أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

نحن والانتخابات (1)….. القــــــلق السياسي

صالح لطفي، باحث ومحلل سياسي

تتميز الانتخابات الاسرائيلية للكنيست بخاصيتها النابعة من مجتمعها القلق أصلا، فعلى الرغم من أنَّ إسرائيل دولة ديموقراطية ( ثمة حديث اكاديمي عريض وعميق حول ديموقراطية إسرائيل) من حيث تعددية الأحزاب فيها، إلا أنه لا يمكن لحزب واحد أن يحكمها بسبب تلكم التعددية “كثرتها” ويعود ذلك إلى ما وضعه الآباء المؤسسون لهذه الدولة من تأكيد على ضرورة أن تكون الكنيست ممثلة لأكبر قدر ممكن من الطيف الاسرائيلي بغض النظر عن أفكاره ومطالبه، وإن كان الثمن هذا العدد الهائل من الكتل في الكنيست قياسا مع تعداد السكان وتشكيل حكومات ائتلافية ترهق كاهل الدولة، إذ أنّ متوسط عدد الكتل في الكنيست للدورة الواحدة منذ عام 1949، اول انتخابات للكنيست، والى هذه الدورة، 18.9كتلة. ذلك أن هذا موروث أساس من مورثات “الدياسبورا” وما يعرف بفترة “اليشوف”، وهما مرحلتان مؤسستان للدولة العبرية وبدونهما لا يمكن للسياق الإسرائيلي أن يستمر، مع التأكيد على أننا نشهد في العشرية الأخيرة تحولات بطيئة تسعى للخروج من إطارات تلكم المرحلة التي رسم معالمها في الدرجة الاولى حزب “مبام” و”مباي”، وهما اليوم الاكثر ضعفا في التشكيلات السياسية الإسرائيلية الراهنة.


القلق مُؤَسِسُّ لخراب العمران

إسرائيل دولة قلقة، قلقة في كل امور حياتها وهذا القلق ينعكس مباشرة على السلوك السياسي للأفراد والجماعات والمؤسسات سواء في المسيرة اليومية– السياسية لهذا المجتمع أو عند وقوع الإحداث والأزمات ولعل إطلالة بسيطة ومتابعة يومية على مدار أسبوع واحد فقط لنشرات الأخبار والبرامج ذات الطابع الثقافي- السياسي- المجتمعي، تبين هذا القلق بوضوح، هذا على الرغم مما تتمتع به هذه الدولة من إنجازات عديدة لا تخطئها عين الباحث والمراقب، ومع ذلك فانَّ القلق يستبدُّ بها يوما بعد يوم وهذا للوهلة الاولى من متناقضات هذه الدولة “الحديثة”، ومؤشر من مؤشرات عدم العمران، فالقلق كما يعلم القارئ الكريم والقارئة الكريمة مرض نفسي تتم معالجته في الاطر النفسية، لكنه حين يصيب الامم والشعوب والدول والحضارات فلا مجال للعلاج منه إلا بترك أسبابه وعادة ما تكون أسبابه مشتقة من مشتقات وجوده، ووجود إسرائيل كان على حساب أهل هذه البلاد حيث نكبتهم وحاصرت من تبقى منهم ولا تزال تفتك ببقيتهم الباقية على أرضهم سواء كانوا تحت سلطتها المباشرة أو غير المباشرة.
القلق له عدة أوجه، لكن الجامع لهذه الاوجه هو الانزعاج والاضطراب والخوف، والخوف “ذاتا” على مراتب يبدأ من خوف الراهن الُمُعَاش وينتهي بالخوف على الذات “نفسا” وفي الحالة الإسرائيلية الخوف وجودا، والمفارقة أنَّ ما ينسحب على المجتمع الاسرائيلي ينسحب على المجتمع الفلسطيني عموما، والداخل الفلسطيني بشكل أكثر حدة، خاصة بعد إقرار قانون القومية.
عادة ما يتم معالجة القلق بالاطلاع على أسبابه ومن ثم معالجتها بمختلف الوسائل والامكانيات، وفي الحالة الاسرائيلية القلق متأصل ومتجذر لأسباب عديدة، ليس هنا مجال ذكرها، بيدَّ أن سببا مباشرا لازما لهذا القلق لا يتوقف، يتعلق بنا، نحن الفلسطينيون، اصحاب هذه البلاد، فوجودنا كفلسطينيين على الارض الفلسطينية في جغرافيتها الاستعمارية المُحدَثة التي قامت على بعض منها اسرائيل برسم استعماري عالمي، يجعل هذا القلق يبقى دائما ويستمر وبقوة، وهو ما جعل كبار المؤسسين لهذه الدولة يؤمنون يقينا ان دولتهم اسبارطية( كتدليل على العسكرة والامن الدائمين فيها) في وجوه، وأثينية أي ديموقراطية في وجه واحد– ديموقراطية “ناقصة” مع ذاتها في سياقاتها الليبرالية.


من معالم القلق الاسرائيلي

عادة ما يشكل النظام السياسي في السياق المحلي ناظما وضابطا للقلق السياسي ويدفع جموع المواطنين في الدولة “الديموقراطية” للاستراحة والاطمئنان من أنَّ الدولة بنظامها ومؤسساتها تهتم بهم سواء كانوا الاغلبية العددية عرقا او دينا او الاقلية، وفي العشريات الاخيرة وتحديدا بعد انتهاء الحرب الباردة، سعت الدول المؤمنة بالديموقراطية لتحصين الاقليات التي تعيش فيها، خاصة صاحبة البلاد ومالكتها، بمنحها حقوقا أساسية بفضل المؤسسات الحقوقية ونشاطات المجتمع المدني في تلكم الدول، والامر ليس على إطلاقه في كل تلكم الدول.
في الحالة الاسرائيلية يتسم القلق السياسي بثلاثة مميزات على المستوى الجوهراني: الوجودي، الداخلي المجتمعي”البيني”، الاقتصادي- المعيشي: المستوى الوجودي مترجما بعلاقات الامن والسياسية والمحيط المُعَاش، والمستوى البيني أي داخل مكونات المجتمع الاسرائيلي عرقيا ودينيا، والذي يتميز بالتناقضات القائمة بينهم على اساس ديني-علماني (علاقة الدين بالدولة بشكل أعمق وجوهراني ) علاقة الجماعات العرقية (أشكناز- سفارديم- شرقيين) وعلاقة المركز بالضواحي- اليوم يتم الحديث عن دولتين داخل دولة واحدة دولة القدس برسمها دولة تعبر عن الدين والمحافظة واليمينة السياسية، وتل أبيب بوصفها ممثلة للعلمانية واللا- دينية والتحرر واليسارية- واخيرا علاقة الغِنى/ الفقر وتغلغل الفقر وانتشاره بين مجموعات محددة: المتدينون الحاريديون، الشرقيون، الأقل تعلما، المفككون أسريا، الروس، ويرافق ذلك سيطرة العديد من العائلات العملاقة اقتصاديا والمتنفذة ماليا وسياسيا، والمتداخلة مع مصالح رسمية تتجلى راهنا بقضايا الفساد، وبعضا منها بمحاكمات نتنياهو- والفقر كسياقات طبقية مرتبطة صُرِيا بمجتمع الرفاهية “المنقوصة” يدفع فيها الثمن الأكبر الطبقة الوسطى الآخذة بالتآكل، وكل هذه الجدليات متداخلة داخل هذا المجتمع ترتفع وتيرتها مع كل موسم انتخابات.


القلق وسلسلة القوانين

لقد تداخلت داخل المجتمع الاسرائيلي في جدل علاقاته معنا نحن ابناء الداخل الفلسطيني المميزين عنه لغة وثقافة ودينا في قضيتين جوهريتين، القضية الوجودية والقضية المُعَاشة، في الاولى علاقة وجودية على هذه الارض تجلت في مصادرة الاراضي بشكل منظم وسريع تحت عباءات الحكم العسكري باعتبار أنّ السيطرة على الأرض هي المؤشر الحقيقي للسيادة والقوة والغلبة، وباعتبار أن السيطرة عليها يعني السيطرة على المجتمع العربي وضبطه وفقا للمؤشرات التي تريدها المؤسسة الاسرائيلية، وتحدد مناطق ومساحات العلاقة مع الاقلية المغلوبة برسم ان وضع اليد على الارض وإن بالقوة، مَعْلَمُّ على بسط النفوذ وقيام الدولة، وفي الثانية علاقة مصلحية بينية سياسية ومعيشية تخللتها عديد الطروحات السياسية من قبل مفكرين، بدأت بالحكم الذاتي الثقافي، وانتهت حتى هذه اللحظات بما عرف بالتصورات المستقبلية التي في جوهرها الأساس مهما اختلفت الرؤى والطروحات حتى وإن كانت أشد حدة بعضها من بعض، اعتراف بإسرائيل ليس كمنجز مؤقت بل كواقع “حضاري” وبالتالي فهذه الطروحات تحمل في طياتها من ضمن ما تحمل بصمات للأسرلة كما تحمل بصمات الفلسطنة، وهذا بحد ذاته مؤشر من مؤشرات القلق الذي تسرب الى تلكم النخب المثقفة التي تسعى في السنوات الأخيرة للسيطرة على المشهدين الثقافي والسياسي المحلي، وفي المقابل من كل ما ذكرت، فإنّ سلسلة القوانين التي سنتها المؤسسة الإسرائيلية في السنوات الاخيرة، وفي الذروة منها قانون القومية الذي يسميه البعض منهم “قانون التاج” إنما هو في الحقيقة تجل لمواجهة القلق الذي يتسرب في جسد هذه الدولة مؤسسة وشعبا.
في الوقت ذاته، فإنَّ سياسات القتل “العمد” التي شهدناها في السنوات الأخيرة، وسعت المؤسسات الحاكمة لتبريرها أو منحها صك براءة تعبر كذلك عن هذه الحالة التي تعتقد المؤسسة الحاكمة أن معالجتها تتم عبر مواجهة وصِدام الداخل الفلسطيني، وإذا كانت سنن الحياة ومدافعاتها، تقتضي عند استشعار المخاطر، اتحاد الأجزاء المتفرقة لمواجهة الخطر الداهم وهذه مهمة أساس عند الساسة واهل الفكر وصناع القرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى