أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

نحن والانتخابات (14).. التصويت الصهيوني- تفكيك حالة

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
بادئ الأمر لا بدَّ من التأكيد أن إفرازات ونتائج الانتخابات الأخيرة “للكنيست الـ 21″، لم تكن مفاجئة، لا من حيث عدد النواب العرب الذين وصلوا للكنيست، ولا من حيث نسبة المقاطعين، وهو أمر قد تناولت بعضه دون الخوض في تحليل ثنائياته في مقالتي السابقة، بيدَّ أن الجديد في هذه الانتخابات هو ارتفاع “النفَسُ” الصهيوني في هذه الانتخابات وقد تجلى هذا بوضوح في تجوال العديد من ممثّلي الأحزاب في بلداننا بل وزيارات بيتية، ورفع صور كبيرة على جدران بعض البيوت والمحال، وتجرُّؤ المصوتين العرب خاصة من المسلمين في بعض بلدان المثلث والجليل الاعلان عن مرشحيهم من الأحزاب الصهيونية والدفاع عن هذا التصويت وفلسفته ومهاجمة المقاطعين والمصوتين للقوائم العربية.
لقد وصلت نسبة المصوتين العرب للأحزاب الصهيونية والدينية قرابة 30% وتشكل هذه النسبة الاعلى منذ بدايات هذا القرن، كما أن نسبة التصويت في الوسط العربي وصلت الى أدناها منذ عام 2003 إذ وفقا للنتائج النهائية بلغت 49%، وقد رافق هذا الانخفاض بين المصوتين العرب، انخفاضا عاما في الدولة إلى 68.46% وهو ما لعب دورا في تجاوز القوائم العربية نسبة الحسم.
ننطلق في هذه المقالة من منطلق مفاده أن المقاطعة ليست مقاطعة للأحزاب العربية ولا للفعل والسياسي، بقدر ما أنها مقاطعة للكنيست ذاتها أي أن هذه المقاطعة هي مقابلة لحالة نزع الشرعية التي يمارسها أرباب السياسة في المؤسسة الاسرائيلية بحق الداخل الفلسطيني بكل مكوناته ومركباته على كل شعبنا الفلسطيني، بما في ذلك سياساتهم اتجاه النواب العرب داخل أروقة ومفاعيل الكنيست الممثلة في لجان عملها المختلفة وسياسة الهجوم المبتذل الممارس بحقهم.
أفرزت انتخابات الكنيست الـ 21، ما يبدو للوهلة الاولى متناقضات في السلوك التصويتي للناخب العربي في البلاد، إذ امتاز التصويت بين مصوت للأحزاب العربية، ومصوت للأحزاب الصهيونية، ومقاطع لهذه الانتخابات، ما دفع العديد الى تأويلات من مثل لو ارتفعت نسبة التصويت بين العرب لما استطاع نتنياهو أن يشكل حكومة ولما استطاع غانتس-لبيد تشكيل حكومة، متناسين أن خيار حكومة برأسين في مثل هذه الحالة سيكون الخيار المفروض على تلكم الأحزاب في ظل نزع الشرعية الذي تمَّ ممارسته بفجاجة من قبل كافة الطيف السياسي الصهيوني اليميني والمحافظ.
في هذه المقالة سأتناول التصويت للأحزاب الصهيونية لدى العرب، مع الإشارة إلى أن التصويت ليس بجديد للأحزاب الصهيونية، لكن الجديد هو النسبة العالية من المصوتين للأحزاب الصهيونية، من حيث ظاهر النسب المعلن عنها لا من حيث اعداد المصوتين لتلكم الأحزاب فنسبة التصويت للأحزاب الصهيونية هي الاعلى منذ عام 2003، عمليا التصويت للأحزاب الصهيونية تراوح بين حده الأدنى الذي بلغ 13%عام 2015 وحده الأعلى في هذه الانتخابات، نسبة التصويت العالية للأحزاب الصهيونية مرتبطة بعدة عوامل، تتعلق ابتداء بالمجموعة المشاركة في التصويت وسلوكها الانتخابي، ودراسة الارقام تكشف لنا أن اعداد المصوتين للأحزاب الصهيونية لم يتغير كثيرا عما سبقه من سنوات سلفت خاصة في مناطق “جغرافيا” كالمثلث والنقب ونعزو هذا الارتفاع الى ارتفاع نسبة التصويت للأحزاب الصهيونية في البلدان العربية الدرزية والبدوية خاصة في شمال البلاد، مقابل انخفاض جلي في عديد البلدان العربية من مثل بلدات في النقب مع الاشارة الى أن التصويت في بعض البلدان ارتبط بوجود ممثل لها في القوائم العربية مثل حالتي أم الفحم وسخنين، مع التأكيد على انخفاض نسبة التصويت عموما، ووجود عامل جديد دخل على خط المنافسة المباشرة لنتنياهو ممثلا بحزب “كحول لفان” وانتقال اعداد كبيرة من المصوتين لأحزاب العمل الى هذه القائمة.
عمليا لم ترتفع نسبة التصويت للأحزاب الصهيونية عدديا، لكن مع قلة عدد المصوتين العرب ارتفعت نسبة المصوتين لتلكم الأحزاب- التي تكاد تكون ارقام ثابتة تتوزع موسميا- وهذا الارتفاع أنقذ حزبا مثل “ميرتس” من السقوط ومنحت احزابا مثل والليكود وكحول لفان مقعدا واحد على الاقل ضمن حسابات عد المقاعد على أساس قاعدة بدر- عوفر المعمول بها.
ثمة أسئلة تتعلق بهذا التصويت وتتعلق بقضايا الأسرلة والتماهي معها، ومرتبطة بأنماط التصويت العربي للأحزاب الصهيونية تفيدنا في فهم هذه الظاهرة.
نزعم في هذه المقالة أن أنماط التصويت للأحزاب الصهيونية ارتبطت بثلاثة عوامل: العامل المجتمعي ومحوره المباشر العلاقات الاجتماعية التي لها حظ كبير في التأثير على عديد الناخبين في اللحظات الاخيرة خاصة المترددين منهم، إضافة الى وشائج القرابة والنسب وما بينهما، والعامل النفسي والتأثير على المصوتين خاصة ممن لا يعرفون الكثير عما يدور في أروقة الفعل السياسي اليومي وليس لهم كبير اهتمام في السياسة وما يدور في محيطنا المحلي، وهؤلاء لا يتمتعون بمواصفات ثقافية تعينهم على فهم “جيد” ويتأثرون بكل ناعق من تلكم الأحزاب أو عمليات شراء الذمم من خلال المقاولين او المستفيدين المرتبطين بتلكم الأحزاب لأسباب كثيرة اقلُّ ما فيها الارتباط الايديولوجي.
مقاربات..
ثمة مقاربات يمكن أن تعيننا على فهم ما حصل في هذه الانتخابات، بما يتعلق بالتصويت للأحزاب الصهيونية، إذا ما أجرينا مقاربات بين انتخابات 2006 حيث تسيّد الموقف حزب “كاديما” وبين انتخابات 2019 حيث تسيد الموقف حزب الليكود، ففي الاولى حصلت الأحزاب الصهيونية على 26.6٪من أصوات الناخبين العرب، مقابل 29.7٪ في الانتخابات الحالية (2019)، والفارق الحسابي بين الفترتين هو 3%فقط على الرغم من مرور أكثر من عقد من الزمان، كان كفيلا بإحداث تغييرات جوهرية في الداخل الفلسطيني، وللتذكير، خلال هذه الفترة شُرع العمل بالخدمة المدنية وبدأت مناطق الداخل الفلسطيني تتعرض للغزو الإسرائيلي بشكل منظم ومبرمج، إذ دخلت المؤسسات الصهيونية الى داخلنا الفلسطيني، وبقوة، عبر بوابات السلطات المحلية وبرز في الداخل مجموعة قيم معطِلة لنهضة وصيرورة المجتمع نحو أن يكون مجتمعا ناهضا مترابطا وعصاميا، فتغلغلت قيم الفردانية، على حساب القيم الجمعية والجماعية، وقيم المصلحة الذاتية الشخصانية على حساب القيم المجتمعية، وانتقلنا بشكل سريع جدا بفضل سياسات انفتاح البنوك، الى مجتمع استهلاكي يتآكل داخليا وتآكلت تبعا لذلك قيم داخلية، فعلى سبيل المثال لا الحصر، امتهان الحيز العام لصالح الفرد، أو مجموعة محددة “ذات مواصفات خاصة” دون أخذ بعين الاعتبار مصلحة الاخرين، متجاوزين حتى السلطة المحلية ذاتها، ولعلنا نشهد مثلا كيف تتم السيطرة على أراض عامة لصالح مصالح خاصة، أو كيف يتم التعامل مع الجريمة المنظمة على الحساب العام.
وفي ظل ارتفاع عدد مضطرد لأعداد المشتغلين في السلك الرسمي الحكومي، كالتعليم وبعض المؤسسات الحكومية كمؤسسة التأمين والضريبة، فضلا عن شركات خاصة مرتبطة بالمؤسسات الرسمية بشكل أو بآخر، ورافق هذا كله ارتفاع معدلات مستويات الحياة لدى طبقة وسطى تخلقت في ظروف يمكن القول إن من رسم عديد حدودها، هو المؤسسة الإسرائيلية، قابل ذلك ارتفاع في معدلات الفقر، لنكون بذلك وصفة “مخبرية ” لمسألة الرسملة المتخلقة في مجتمع هش، هذا كله كان من المفترض أن يكون سببا في ارتفاع اعداد المصوتين للأحزاب الصهيونية.
نحن أمام ثلاث مجموعات صوتت للأحزاب الصهيونية، من انتسبوا لهذه الأحزاب ومن تأثروا منهم، ومجموعة المنتفعين.
وفي ظل ارتفاع منسوب قيم الانتفاع والشخصانية والفردانية فمن المتوقع أن ترتفع نسبة المصوتين للأحزاب الصهيونية ويتقاطع هذا الطرح مع التصويت “الجغرافي” في داخلنا الفلسطيني، ففي القرى الدرزية والبدوية كما ذكرت ترتفع أعداد المصوتين للأحزاب الصهيونية لأسباب تاريخية ذات صلة بجدل العلاقة القائم بينهما على الرغم من تنامي ظاهرة عدم التصويت وارتفاعها في الانتخابات الأخيرة.
انخفاض نسبة التصويت العامة في عام 2006، الى63% كان سببا في نجاح الأحزاب العربية التي خاضت الانتخابات في كتلتين، الاولى ضمت التجمع والجبهة، والثانية ضمت الاسلامية الجنوبية والتغيير والعربي الديموقراطي تحت لافتة القائمة العربية الموحدة. وفي هذه المرة دخل العرب الانتخابات تحت لافتتين، الاسلامية والتجمع، من جهة، والجبهة والعربية للتغيير من جهة أخرى، وكان في تصوري من أسباب عبورهما نسبة الحسم، هو انخفاض التصويت العام.
في انتخابات 2006 كانت نسبة التصويت العامة 63% وفي هذه الانتخابات كانت نسبة التصويت 68%، والانخفاض العام لنسبة التصويت أدى الى بروز نسبة التصويت “المرتفعة” للأحزاب الصهيونية في كلتا الحالتين، كما منح الأحزاب العربية فرصة تجاوز نسبة الحسم.
تغلغل الأحزاب الصهيونية يمكن قراءته قراءات نقدية وتفكيكية على ضوء نظريات تتعلق بالسلوكين الاجتماعي والسياسي- في حالتنا السلوك الانتخابي وانماطه- من مثل نظريات ابن خلدون في طروحاته حول جدل العلاقة القائم بين الغالب والمتغلب، ونظرية مالك بن نبي في طروحاته حول جدل العلاقة القائم بين المُستعمِر والمستَعمَر، من المدرسة الإسلامية، أو على أساس من نظريات ميشيل فوكو في البيولوجيا السياسية- وتطوراتها المستمرة- المتعلقة بجدليات السيطرة على الحياة “حركة الحياة والسلطة” كأداة مُسيِسَة لتحقيق السيطرة على الناظم العام لأقلية صاحبة وطن لا تملك السيطرة عليه مع وجودها المكثف زمانا ومكانا عليه.
في مقارباتنا لتلكم النظريات وما يقاربها من نظريات السلوك السياسي للأقليات في مجتمعات ديموقراطية على سلوك الناخب العربي الذي يعايش متناقضات الواقع الُمعاش، إن على مستوياته الذاتية- الشخصية، أو كونه يعيش في جماعة- قد تكون متخيلة للحظة “ما”- وما يحيط به من أحداث لا تتوقف، مع وجود عدد لا بأس به داخل هذا المجتمع متشيئين، فإنَّ فهمنا للتصويت لأحزاب صهيونية يتجاوز الظاهر الموجود المشار إليه من أسباب في متن هذه المقالة، الى ما هو أعمق، يتعلق بمنهجية سلطوية تراكمية تتميز بالصبر والتصبر لتحقيق غاياتها في السيطرة على هذا المجتمع يخدم السيد ويتمتع في خدمته وهو يظن أنه يحسن صنعا.
نُذُر قادمة
هذه الانتخابات على الرغم من أنها لم تحمل في طياتها الكثير من المتغيرات على نمط ونوع وسلوك التصويت للأحزاب الصهيونية، إلا أنها تحمل بذورا تشي بمستقبل لا يُطمَئَنُ إليه، من حيث العلاقة مع الاغلبية المتغلبة والآخذة بالتشدد والتطرف والمحمية إقليميا ودوليا، وتملك رصيدا تاريخيا من العنف اتجاه الآخر، الرافض لسياساتها وايديولوجياتها، خاصة إذا كان هذا الآخر فلسطينيا، ومن هو تحت سيطرتها، فقد مارست معه منطق القوة والقتل والتنكيل عبر سبعة عقود، لتحقيق أساس من جدل العلاقة يقوم على منطقي الإذعان والسيطرة من جهة، والقبول بما يلقيه الُمتغلب من فتات، والمضي على مسطرة قد وضعها، سواء في مسارات الحياة اليومية أو السياسية (في حالة تنزيل نظرية فوكو تكون الكنيست سقفنا الذي يُحرمُ تجاوزه، وإلا..)، ومن هذه النُذُر على سبيل المثال لا الحصر، التحولات الجارية في مجتمعنا وفقا لتلكم المسطرة التي خطتها المؤسسة الاسرائيلية اتجاه الداخل الفلسطيني، ويجعله يعيش في قوالب سياسية ومجتمعية ومعيشية وتخطيطية وبيئية، وفي هذا السياق ثمة ضرورة للقيام برصد للشرائح العمرية، لفحص الاجيال المصوتة للأحزاب الصهيونية في العشريتين الأخيرتين، إذ كلما انخفضت أعمار المصوتين لهذه الأحزاب، كلما ارتفعت معالم الاخطار المحدقة على مستقبلنا، سواء تعلق الامر بهويتنا ومركباتها العروبية والفلسطينية والإسلامية، أو تعلق الأمر بهويتنا كحالة متغيرة تتأثر بأفعال خارجية وداخلية، يتم من خلالها إعادة هندسة هذه الهوية بحسب الشخصية المُراد تخليقها إسرائيليا.
ومن النُذُر أيضا التعرف على نوعية المصوتين، اذ كلما كانت أعداد المصوتين من النخب المتعلمة والاكاديمية اكثر كلما شكل هذا خطرا مستقبليا على وجودنا الهوياتي والحضاري والمدني، إذ تقود المجتمعات النُخب وفي حال تنزيلنا مثلا نظريتي ابن خلدون ومالك بن نبي المذكورة آنفا، وبروز معالم تقمص للتغلب في حيوات هذه المجموعات المتأسرلة عمليا واخلاقيا وفكريا، وإمساكها مقاليد وناصية حركة الحياة في الداخل الفلسطيني، فسيكون الخطر الداهم عندئذ أشدُّ وأعتى مما نتصور. ذلكم أن التقمص الحاصل يجمع بين الانغماس الايديولوجي والنفعي من جهة، واحتقار للذات بسياقاتها الحضارية والمدنية والتاريخية من جهة أخرى، مما سيشكل نقلا للمواجهة من المؤسسة الى هؤلاء الوكلاء، حيث تتجلى فيهم عمليات حيوات الغالب والعمل بمقتضاها، وسيكونون من المنافحين عنها بشدة وبقسوة، وقد شهد التاريخ المعاصر في مشرقنا العربي مثل هذه الحالات، وعادة ما نلحظ أخلاقيات امثال هؤلاء في كثير من السلوكيات البسيطة المتعلقة بالملبس والمشرب والمطعم وعديد نُظم الحياة فضلا عن إشاعة قيم النفعية الاخلاقية بكل أضرارها، في مجتمع أحوج ما يحتاجه الى قيادة حكيمة واعية تعيش همومه وتتلبس واقعه وتسعى للخروج به من المأزق الذي يُجرُّ إليه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى