أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

لا، لن يطول زمن الشقلبة

الشيخ كمال خطيب

ابحث عن قلبك قبل أن
قال الإمام ابن القيّم: “أطلب قلبك في ثلاث مواطن: عند سماع القرآن، وفي مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة. فإن لم تجده في هذه المواطن فسلْ الله أن يمنّ عليك بقلب فإنه لا قلب لك”.
إنها المواطن والحالات التي أقرب ما يكون فيها العبد إلى ربه سبحانه وتعالى. وفيها تسكن نفسه ويطمئن قلبه وتسيل دموعه. إنها لحظات الصفاء الإيماني والخشوع النفسي عند سماع آيات الله تعالى التي لو أنزلت على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله {لو أنزلنا هذا القران على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} آية 21 سورة الحشر. وفي مجالس الذكر وحلقات العلم وفيها تطرب النفس وهي تتجول في آيات الله وذكر وتمجيد أسمائه والثناء والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، ليجد العبد الذاكر نفسه كمن تحلّق روحه وجسده من غير جناح. إنه تحليق الأنس والطمأنينة بذكر الله جل جلاله.
وأما الثالثة فإنها أوقات الخلوة التي فيها تتحرر النفس من كل ما يشغلها وفيها تستشهد النفس قربها من الله سبحانه حيث مراجعه النفس بذكر الجنة ونعيمها وذكر النار وجحيمها، ليجد الانسان نفسه من غير إرادة في حاله بكاء ودموع رغبة ورهبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله “ورجل ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه”.
إن من شعر بالسكينة والطمأنينة وهو يقرأ القرآن أو يسمعه، ومن عاش لحظات الأنس في مجالس الذكر، ومن أكرمه الله بسخاء الدمعة في الخلوات فإنه قد وجد قلبه وإن قلبه لم يمت ولم يمرض، وإلا فإن من لا تخشع نفسه وجوارحه عند سماع آيات الله، ومن لم يجد لذة الذكر وحلاوة ترديد أسماء الله وبالصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يشعر بزيادة الإيمان وهو في مجالس العلم، ومن لم يأنس بخلواته مع ربه سبحانه فليعلم علم اليقين أن قلبه قد فرّ منه أو أنه مريض وبحاجة إلى علاج لأنه لا عيش للمؤمن بلا قلب أو قلب مريض لأن الذي بلا قلب أو بقلب مريض، لأن الذي بلا قلب سيموت ويهلك. وأن الذي في قلبه مرض فإنه سيزداد مرضًا {في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضًا} آية 10 سورة البقرة.
نعم أطلب قلبك وابحث عنهم لأننا نعيش في الزمان الصعب، زمن الشقلبة وفيه أصبح كثير من الناس لا يستمتعون ولا يخشعون ولا تطمئن نفوسهم عند سماع القرآن، وإنما عند سماع مزامير الشيطان والغناء الماجن واللحن الصاخب. إننا في زمن الشقلبة فيه أصبحت أوقات الخلوات ليس لمحاسبة النفس والتوبة والدموع، وإنما أصبحت للجرأة على المعاصي والذنوب وانتهاك الحرمات لأن قلة الإيمان واستحضار معية الله تعالى تجعل هؤلاء يظنون أن في خلواتهم وبعدهم عن أعين الناس فإنه كذلك البعد عن عين الله سبحانه والحياء منه.
وإذا دعيت لريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني.
فامتحن قلبك في مجالس الذكر وعند سماع القرآن وفي الخلوات، فإن وجدته فاحمد الله وإلا فإنه لا قلب لك ومن لا قلب له فإنه ميت. من كان في قلبه مرض فليبادر إلى علاجه قبل أن يستفحل مرضه.

الإمام الطبري والجسم الرشيق

كان الإمام محمد بن جرير الطبري المفسر الشهير للقرآن الكريم والمؤرخ الكبير في سفينة مع أصدقاء له، ولمّا وصلوا قريبًا من الشاطئ وقبل أن ترسو السفينة نهائيًا وإذا بالإمام الطبري وكان سنه متقدمًا يثبُّ وثبة ويقفز قفزة من ظهر السفينة إلى الشاطئ. اندهش من كان معه من رشاقة جسمه وسرعة قفزته التي يعجز شاب يافع أن يقفزها، فقال الإمام الطبري: “هذه جوارح حفظناها في الصغر فحفظها الله في الكبر”، أي أنه حفظها في طاعة الله ومن الذنوب شابًا فحفظها الله له شيخًا.
هكذا إذن فهم سلفنا الصالح رضي الله عنهم المعادلة وعلى هذه ساروا. إن الجوارح هي من نعم الله تعالى للإنسان، والأصل أن يستخدمها في طاعة الله وليس في معصيته سواءً كانت هي اليد أو الرجل أو العين أو الأذن أو اللسان أو ما سواها، وليس فقط أنهم يوم القيامة سيسألون عنها {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولًا} آية 39 سورة الإسراء. وإنها ستشهد عليهم بين يدي الله تعالى {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} آية 24 سورة النور، وإنما هي التي سيصيبها العطب وتفسدها الذنوب وتزورها كثيرًا الآفات والأمراض والعلل فتعجز عن أداء دورها ومهمتها التي لأجلها خلقها الله للإنسان. كم من صاحب يدين لا يستطيع أن يشرب كأس ماء، وكم من صاحب رجلين لا يستطيع أن يمشي بهما خطوة أو أن يقف عليهما لحظة لأن المرض قد أنهك يديه ورجليه.
صحيح أن المرض يمكن أن يصيب حتى الرجل الصالح، ولكن للذنوب تأثير في أمراض الجسم والنفس، فيمكن للرجل الصالح أن يمرض ولكن نفسه تكون مطمئنة راضية، بينما يمرض غيره وتكون نفسه ضاجرة غاضبة.
إن حفظ الجوارح في طاعة الله في الصغر صمّام أمان وضمان بإذن الله لطول مدة خدمتها لصاحبها، حيث لم تفسدها الذنوب ولم تعطبها الأيام.
ولأننا نعيش في الزمن الصعب الزمن الأصفر، زمن انقلاب الموازين زمن الشقلبة في كل شيء، فإننا نراها الآفات والأمراض والأسقام تغزونا بأسماء كثيرة وعناوين مختلفة، لكنها تشير إلى أن حالنا تغيرت، إنها الأمراض النفسية والقلق وإنها البدانة وغيرها من أشكال المرض صوّبت سهامها إلى أجساد الشباب قبل الكبار فأفسدت عليهم شبابهم قبل مشيبهم ودنياهم قبل آخرتهم، والأصل أن نسلك مسلك السلف والصالحين فنحفظ جوارحنا في طاعة الله علّ الله أن يحفظها لنا كبيرًا وأن يجيرها من النار يوم القيامة.

ماذا قالت امرأة العزيز
إنها التي راودت يوسف عن نفسه فاستعصم {ولقد راودته عن نفسه فاستعصم} آية 32 سورة يوسف. إنها التي هددته بالسجن إذا لم يستجب لرغباتها، فاختار السجن على معصية الله والوقوع في الحرام {قال رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه} آية 33 سورة يوسف.
دارت الأيام، وخلال فترة السجن رأى الملك ما رآه في نومه، فأرسل لمن يفسر له الرؤيا ويؤول له الأحلام، فما كان غير يوسف الذي أصرّ على براءته وطلب إعادة سؤال النسوة عمّا جرى يوم تقطيع الأصابع، وكانت براءة يوسف واعتراف امرأة العزيز بالذنب، ثم ما كان من تولي يوسف الوزارة في مصر، فلا تباع حبة قمح إلا بإذنه.
وذات يوم رأت امرأة العزيز يوسف في موكب الملك وما هو عليه من مظاهر الجاه، وبينما هي في حاله الذلة والازدراء بما فعلته وافتضاح أمرها، فما كان منها إلا أن قالت “سبحان من جعل العبيد ملوكًا بطاعته وجعل الملوك عبيًدا بمعصيته”.
إن الطاعة ترفع مقام صاحبها وإن المعصية تذل وتهين، وإن السعيّ لرضا الله والآخرة يقود إلى العز، وإن معصية الله واللهث خلف حطام الدنيا يقود إلى الذل. قال أبو سليمان الداراني: “ما أكرمت الناس نفوسها بمثل طاعة الله ولا أهانتها بمثل معصيته”. وقال آخر: “إنما عصاه من عصاه لهوانهم عليه ولو أكرمهم لحجزهم” أي لمنعهم من المعصية ولكن لهوانهم عليه سبحانه بسبب ذنوبهم فقد أوكلهم إلى أنفسهم.
صحيح أن لغة ومصطلحات الحلال والحرام والخجل قد تلاشت من قاموس لغة أهل الغرب عمومًا، لكن ومع ذلك تبقى في أحدهم بقايا منه تجعله لا يجاهر أو يحاول الإنكار والتستر على فساد أخلاقه. لقد شاهدنا حرج بيل كلينتون الرئيس الأمريكي السابق عند انكشاف فضيحته مع “مونيكا لوينسكي”، وما زلنا نعيش كيف تم استغلال انحراف وفجور ترامب وفضائحه مع ممثلة الأفلام الإباحية “ستورمي دانيلز” والتي حاول اسكاتها وعدم فضح ممارساته الشاذة معها أمام الرأي العام الأمريكي بدفع الأموال الكثيرة لها.
هكذا إذن تحولت امرأة العزيز بمعصيتها إلى ذليلة مهانة، بينما تحول يوسف بطاعته وعفته وطهره ليكون ملكًا بل وسيد مصر بلا منازع. صحيح أننا نعيش في الزمن الأغبر والأصفر زمن الشقلبة الذي فيه أصبح السيسي الكذاب ناقض العهد سافك الدم رئيسًا لمصر، بينما محمد مرسي الرجل الصالح المنتخب شعبيًا حافظ القرآن عفيف اللسان في غياهب السجن.
لكن وكما دارت الأيام وعاد يوسف ملكًا لمصر بطاعته لله وذلّت وهانت امرأة العزيز، فإنني على يقين أن مرسي سيخرج من السجن طاهرًا عزيزًا مرفوع الهامة بطاعته، بينما إذا نجا السيسي من القتل جزاءً وفاقًا بما فعل، فإنه السجن والزنزانة ليعود مرسي السجين رئيسًا بطاعته وليعود السيسي الرئيس سجينًا مهانًا بمعصيته وجرائمه وما اقترفت يداه.

على أي دين تركتم يوسف
يروى أن أخوة يوسف لمّا دخلوا عليه وعرفهم وهم له منكرون، ثم وبعد أن رجعوا إليه مع أخيهم، ثم إخفاء صواع الملك ثم اضطرارهم للعودة ثم كشف يوسف عن حقيقة أنه أخاهم وإعطاؤهم قميصه ليعلقوه على وجه أبيهم كما في تفاصيل القصة التي وردت في آيات سورة يوسف في القرآن الكريم.
فلمّا دخل أولاد يعقوب على أبيهم وقد ارتد إليه بصره فسألهم كيف وجدتم يوسف؟ قالوا يا أبانا وجدنا يوسف على أحسن حال وصحة. قال: ما عن هذا سألتكم، كيف وجدتم يوسف؟ قالوا: يا أبانا وجدنا يوسف ملكًا على مصر. قال: ما عن هذا سألتكم، كيف وجدتم يوسف؟ قالوا يا أبانا وجدنا يوسف يملك الأرض فلا تباع حبة قمح في مصر إلا بإذنه. قال: ما عن هذا سألتكم، ولكن على أي دين وجدتم يوسف؟ قالوا يا أبانا وجدناه على دين التوحيد. عندها ابتسم يعقوب وانفرجت أساريره وتهلل وجهه وقال: “الحمد لله، الآن تمت النعمة”. إن المال والجاه والملك لم يجعل يعقوب يبتسم اذا كان هذا مقابل ضياع الدين، فلما علم أن يوسف ما زال يحتفظ بعقيدة التوحيد ثابتًا على ملة أبيه يعقوب واسحاق وإبراهيم عندها سُرّ يعقوب وابتسم وقال الحمد لله الآن تمت النعمة إذ ما قيمة كل المناصب والمواقع والمكاسب إذا كان الثمن ضياع الدين.
وإننا في الزمن الأصفر زمن الشقلبة قد أصبح الناس يسعون للوصول إلى الحكم والملك والجاه ولو على حساب الدين، ولو على حساب الدماء، ولو على حساب انتهاك المحرمات. ومن ينظر إلى سياسة ابن سلمان وكيف أنه يريد أن يصل إلى الملك ولو على حساب قطيعة الرحم وسجن أبناء عمومته، ولو على حساب سجن العلماء وأهل القرآن واهانتهم، ولو على حساب ذبح وتقطيع أصحاب الأقلام الذين قدموا له النصيحة. إن هذا الملك لن يكون نعمة، وإنما هو نقمة على ابن سلمان بل انه الذي سيكون وقريبًا بإذن الله عبدًا ذليلًا بسبب معاصيه وجرائمه.

في زمن الشقلبة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة؟ قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”. وعليه ولأننا في هذا الزمان زمان انقلاب الموازين والشقلبة التي من مظاهرها:
كانت اسرائيل العدو اللدود، فأصبحت الصديق والجار الودود.
كانت أمريكا الشيطان الأكبر، فأصبحت الشقيق الأكبر.
كانت تركيا العلمانية الأمريكية الغربية صديقة وشقيقة، فلمّا أصبحت تركيا تعتز بهويتها الإسلامية والشرقية فأصبحت عدوة ومارقة.
غزة التي هي عنوان البطولات والفخار، أصبحت في نظر آل سعود وآل نهيان مصدر الإرهاب والدمار.
كان بشار وما يزال الطاغية الجبار، فأصبح سعي آل سعود وآل زايد لإعادة تأهيله ورد الاعتبار.
كانت في السعودية هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فأصبح مكانها هيئة الترفيه للأمر بالمنكر والنهي عن المعروف.
كانت السجون للأشقياء واللصوص والقتلة والعملاء، فأصبحت عند آل سعود وآل زايد والسيسي للدعاة والعلماء والمفكرين والشرفاء.
كانت مدائن صالح “قوم ثمود” مكانًا للعظة والاعتبار والبكاء، فأصبحت في زمان آل سعود مكانًا للرقص والموسيقى والغناء.
كانت مصطلحات السفالة والخسة والخيانة في قاموس شعبنا الفلسطيني تعني والمقصود بها العملاء للاحتلال الإسرائيلي، لكنهم في زمن الشقلبة وفي ظل سلطة أوسلو ومهندسها أبو مازن هم المستشارون والوزراء.
لا لن يطول زمن الرويبضات والتافهين، وسيعود زمن الاستقامة والأصالة والشرف وقريبا بإذن الله.
نحن إلى الفرج أقرب، فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى