أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

إعادة تدوير الوطنية

توفيق محمد
في زمن خلا من عمر الوطن العربي الجديد – اقصد وطن ما بعد التخلص من الاحتلال الذي أفرزته اتفاقية سايكس بيكو- كان يقاس الوطني والإسلامي في العالم العربي بمدى التزامه اتجاه القضية الفلسطينية، وكان كل من يسعى الى تسلم مراكز قيادية في أي دولة عربية كان لا بد ان يثبت إخلاصه للقضية الوطنية، كان الجميع يعلم أن العبور الى كرسي الحكم يمر عبر بوابة الإخلاص للقدس بأقصاها وسائر مقدساتها وفلسطين، كان ذلك مقياس الشعوب وان كان الحكام ينقلبون على هذا المفهوم بعد التمكين لكنه كان أساس الدعم.
ويمر الزمن ويطوي معه مفاهيم كثيرة، بل يطوي معه أوطانا كثيرة، بال يطوي معه عقائد ومسلمات ويصبح الوطن في مفهوم أصحاب الوطن مجرد لقيمات يوفرها هذا الوطن لأبنائه، ومجرد مطالب يومية وحاجات شخصية تسعى لتوفيرها “القيادات” للناس.
أبدعت إسرائيل في إعادة تدوير المفاهيم لدى قيادات مجتمعنا الفلسطيني في الداخل حتى أصبحت خيانة الأمس قمة وطنية اليوم.
يوما ما كان سقف القيادات لا ينزل عن مفهوم الوطن السليب في الأدبيات الفلسطينية الموروثة قريبا، تحاكي النكبة وما قبلها، وتحاكي حق شعبنا الفلسطيني في حقله وبيدره وأرضه وتدعم الحق الفلسطيني وتناصر الانتفاضة الفلسطينية التي أجلست إسرائيل الى طاولة المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية (30.10.1991) في مدريد، بل وتتغنى بها وبإنجازاتها.
ويمر الزمن مرة أخرى، وتولد في مجتمعنا قيادات تتحدث عن الواقعية والظروف الدولية ومحاكاة الراهن الدولي الحاضر، وعدم العيش في الخيالات والأوهام –أصبح الوطن أوهاما والحديث عنه أحلاما- ومن ثم تولد قيادات تتحدث عن “فقه الواقع” وعن “تجديد الخطاب الديني” مرة في التعامل مع الغير ومرة في التعامل مع العنف وغير ذلك، وهذا الخطاب يجد تطبيقا مباشرا له بلقاءات أقل ما يمكن أن يقال فيها أنها تقع في دائرة المحظور والشبهات، بل كانت في وقت سابق من حياة مجتمعنا تصنف في خانات لا نريد ان نذَكِّر بها لأننا ان فعلنا فسوف نتهم بالتخوين والتكفير وغير ذلك من مصطلحات كانت وما تزال تتفنن في استعمالها العلمانية عندما تهزم فكريا وعقديا وتلجأ الى نفق الهروب عبر اتهام الآخر بتخوينهم وتكفيرهم وتبديعهم.
أعتقد أنه آن الأوان أن تسمى الأمور بمسمياتها كما هي دون رتوش ودون مساحيق ودون “مكياج”، فالذي أنتج هذه التصرفات، وهذه المفاهيم الجديدة الدخيلة على وطنيتنا وعلى مفاهيمنا الدينية هو المُلْزَمُ بإيجاد التبريرات والتفسيرات المقنعة المدعومة بالفهم الوطني والديني السليم والصحيح والمؤصل، وإلا فالعودة عنها إلى حضن الوطن والعقيدة.
في ظل التطور التكنولوجي والإعلام الرقمي لم تعد حاجة ماسة الى المخبر البشري الذي يجمع المعلومات، ثم يقوم بتسلميها إلى مشغله، فلكل منا مخبره الرقمي الذي يتجول معه في كل بقعة ومكان، وفي كل حدث سياسي أو وطني أو اجتماعي أو أسري، ولكل منا دائرة “الأصدقاء” الذين يعبرون هم أيضا عن آرائهم في مختلف القضايا بشكل لا أقول يومي وإنما على مدار الساعة، حيث لم تترك مواقع التواصل الاجتماعي للخيالات والتحليلات كثيرا من العمل، فالآراء متاحة، وفي متناول اليد ودائرة الأصدقاء كذلك، ودائرة التوافق بالرأي والدائرة الأسرية والدائرة الحزبية، وغير ذلك كله متاح وميسر لكل متابع أو مراقب أو معني، وبذلك فإن اهتمام من يراقب سينصب بالضرورة على مساحات أخرى وهي إعادة تدوير المفاهيم الوطنية والدينية بشكل يتناغم ويتوافق مع السياسات التي بات يرسمها هو.
أبدعت إسرائيل في سياسة التخويف والترهيب في السنوات الثلاث الأخيرة بدأتها بحظر الحركة الإسلامية وحظر قرابة ثلاثين مؤسسة مدنية تعمل على خدمة الأهل في الداخل الفلسطيني، ثم أتبعت ذلك بسن عشرات القوانين العنصرية التي تقرر تفوق العنصر اليهودي على العنصر العربي بكل المجالات وملاحقة العربي في مسكنه ومطعمه ووجوده، إزاء ذلك نشأ جيل من القيادات يسعى الى ترسيخ سياسة “امشي الحيط الحيط وقول يا رب السترة”، خطاب هذا الجيل أصبح منصبا على القضايا المطلبية اليومية لـ”مواطنين” في دولة تعتبرهم (أي الدولة) أعداء.
ولذلك فإن تلك “القيادات” التي كانت بالأمس القريب في دائرة الشبهة الوطنية أصبحت اليوم في قمة الوطنية.
وتلك القيادات التي كانت في دائرة الفهم الوطني والديني السليم أصبحت في دائرة تسويق مفاهيم جديدة وإعادة تدويرها حتى تتوافق مع الواقع الإسرائيلي الذي يريد إسلاما وعروبة وفق المقاسات الإسرائيلية، وعليه فإن الاجتماع والتنسيق والدعوة لبناء الثقة مع الشرطة الإسرائيلية أصبحت امرا شرعيا لا بأس به، وأصبح تجديد الخطاب الديني المستورد من انقلابيي مصر ومن مفاهيم ابن سليمان سياسة الواقع، وأصبحت اللقاءات في اجتماعات حوار الأديان التي تقع في دائرة الشبهة، شرعية ضمن سياسة “فهم الواقع”.
في الواقع تسعى إسرائيل الى تحييد فهمين والى تسييد فهمين، فهي تسعى إلى تحييد التيار الوطني القومي صاحب الرؤية الوطنية السليمة التي ما تزال تؤمن بالوطن وبالحق الفلسطيني، وتسييد مفهوم جديد لهذا “الوطني” يتقن فن الخطابة والحديث والعلاقات العامة مع الإعلام لكنه محصور في السقف الإسرائيلي ومصنوع هناك، والى تحييد الفهم الصحيح للإسلام الذي يقف عند الثوابت الدينية والوطنية لا ينفك عنها، والى تسييد الفهم الإسلامي الذي يدعي الواقعية ضمن سقف الكنيست الإسرائيلي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى