أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

نحن والانتخابات(5).. الأحزاب والتفكير خارج الصندوق

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
منذ قيام اسرائيل، والداخل الفلسطيني يشارك في انتخابات الكنيست وما ارتفعت اصوات المقاطعة الا بعد عقود متتالية حصد فيها مجتمعنا الحصاد المر وتفاقمت أزماته وتعقدت الى درجة بات التفكير في خلق حلول لها مطلب أساس وقضية استراتيجية لحفظ بيضة هذا المجتمع.
في مرحلة تاريخية مبكرة كانت المشاركة عبر الحزب الشيوعي الاسرائيلي ومن خلال القوائم المرتبطة بالحزبين المؤسسين للدولة مباي ومبام وفي مرحلة لاحقة شاركت الجبهة التي أسسها الحزب الشيوعي وقوى تقدمية يهودية كالفهود السود وقوى عربية مختلفة –ليست بالضرورة مؤمنة بطروحات الحزب الشيوعي- ومن ثم دخل على الخط الحركة التقدمية للسلام والمساواة، ومن ثم دخل على الخط الحزب العربي الديموقراطي الذي اسسه عبد الوهاب درواشة مع نهاية عام 1988 بعد ان انفصل داخل الكنيست عن حزب العمل واسس كتلة خاصة به احتجاجا على سياسات تكسير العظام التي مارسها رابين آنذاك يوم كان وزيرا للدفاع في حكومة الشراكة برئاسة شامير ضد الفلسطينيين في انتفاضتهم الأولى.. ثم كانت فتنة أوسلو عام 1993 ونجم عنها ميلاد الحزب الوطني الديموقراطي الذي أسسته مجموعة من قيادات حركة ابناء البلد والحركة التقدمية وقوى وطنية وقيادات شعبية من ضمنها عزمي بشارة الذي تزعم هذا الحزب حتى عام 2007 ولا يزال الأب الروحي والمُنَظِر له، ونجم عن تداعياتها كذلك انشقاق الحركة الاسلامية عام 1996 على خلفية المشاركة في انتخابات الكنيست والموقف من اوسلو– ليس فقط بسبب اوسلو وانتخابات الكنيست-، وفي الدورة الثالثة عشرة للكنيست “1996-1999” شارك التجمع الجبهة في الانتخابات وشاركت الحركة الاسلامية بقيادة الشيخ الراحل عبد الله نمر درويش الحزب العربي الديموقراطي “درواشة”، وفي الدورة الرابعة عشرة (1999-2003). شارك احمد الطيبي مؤسس الحركة العربية للتغيير، التجمع الوطني الديموقراطي، فيما شارك هاشم محاميد ومحمد حسن كنعان الاسلامية والعربي الديموقراطي ليحدث بينهم بينونات صغرى داخل الكنيست للاستفادة من عطاياها المالية لكتلهم المختلفة اصلا فكرا ومنهجا– ان كان عند البعض ثمة فكر ومنهج-، فقبيل الانتخابات- كما الحالة الاسرائيلية عموما تجتمع الاجزاء المتفرقة والمتناقضة لتدخل الكنيست بسلام ثم تتفرق ثانية داخلها لتستفيد كما اشرت من الوضعيات المالية الخاصة لكل كتلة ولتتمترس كل مجموعة خلف اهدافها الساعية لتحقيقها.
ثمة حاجة ماسة لبحث السلوكيات السياسية للأحزاب العربية- طبعا الممثلين للأحزاب- داخل الكنيست وخارجها في اطار دراسات مقارنة، وكيف يتعاملون مع القضايا الملحة والضاغطة على مجتمعنا العربي في الداخل الفلسطيني ولماذا لم يحققوا ولو منجزا عربيا واحدا خاصا بهذه المجموعة مع تأكيدي أنهم جميعا حريصون على تقديم الخدمات والمصالح للمجتمع في الداخل الفلسطيني مع علمنا المسبق بكيفية عمل هذه المجموعة وقد اشرت الى بعض منه في مقالاتي السابقة.
القابلية للكنيست… القابلية للصهيونية
لا ابعد النجعة إن قلت إنَّ الكنيست عند الاحزاب العربية امر مقدس لا محيد عنه في فهمهم للعمل السياسي فجميعهم بدون استثناء لا يتصورون إمكانية العمل خارج هذا الصندوق المسمى الكنيست فقد أثبتت التجربة أنَّ العقل المنظم والمفكر في هذه الاحزاب لا يملك قابلية التفكير خارج هذا الصندوق بحيث يمكننا الزعمُ أنَّ هذه الاحزاب ابتليت بمرض قابلية ” الكنيست” على غرار نظرية مالك بن نبي بقابلية الاستعمار وأذهب في هذا المنهج للقول بأنَّ هذه الأحزاب قد استبطنت حالة من قابلية الاستعمار الصهيوني لذاتها، إذ قبلت أن تبقى تحت مظلته وتعمل تحت سقفه ولا تتبرأ ذاتا ولا جماعة سياسية من حالة القابلية تلك اللهم ألا تنظيرا لا يسمن ولا يغني من جوع، وهي بذلك الوصف مثَلُها كمثل الاحزاب الصهيونية والدينية، ففي حين نشأت هذه الاحزاب كنتيجة “طبيعية” للدولة اليهودية التي أعلن عنها بن غوريون (حزب العمل) وتفاعلت وعملت من خلال هذا الاشتقاق السياسي-الايديولوجي بحيث لا تتجاوز هذا السقف مطلقا، بل أن الاحزاب الحاريدية والدينية الوطنية- الصهيونية لاءمت وضعياتها السياسية وحتى الايديولوجية مع هذه المنجز الصهيوني الذي اكد على يهوديته لتستفيد منه مستقبلا بالمطالبة بدولة الشريعة “هلاخاه”، وهي بذلك تتماهى معه لغة وفلسفة وايديولوجيا، وأضحى مصيرها جزء من مصير هذا المنجز الصهيوني الاحلالي في حين ان الاحزاب العربية سواء تلكم الملحقات انتخابيا في عهد الحكم العسكري او تلكم التي جاءت من بعده كما بينت في متن هذه المقالة ليس لها ناقة ولا بعير بهذا المنجز الصهيوني الذي جاء اصلا على حساب الشعب الفلسطيني الذي تدعي هذه الاحزاب انها جزء لا يتجزأ منه.
المفارقة في السلوك السياسي لهذه الاحزاب انها تلجأ الى مؤسسات اهلية ومدنية لمواجهة ما لم تستطع مواجهته في الكنيست من مثل قانون القومية على سبيل المثال لا الحصر أو تلجأ عبر لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية لمقابلة السفارات الاوروبية والاجنبية للحديث عن واقعنا الراهن المعاش وقد يقابلني احدهم بالقول ان ما يحدث يتم عبر هويات النواب في الكنيست فبفضل هذه “الشهادة” تتم المقابلات وهو قول يمكننا محاججته عبر التجربة السياسية التي خاضتها الحركة الاسلامية المحظورة اسرائيليا لكشف تهافت هذا القول بل وسرابيته أحيانا.
ثمة مفارقة تاريخية تتعلق بوجودنا في الكنيست تكشف عن بعد غائر في نفسياتنا التي ارادتها المؤسسة الاسرائيلية: نفسية المغلوب والتابع والمنضبع فالأحزاب المؤسسة للدولة اليهودية والمحتلة للأرض الفلسطينية والطاردة له عملت على تأسيس احزاب ملحقة لها للكسب الانتخابي أي اننا خزان اصوات لهذه الاحزاب وهذه العقلية ما زالت موجودة عند بقايا الكولونياليين القدامى وأن اعتبر بعض علماء الاجتماع- السياسي وجودنا في الكنيست بعد انتهاء مرحلة الملحقيات إقراراُّ منا بالهزيمة، وقبول الامر الواقع ومعايشته، فقتلتنا مرتين مرة حين احتلت الارض وشردتنا ومرة حين وافق من وافق من العرب المتبقية ـأن يؤسسوا تلكم الملحقات ” الفارغة” ثم يلحق بهم من لحق من الاحزاب العربية هذا فضلا عن اولئك الذين انتسبوا للأحزاب الصهيونية وخدموها كأنها منجزهم الحضاري والتاريخي.
تكمن أزمة هذه الاحزاب بغض النظر عن ايديولوجياتها بوقوعها في ثلاثة مطبات متتالية مطب الفكر الذي تحمله وتسويغاته في التعاطي مع الكنيست ومطب سؤال الاخلاق والسياسة في سياق الكنيست باعتبارها محل صياغة القوانين والتشريعات التي من ضمن تشريعاتها استهداف الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وسؤال الجدوى من الكنيست في ظل ضآلة المنجزات التي حققتها هذه القوائم والاحزاب والحركات على مدار تاريخ وجودها في الكنيست ، وكل ما أشرت إليه منوط أساسا بالتفكير السياسي لهذه الاحزاب.
التفكير السياسي خارج الصندوق
كثيرة هي التعريفات للسياسية من حيث جوهرها ومنها أنها تدبير عقلاني وتَّحَكُم في تسيير الأمور وتحقيق المصالح، هذا التدبير الذي يعني من ضمن معانيه تحقيق اهداف سياسية لا يمكن ان يتم الا على قاعدة من التفكير السياسي السليم، إذ السياسة عملية معقدة وصعبة وتنطوي على توازنات، وقواعد للعبة متَّفق عليها، ولا يصح تجاوزها. ولا يمكن للسياسي عقلنة هذا الواقع بتعقيداته وتوازناته الا من خلال تفكير سياسي عميق يتسم بالمسؤولية ابتداء إذ يحتاج السياسي حين تفكيره الى معلومات دقيقة تكون من مهمة مؤسسات التفكير (لذلك وجدنا ان الاحزاب السياسية الكبرى في العالم الغربي الى جانبها مراكز تفكير سياسي مهمتها طرح الأفكار ومفاكرتها مع الاخرين لجعلها تتنزل من علياء الفكر والنظر الى واقع معاش يُعمل بها- مثال ذلك معهد غابرييل بيري المرتبط بالحزب الشيوعي الفرنسي. والمعهد اليهودي لشؤون الامن القومي ومقره واشنطن يدعم حزب الليكود ومعهد بيغن للقانون والصهيونية ومقره مدينة القدس المرتبط بحزب الليكود والذي كان له دور أساس في قانون القومية – التي بدورها تزوده بمجموعات افكار ترتبط بالواقع والمستقبل وتتسم بالقوة والجرأة والتفكير غير النمطي الذي يقارب قضايا الناس ويعالجها.
إن أسئلة من مثل كيفية الخروج من أزمتانا الاجتماعية وكيفية تحقيق العدالة المجتمعية والسياسية في السياقات اليومية والمستقبلية في ظل حكومات متعاقبة تمارس نفس السياسات مع تفصيلات طفيفة تصب في صالح فردنة الناس وتفكيك المجتمع، وسبل تجاوز الحصار الاسرائيلي المفروض علينا في قضايا الارض والمسكن والمعاش اليومي والخروج من شرنقات الفقر والبطالة التي استحالت في ظل السياسات الاسرائيلية من مجرد قضايا مطلبية الى قضايا جوهرية اساسية تتطلب العدالة، كل ما ذكرت اسئلة حارقة تواجهها النخب السياسية عموما والمنادية بالمشاركة في الكنيست خصوصا باتت تتطلب اكثر من أي وقت مضى التفكير خارج هذا الصندوق”الكنيست”، فبعد هذه العقود الطويلة التي عشناها مع المؤسسة الاسرائيلية ومعبدها التشريعي، بات سؤال تجريب المجرب حاضر بقوة من النواحي الاخلاقية والسياسية حتى المصلحية فضلا عن جدوى عمل الكنيست ذاتا وموضوعا؟. وبات سؤال انتهاج سبل النضال المدني السلمي الذي لمَّا يقارب الاحتجاج المفضي الى العصيان المدني مطروح بقوة، خاصة في ظل المتغيرات الاقليمية والدولية وتقاطع المصالح الكونية بين أشد الدول عداء وهو ما يتطلب كذلك تفكيرا غير نمطي من القادة والساسة والاحزاب لتحقيق اكبر قدر ممكن من المكاسب لصالح مجموعة ارتأت زعامتها منذ اللحظة الأولى لما بعد النكبة أن تمضي على قواعد ثقافة الخذلان والهزيمة والوصاية والخوف “الإيد اللي بتضربك بوسها”. إن ما ذكرته يستدعي جملة من الخطوات الاجرائية التي لا مناص من التمسك بها، والالتزام بخطوطها، وعدم الخروج عليها، لتحقيق تفكير سياسي سليم في مجتمع تتقاذفه تناقضات الراهن المعاش والمحيط، وفي تصوري أول هذه الخطوات تجرد الاحزاب المشاركة في الكنيست تجردا تُقَدِمُ فيه مصلحة المجتمع على مصلحتها وعرفتها الدقيقة لدهاليز المسارات السياسية المحلية والإقليمية بعدئذ اقتربت المسافات بين دول المنطقة حدا كبيرا غابت فيه الفوارق الاساسية لمصالح بقاء الانظمة الموجودة وفي وقدمتها اسرائيل ودراسة واقعنا الفلسطيني في الداخل واستخراج مفاعيل القوة والضعف فيه ودراسة جدوى المراهنة على قواه الايجابية في ظل تعقيدات المشهدين السياسي والمجتمعي والخروج بخارطة طريق تخرجنا من أزمات فُرِضَتْ علينا وهذا يتطلب تعميق أواصر الثقة بين الاحزاب والكتل السياسية حتى التي تعد من الفرقاء والمختلفين وهو موجود هذه اللحظات تحت سقف المتابعة مما يعني ضرورة تعزيز مكانة هذه اللجنة وتحويلها الى جسم مُؤَسسِّ وَمُؤَسَسْ وتعميق صناعة القرار السياسي الوطني، والابتعاد عن التذيل السياسي وبناء شخصية سياسية فلسطينية واثقة من نفسها تتم فيه المراهنة على كوادر الاحزاب والحركات وتحريك مفاعيل الخيرية السياسية الكامنة في جماهيرنا العربية في الداخل الفلسطيني والاسراع في استدراك التهافت الحادث بين شبابنا وبناتنا في ظل تأزماتنا التي لا تتوقف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى