من جهة ثانية. وهو في الأساس ليس صراعا، وإنما هو عدوان قبيح على المسلمين، وعلى أرض المسلمين، وعلى عقيدة المسلمين. وإنّ حصر الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين هو محاولة خبيثة للتقليل من شأن العدوان في أذهان العرب والمسلمين. وقد وجدت هذه التسمية استجابة في العالم العربي والإسلامي، بل وفي أوساط شريحة واسعة من الفلسطينيين، وفي مقدمتهم منظمة التحرير، وبعدها سلطة دايتون في مقاطعة رام الله. وإن تثبيت هذا المصطلح (صراع فلسطيني إسرائيلي) في الأذهان فيه ظلم كبير وتزوير لواقع الحال، واعتداء على الحقيقة، وصرفٌ لأنظار المسلمين عن حقيقة الصراع. وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير، لما وجدوا من يتعاون معهم في تحقيقه. فبعد أن كانت قضية الصراع على فلسطين قضية الأمة المسلمة، حجّموها وجعلوها قضية العرب، ثم ما لبث الأمر أن أصبح قضية الشعب الفلسطيني. ولعلكم تذكرون يوم أعلن ياسر عرفات عن “استقلالية القرار الفلسطيني”!! كانت هذه طعنة نجلاء في صدر القضية، أو ربما في ظهرها.. ونحن نرى عيانا إلى أين أوصلتنا “استقلالية القرار الفلسطيني”.

يتحدث الغرب الصليبي، من خلال مفكريه وواضعي إستراتيجياته وسياسييه عن صراع الحضارات، وأن هذا الصراع قائم لا محالة بين الشرق والغرب، يعني بين الغرب وبين المسلمين، وأنها حتمية تاريخية لا بد من وقوعها. وإن هذا في الحقيقة قائم ليس فقط في العصر الحديث، بل منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها الامبراطورية الرومانية محاولاتها للتصدي لرسالة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للعالمين، ولم يتوقف الصراع لحظة واحدة؛ بدءا من اليرموك، مرورا بالأندلس، ثم الحملات الصليبية، ثم فتح القسطنطينية، ثم إسقاط الخلافة الإسلامية مطلع القرن العشرين، وسايكس بيكو، واحتلال فلسطين وتسليمها للحركة الصهيونية، ونكبة الشعب الفلسطيني، والحروب مع دول الطوق العربية بدءا من حرب 1967، والحروب على لبنان، واتفاقية كامب ديفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن، واتفاقية أوسلو وما تبعها من اتفاقيات، وتدمير إرادة الشعب الجزائري في التسعينات، والحرب على أفغانستان والعراق، والحروب على غزة، واختراق ثورات الربيع العربي، والانقلاب على إرادة الشعوب العربية والإسلامية. وما صفقة القرن إلا مرحلة – ربما أخيرة- في تلك الحملة الصليبية – الصهيونية ضد المسلمين.

وتخيّل معي الحال الذي وصلنا إليه عندما تسمع وزير خارجية عربي أو قيادي فلسطيني (من قيادات المقاطعة) يقول إنه عندما تعلن صفقة القرن بتفاصيلها سنعطي رأينا حولها. وكأن المطلوب هو إبداء الرأي وتحليل التفاصيل، وإعلان الرفض أو القبول.. وكأن أنظمة العار أصيبت بالعمى والصمم، فهي لا ترى كيف أن صفقة القرن تطبق على الأرض خطوة خطوة، فكان إعلان ترامب نقل سفارته إلى القدس المحتلة، واعترافه بالقدس عاصمة أبدية للكيان الإسرائيلي، ثم اعترافه بضم الجولان السوري المحتل عام 67 إلى الكيان الإسرائيلي، ثم حديث نتنياهو عن ضم مستوطنات الضفة المحتلة عام 67، بدعم أميركي، تمهيدا لضم كافة أراضي الضفة، وبث الفتنة الدموية بين السنة والشيعة، وحرف بوصلة الصراع من صراع الأمة كلها مع المشروع الصهيوني، إلى صراع بين السنة والشيعة، والتطبيع المهين مع دول عربية، في مقدمتها دول خليجية، وتشديد الحصار على غزة، وشيطنة الدولة التركية، ودعم وتمويل محاولة الانقلاب الفاشل عام 2016، ثم محاولات ضرب الاقتصاد التركي، وإشعال حرب أهلية في اليمن، ثم حرب أهلية في ليبيا، وتثبيت النظام السوري على جثث نحو 600 ألف سوري، من أجل عيون الكيان الإسرائيلي والمشروع الصهيو – صليبي، ودعم جرائم السيسي بعد دعم انقلابه، والتستر على جرائم ابن سلمان، ودعم موبقات الإمارات، ومحاصرة إيران… والحبل على الجرار.. وهذا فقط ما ظهر لنا من تلك الصفقة الخبيثة، التي لا نشك للحظة أنها تتضمن من البنود (سواء معلنة أو سرية) ما هو أكثر من ذلك بكثير، وأخطر من ذلك بكثير.

إن الغرب الصليبي، ومعه الصهيونية العالمية، والمحفل الماسوني العالمي، يعملون ضمن خطة دقيقة، تهدف إلى إنتاج واقع تكون فيه جميع الدول العربية – دون استثناء- صديقة لتل أبيب، وتدور في فلك الحملة الصليبية – الصهيوينة، وذلك كخطوة نحو تحقيق الأباطيل التوراتية الإنجيلية، والتي جعلت لها مجموعة من الأهداف، تصل في نهاية المطاف إلى الهدف الأكبر. أما مجموعة الأهداف فهي وقف الزحف الإسلامي، وإجهاض الصحوة الإسلامية العالمية، لتحقيق هدف بناء الهيكل المزعوم مكان المسجد الأقصى المبارك، باعتباره خطوة ضرورية لإنشاء مملكة إسرائيل الكبرى (من النيل إلى الفرات)، كخطوة ضرورية ثانية، لتحقيق الهدف الأكبر، وهو استقبال عودة المسيح كي يحكموا العالم من خلاله، بعد أن يصبح ملكا على مملكة إسرائيل تلك. (هذا المسيح بالنسبة لنا هو الدجال، ويسميه اليهود ميلخ مشيّح، ويسميه النصارى يسوع، وهو ليس عيسى بن مريم عليه السلام، الذي نؤمن أنه سيحسم أمر ذلك الذي ينتظرونه ليمكّن لهم في الأرض).

وإن من الأهداف المرحلية، التي تتضمنها صفقة القرن، إنهاء وجود تنظيم الإخوان المسلمين، بصفته التنظيم الأوسع والأشمل والأكثر قبولا على الشعوب الإسلامية، والأقدر على مواجهة تلك المخططات، سواء من خلال استخدام القوة العسكرية الباطشة، أو من خلال قرارات الحظر واعتباره تنظيما إرهابيا، أو من خلال الشيطنة الفكرية التي تقودها وسائل الإعلام بكافة أشكالها الأجنبية والصهيونية والعربية.

وإن من الأهداف المرحلية إلحاق الأذى الشديد بدولة تركيا، التي تعتبر اليوم الصوت الإسلامي الوحيد تقريبا، الذي يغرد خارج سرب الحملة الصليبية- الصهيونية، والذي يشكل صوتا إسلاميا حرا يسعى إلى استعادة أمجاد الأمة ومنَعتها، والتحرر من القيود التي فرضها الغرب الصليبي عليها طوال مائة سنة، من خلال اتفاقية لوزان الثانية، والتي لم يبق بين تركيا وبين الانعتاق من قيودها سوى بضع سنوات، حيث تنتهي في العام 2023، إلى بعد أقل من خمس سنوات من الآن. ولذلك فإن أميركا ومن خلفها تل أبيب وعواصم أوروبا، ومعها أنظمة الدمى العربية، تسعى إلى الحيلولة دون تمكن الرئيس أردوغان من الوصول (سالما وقويا) إلى تلك السنة التي ينتظرها الشعب التركي على أحر من الجمر، هذا إن فشلوا في إسقاط نظام حكمه، كما حاولوا في تموز 2016، وإلا فعلى الأقل العمل على إضعاف الدولة التركية، من خلال ضرب اقتصادها، وخلق أزمات سياسية وأمنية بينها وبين دول مجاورة، وأخرى غير مجاورة، ومحاولات إنهاء حكم حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، واستخدام الإرهاب لإرباك المشهد الداخلي، وتسخير الإعلام العلماني المحلي، والغربي والصهيوني لتشويه صورة النظام، وتشغيل أجهزة المخابرات الغربية والعربية لاختراق الدولة وأجهزتها المختلفة، وتسخير المليارات لشراء الذمم داخل تركيا (تماما كما فعلوا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله)، وبذل كل وسيلة رخيصة من أجل أن تصل تركيا إلى العام 2023 ضعيفة منهكة، جريحة، لا تستطيع أن تتحرر من التبعية للغرب.

يجري هذا وأخطر منه، وعيون الغرب الصليبي على اسطنبول وعلى آيا صوفيا تحديدا. فالذي يقرأ ما كتبه ويكتبه سياسيون ومفكرون وناشطون حزبيون غربيون منذ القرن الخامس عشر ولغاية اليوم، سيجد أنهم يصرون على تسمية المدينة باسم القسطنطينية، وعلى نعتها بعاصمة البيزنطيين، وعلى أن آيا صوفيا يجب أن تعود كنيسة كما كانت، كما يجب أن تعود القسطنطينية إلى العالم المسيحي، كما كانت قبل التاسع والعشرين من أيار 1453 ميلادية. ولقد نجح الغرب الصليبي في مرحلة ما، في إلغاء تحويل آيا صوفيا إلى مسجد من خلال تحويله إلى متحف في العهد الأتاتوركي. وظني أن الحملة الصليبية- الصهيونية لن يهدأ لها بال حتى تعمل على استعادة ما بذل المسلمون دماءهم من أجله ومن أجل إعلاء كلمة الله في الأرض. وستبذل كل ما في وسعها، حتى لو استدعى ذلك إشعال حرب أو شن حرب على تركيا بذرائع مختلفة، لن يعجزوا عن استحضارها، لتحقيق هذا الهدف.

إنها إذًا الحملة الصليبية – الصهيونية الأخيرة، التي لن تكون بعدها حملات، فيما أرى. وقد تطول أيام هذه الحملة وتتواصل لسنوات، وربما أكثر من ذلك، ولكنها تسير نحو نقطة الحسم النهائي في هذا الملف الخطير.

ستفشل الحملة، وسيرتدّ كيدُ الذين يكيدون لأمة الإسلام وأرض الإسلام وعقيدة الإسلام، في نحورهم، وسيُهزم الجمعُ ويولون الدُّبر.. وسيدعون بالويل والثبور وعظائم الأمور، وسيتمنى الواحد منهم لو أن أمَّه لم تلده، وسيكون لسان حال الواحد منهم: “يا ليتني كنت ترابا”، أو ليته أنصت واستمع واستوعب وقبل النصيحة، فلم يظلم مثقال ذرة، ولم يفتَرِ ولم يعتَدِ ولم يسرق ولم يزور تاريخا ولا رواياتٍ ولا توراةً ولا إنجيلا ولا وحْياً، ولم يكذب ولم يأخذ ما ليس له بحق، ولم يفكر حتى بالاقتراب من الحِمى. وإلى أن تحين تلك اللحظة الحاسمة والمصيرية في تاريخ البشرية، ربما تراهم يحققون شيئا ممّا يظهر للرائي أنه لصالحهم ويقودهم إلى أهدافهم، لكنّها سُنّة الاستدراج. واقرأ معي قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 182)، وقوله سبحانه: {فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُون وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} (القلم: 44)، وقوله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (الأنعام : 44)، وقوله عز وجل: {حَتَّىٰ إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (يونس: 24).

ولنعلم جميعا أن كل ما جري وما يجري وما سيجري هو حملة من طرف واحد، ليس للمسلمين ذنبٌ فيه ولا نيّة ولا ميلٌ،، لكنهم طرفٌ فيه رغم إرادتهم، لأنهم يتعرضون للعدوان. ولنعلم كذلك أن كل حدث، صغيرا كان أو كبيرا، ستلتقي خيوطه في نهاية المطاف، هنا، في فلسطين، في القدس، في المسجد الأقصى المبارك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى