أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الدين كمحدد جامع للدول الاقليمية القوية

صالح لطفي، باحث ومحلل سياسي
يشهد هذا العام منذ فجره الاول استمرارا لأحداث ما زالت تتخلق في رحم الغيب والشهادة، وأخرى قد ولدت وشرعت، تتداعى مسرعة، وثالثة تنتظر ميلادها بعدئذ شهدنا بعضا من إرهاصاتها.
نُمَثِلُ على الاولى ما يدور في بعض بلدان العرب، خاصة السعودية، ومصر، ففي حين أعلنت الليبرالية السعودية حربها على الصحوة الدينية والعلماء ها هي تتطاول على مدينة رسول الله ﷺ وها هو نظام السيسي يؤسس لحالة ديكتاتورية ستبز عصر ناصر ومبارك، رغم هشاشة هذا النظام، وذلك بفضل حربه المسعورة على الدين والهوية، ونُمَثِلُ بالثانية الانتخابات للكنيست الاسرائيلي محليا، والثانية مآلات الثورة السورية، بعدئذ اجتثت من أركانها بسبب تناصر دولي عالمي رأى أن الدين- بغض النظر عن كيفيات حكمه القادم- لو تحقق انتصار الثورة- سيكون المحدد الجامع والقادم للدولة السورية رأس الحربة في الهلال الخصيب والشام، والثالثة بما رشح مما يسمى صفقة القرن، خاصة بعد الحرب التي أعلنها محمود عباس وزمرته على قطاع غزة وقد وصل الأمر بعزام الاحمد أن يقول قبل أيام قليلة بأنه يجب قطع الهواء عن غزة، ولا أستبعد في هذه العجالة أن يكون التخلي عن القطاع فلسطينيا، مكون سياسي من مكونات هذه الصفقة، التي كما أشرت، ننتظر ميلادها بعد إذ كثرت مؤشراتها.
لا فراغ في المعادلات السياسية
الاحداث التي عصفت، ولا تزال في منطقتنا، ودخول عديد دول الاستكبار الغربي، وبروز دول في المنطقة كقوى إقليمية ناجزة وذات مكانة تتمتع بأفق سياسي وبقوة داخلية، وبتنمية واضحة المعالم في كافة مرافق الحياة جاءت لتملأ الفراغ العربي، وهذه الدول، اسرائيل، وايران، وتركيا، والدول الثلاثة لا ينطقون بالعربية وليسوا على ديانة واحدة ولا على منظومات من القيم والاخلاقيات، إلا أنَّ هناك ثلاثة اسس جامعة بينهم أسست لهذا الظهور مع اختلاف شديد بينهم، فالدين أساس جامع للهوية والصمغ الرابط بين مكوناتهم المحلية، وأساس يعتمد لترميم ذاتهم تاريخا وواقعا، ويشكل الدافع للتقدم الذي هو أساس مشترك بينهم، فهذه الدول الثلاثة تتقدم علميا وتقنيا، ومعرفيا، وانعكس هذا الأمر على صناعاتهم الامنية والعسكرية والمدنية، ولا يمكن إلا لمكابر أن ينكر دور اسرائيل العالمي في مجالات الهايتك والصناعات العسكرية والدقيقة، وعلى خطاها كما يبدو لي تمضي كلا من ايران وتركيا، وهو ما أسس للمشترك الثالث بينهم وهو التطلع الاقليمي وتأكيد الوجود، خاصة في ظل غياب دولة ذات مرجعية كمصر مثلا، ففي عالم الجغرافيا-السياسية، ومنظومات العلاقات الدولية لا مكان للفراغ السياسي والقيادي، ولذلك رأينا قوة الحِراك لهذه الدول في المنطقة لتحقيق مصالحهم الاستراتيجية. لذلك سيشهد هذا العام والعقد القادم صراعات قوية بين هذه الدول الثلاثة تتجلى علنا تارة وتخبو أخرى ولا يستبعد كاتب هذه السطور أن نصحو يوما على علاقات تقام على اساس من المصالح بين هذه الدول الثلاثة فعالم المصالح الاستراتيجية اكبر واهم بكثير من شعوب تائهة ودول موز منتشرة.
فوارق أساسية
هناك فوارق أساس بين هذه الدول، فلتركيا وايران تاريخ امبراطوري عريق وامتداد بشري هائل وارتباط ديني عميق في المنطقة وتمتد ايران على اكثر من 1،6 مليون كم2 وتركيا على اكثر من 780الف كم2 فيما مساحة اسرائيل لا تتجاوز21كم2 أي انها بمساحة مدينة من المدن الكبرى في البلدين، وللجغرافيا والسياسة والثروات دور هام في اقتصاديات الدول، هذا فضلا عن ان هذه الدول راسخة في التاريخ، فيما اسرائيل وان استدعت التاريخ لقيامها الا انها قامت في سياق المصالح الدولية والمسألة اليهودية، ولذلك مع كل ما تملكه اسرائيل من قوة بكل انواعها يبقى وجودها على خطر، خاصة وأن مكونها البشري الاساس “اليهود” فيه من الاشكالات الكثير، ولكن حتى هذه اللحظات ملكت هذه الدولة من معالم وأسس القوة ما يدفع عديد المفكرين والباحثين للبحث في تضاعيف هذه الدولة، وكيف تلعب أدوارها بين الوظيفي والمؤسس في منطقة تمور بالأحداث.
الفكرة الدينية في الدول الثلاثة
في هذه المقالة سأتناول بُعدا واحدا يبدو لي جامعا لهذه الدول الثلاثة ومؤسسا لواقعها التقدمي الُمعاش مع اختلاف الرؤى في كيفيات التعامل معه.
الدين يشكل البُعدُ الأساس في مكانة هذه الدول محليا وإقليميا ودوليا، فالفكرة الدينية في الحالات الثلاث تنبع من قمة الدولة وليس من قاعها كما هو حال الدول العربية حيث تناضل الحركات الإسلامية لتنزيله حالة معاشة في الواقع العربي، وهو ما أدى إلى صراع لمَّا يتوقف بعد بين دعاة وحملة الفكرة الإسلامية والمتولين أمر السلطات وكلهم من العلمانيين في بلدان العرب، فالصراع بين الفكرة العلمانية ومن يحميها فكرا وممارسة ويملك من ادوات البطش والقوة والحديد، وبين حملة الفكرة الدينية ومن يحميها فكرا وممارسة ولا يملك من ادوات البطش ما تعينه على حمايتها على أشده، وما أحداث الربيع العربي الا دورة من دورات هذا الصراع لماَّ تنتهي بعد.
في الحالات الثلاث، نجد أن الوضعيات المعاصرة لها قد تأسست اساسا على مشترك جامع بين الدين كفكرة ناظمة لشؤون الحياة وبين دعاة الدولة الحديثة ولا ابالغ في القول، إذا ذهبت الى ان هذه الدول الثلاث مع اختلافاتها البيَّنة في تفسير الحالة الدينية والتعاطي معها رسميا وشعبيا، اعتمدت الموروث والتاريخ اساسا لهذه الدين القادم من رأس الهرم في الدولة، فإيران المعاصرة مثلا تعتبر نفسها امتدادا للدولة الصفوية وحامية حمى الشيعة الامامية في العالم ولذلك رأت بالفترة البهلوية “1925-1979” فترة شاذة في تاريخ ايران “الصفوي-الكاجاري”، وتعتبر ايران الحديثة امتدادا للتاريخ الصفوي وعودة الى تلكم الفترات التاريخية حيث كان الدين “بمذهبيته الامامية” الناظم والحاكم لشؤون الناس من طرف الدولة ليكون المواطن والدولة تحت سقف هذا “الدين”، وهكذا تركيا فقد تعاضدت فكرة الدين والدولة منذ اللحظة الاولى للأمة التركية، فقد ارتبط في حسها تلكم العلاقة التاريخية بين الدين والدولة ومن ثّم اعتبُرت الفترة الاتاتوركية فترة شاذة في التاريخ التركي الممتد منذ “الدولة السلجوقية”، ومن بعد العثمانية والى هذه اللحظات، والعودة الى الحكم وإن بأشكال وحالات مختلفة منذ سبعينات القرن الماضي، والى هذه اللحظات، هو الامر الطبيعي في الامة التركية. وكذلك الامر في الحالة الصهيونية فقد تأسست الحركة الصهيونية على أساس ديني ولولا اليهودية لما كان هناك صهيونية واعتبرت الصهيونية العودة لصهيون وبناء الدولة الامر الطبيعي لأمة كان لها دولة وناظم حياة مؤسس على الدين، ولذلك لجأت الصهيونية الى التاريخ واستدعته بمنظوماته الدينية ( انظر مثلا الى الكنيست فلم يختر الاباء المؤسسون وكلهم علمانيون اسم برلمان او مجلس تشريعي او كونغرس وما إلى ذلك من مسميات ليكون الناظم القانوني للدولة ) واعتبر بن غوريون الاتفاق مع الاحزاب الدينية- الحاريدية واحزاب “همزراحي” الممثلة للتيار الديني-الصهيوني، شرطا من شروط قيام الدولة العبرية الجامعة للمكون اليهودي، وارتضى وهو العلماني اليهودي الارثوذكسية ناظما حاكما في شؤون الاسرة ووافق على وضعيات التدين القائم الى هذه اللحظات برسم انه المعبر عن تجليات اليهودية- الصهيونية في السياق السياسي، والدول الثلاث لجأت في صيروراتها المعاصرة الى الدين لتحقيق ثلاثة قضايا مركزية: خلق مجتمع جديد حداثي يتعايش مع تاريخه بعز وأنفة، بناء هوية متجددة جامعة للوجود العرقي لها على الارض ويتجاوز بلدانهم الخاصة الى “الامة الجامعة” ممن هم خارج حدود تلكم الدول وبناء الدولة ( الحديثة) على اساس من تلكم الهويات الجامعة. وتجلت هذه الدول- على سبيل المثال لا الحصر- في اتخاذ العواصم المدن التاريخية التي تخلقت عليها هوياتها المتجددة، طهران والقدس واسطنبول “مع الأخذ بعين الاعتبار أن عمليات الحسم النهائي في تركيا في جدل العلاقة بين الدولة العميقة الممثلة للتراث الاتاتوركي لمَّا تنتهي بعد وإن حسمت لصالح الدولة الحديثة عام 2016 بعد فشل الانقلاب العسكري-السياسي”.

المحددات الحاكمة
في تصوري سيحكم مستقبلنا القريب والبعيد مجموعة من المحددات ستشكل خارطة المستقبل السياسي والاجتماعي البشري في منطقتنا وهذه المحددات ( أي الامور ذات الاختصاص): المحدد السياسي، المحدد الاجتماعي بسياقه المجتمعي-البشري، المحدد الديني ويقاربه البعد الطائفي، المحدد الاقتصادي- المعيشي والمحدد العلمي-التقاني”. وهذه المحددات في تصوري مرهونة بمجموعات من القيم (مجموعة العوامل المكتسبة ذات الصبغة الاخلاقية والعقلية ذات الصلة، التي يمكن قياسها لتحديد نجاعتها وأثرها على المحددات المرتبطة بها) ذات الصلة بتلكم المحددات تتخذ في بعضها حالة من الفرادة والخصوصية الذاتية، كالعبادات مثلا، في المحدد الديني، وما ينسل عنه من مسألتي إحياء الدين كقيمة ذاتية على المستويين الفردي والمجتمعي، والطائفة في اطار التنوع المجتمعي في الدولة بحيث تكون “الحالة الطائفية” التي لا يمكن الخلاص منها مُفعلا إيجابيا داخل المجتمع المتعدد كالمجتمع العراقي او السعودي او السوري، والطائفية هنا لها شكلان ووجهان، واحد خاص باتباع اهل الاسلام كالعلاقات البينية بين السنة والشيعة مثلا، والاخر من خارج هذه الدائرة كالعلاقة مع طوائف ليست من اهل الاسلام كالمسيحيين في بعض البلدان او الايزيديين وغيرهم.
هناك قيم جامعة تتخلل كافة هذه المحددات بل وتعتبر اساسية فيها، من مثل، قيمة المسؤولية، وقيمة الأمن كقيمة فردية تخص الافراد، وجماعية تخص المجتمع بتنوعه.
في تصوري تشكل هذه المحددات الخمسة بقيمها المختلفة والجامعة الاطار الجامع لواقعنا العربي والاسلامي، وتؤسس مستقبلا لواقع جديد يتخلص من سنوات الاستعباد والاستعمار الغربي الصليبي والاستعمار المحلي ممثلا بأنظمة الفساد ومن سار في فلكهم، وحتى تتحقق هذه المرحلة ستمر مجتمعاتنا قاطبة في زلات وهزات حتى تتخلص من كل ادرانها الداخلية وأورامها السرطانية فقد كشفت سنوات “الربيع العربي” عن جيش من الأكاديميين والمثقفين والاعلاميين ممن استعدوا لبيع شعوبهم في المزاد العلني، مقابل ثمن بخس من منصب وجاه ومال، كما شهدنا حربا شرسة قادها مجموعات من العلمانيين الليبراليين الرافضين لعودة الدين ليحكم شؤون الحياة، ومن المفارقات المبكيات في منطقتنا أن الدول الثلاثة التي ذكرت سابقا وتتقدم بثبات لتتمكن في منطقتنا، لا تحترم الدين والشأن الديني فحسب، بل وتعتبره أساسا في مشروعها النهضوي واستلت منه مجموعة من القيم والاخلاقيات لتقود من خلاله مجتمعاتها وتجعلها تقارب بعضها بعضا في المواقف والقضايا الكلية والجامعة، فيما تعلق أعواد المشانق ويقتل العلماء والربانيون تحت سياط التعذيب وأقبية السجون العلماء والدعاة وأهل الفكر والنظر ممن خالفوا المؤسسات الرسمية في بلادهم.
اذا ما تابعنا هذه المحددات وأنزلناها على الدول الثلاث سنجد أنها سبب من أسباب قوتها وتقدمها، في السياق السياسي المحلي على مستوى تلكم الدول ثمة تعدديات سياسية وإن اختلف بعض الباحثين والمراقبين في كيفية تعاطيهم مع هذه التعددية تبعا لخلفياتهم الفكرية والايديولوجية وفي سياقها الديني”مثلا” نجد كما اشرت اعتمادها التعددية الدينية والتسامح الديني في سياقاتها الذاتية والدول الثلاث ذات نمط ايديولوجي فثلاثتهم لا يعترفون بالأقليات الدينية ولا يمنحونهم الحقوق الدينية، فتركيا لا تكاد تعترف بالعلويين وايران لا تعترف باهل السنة واسرائيل لا تعترف بالمسلمين وفي الدول الثلاث التزام بمذهبياتهم التاريخية، فتركيا تلتزم الماتردية عقيدة والحنفية فقها، وايران تلتزم الامامية عقيدة والجعفرية فقها، واسرائيل تلتزم الارثوذكسية الدينية والحاخامية عقيدة وفقها. وهذا الالتزام الجامع يمنح هذه الدول القوة مرتين: مرة بتحقيق إجماع داخلي لا يترتب عليه انتكاسات داخلية وإن وجدت فإن هذه الدول تواجهها عبر عديد الأدوات والوسائل التي عادة ما تكون الدولة واجهزتها الرسمية بعيدة عنها وإن كانت على علم بها وهو ما يمنح هذه الدول قوة امام الخارج بأنها مجتمعات مجتمعة من حيث الاغلبية المطلقة على رأي موحد، ولذلك التزمت نظاما دينيا صارما مضت عليه كمؤسسة جامعة ولذلك ترفض اسرائيل مثلا التنازل عن الحاخاميات وعن المحاكم الدينية وإن منحت مجتمعها فضاء واسعا في هذا الباب وكذلك فعلت تركيا في حين ما زالت أيران منغلقة على نفسها وتزداد انغلاقا مذهبيا وهو ما يتحسب منه عديد العلماء الايرانيين الشيعة في ظل الانفتاح السايبري العالمي.
الملفت للنظر ونحن في خضم هذه الحيثية ان الدول الثلاث تراقب بعضها بعضا مراقبة صارمة وفي كافة المجالات فهم يتجسسون على بعضهم ويرقبون إصدارات بعضهم ومتابعون لكل خطوة تجري في داخلهم، وذلك دليل على عمق المنافسة فيما بينهم للسيطرة على مقعد الشرق الاوسط المتجدد القادم في ظل غياب دول عربية يمكنها أن تقود المنطقة وهذه الدول تدور فيما بينها حرب ظلال لا يعلمها الا اولي الامر ومن ينفذون العمليات الداخلية ولعلي لا ابالغ اذا قلت ان هذه الدول المتنافسة فيما بينها مجموعة من القواعد المتفق عليها فيما بينهم للتعامل مع منطقتنا ولعل اطلالة على الحالة الفلسطينية والعراقية وكلاهما وضعيتان ذات إشكال خاص سيجد تدخل هذه الدول كل على طريقته، فإسرائيل فيما يبدو اخترقت الاسوار العراقية والحديث عن زيارات لبرلمانيين عراقيين غير مستبعد، فيما تركيا تتدخل بشكل او بآخر في الملف العراقي لتحقيق مصالحها الاستراتيجية وهي جد كثيرة- وما زيارة الرئيس العراقي واستقباله الاستقبال الرسمي الا دلالة على حجم المصالح التركية في العراق وتقدم تركيا في العراق هو بالدرجة الاولى على حساب الايرانيين-، فيما حطت ايران رحالها في العراق بعدئذ اعتمدت الطائفية والصراع المذهبي لحسم الوجود السني وتحقيق مصالحها الاستراتيجية وهي كذلك جد كثيرة في العراق، وأترك للقارئ الكريم التفكير بناء على ما ذكرت بالنسبة للحالة الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى