أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

قراءة في المشهد السوري من زاوية مختلفة

“مِنَ الشِّمالِ‌ يَهُبُّ الشَّرُّ على جميعِ سُكَّانِ هذِهِ الأرضِ” (إرميا- الإصحاح: 1)
حامد اغبارية
بدأت في الأيام الأخيرة تتكشف خفايا السياسة الدولية والإقليمية فيما يتعلق بالقضية السورية على وجه الخصوص، ومستقبل المنطقة بشكل عام.
ولعلنا لاحظنا كيف أن تل أبيب سعت منذ اللحظة الأولى لانطلاق شرارة الثورة السورية عام 2011، إلى إجهاضها، وتثبيت أركان نظام بشار الأسد بكل الوسائل الممكنة. وربما أنَّ ما يخفى من هذه الوسائل أكثر بكثير مما انكشف حتى الآن، ولكنه بالتأكيد لن يبقى طيّ الكتمان إلى أبد الدهر، وسيأتي يوم يعضُّ فيه الظالم على يديه ويقول يا ليتني لم أدعم بموقف أو كلمة نظاما مجرما عميلا، سفك دماء نحو مليون إنسان من أبناء شعبه، وشرد نصف الشعب في أصقاع الأرض، ذلك يوم ينجلي “غبار المعركة القذرة”، وتظهر الأصابع الإسرائيلية الموغلة عميقا فيما جرى ويجري وسيجري على الساحة السورية.
لقد سعت تل أبيب إلى تثبيت نظام بشار الأسد، وشطب ما أنجزه الشعب السوري بثورته على امتداد سبع سنوات، ضمن سياساتها للحفاظ على وجودها، وإبعاد ما يحدق بها من أخطار عن طريق العديد من القنوات، منها القناة الأميركية والقناة الروسية، ولكن الأهم من هذا استخدامها للقنوات السرية على المستوى الإقليمي، من خلال أجهزة استخباراتها، واتصال قادتها السياسيين بدول عربية، في مقدمتها مصر السيسي ودول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات.
وفي نفس الوقت سعت تل أبيب وتسعى إلى تحجيم الدور التركي المتصاعد على المستويين الإقليمي والدولي، ذلك الدور الذي أصبح يزاحم على قيادة العالم الإسلامي بخطوات ثابتة، واثقة، وبحنكة سياسية لا تخفى على أحد.
من خلال الاتصالات السرية (التي أصبح جزءٌ بسيط منها علنيا) التي تجريها قيادات سياسية إسرائيلية مع دول خليجية، استطاعت تل أبيب أن تحقق هدفا مرحليا، في الإبقاء على نظام الأسد، بمدد من واشنطن، ثم ليتضح للجميع أن وقوف دول الخليج، خاصة السعودية والإمارات، إلى جانب الثورة السورية لم يكن بهدف دعمها، وإنما لإفشالها وإحداث اختراقات فيها، تساهم في إضعافها وتراجعها، وربما إسقاطها نهائيا. إذ فجأة يتضح أن دولة الإمارات- على سبيل المثال- لعبت دور العميل المزدوج، حين أشبعت الشعب السوري الثائر كلاما معسولا ووعودا خادعة، وأشبعت بشار الأسد سبابا وذمّا، ودعت إلى إسقاطه، لكنها كانت في الحقيقة تتآمر ضد الثورة، وتمدّ نظام بشار الأسد بكل وسائل الحياة والبقاء من أسلحة وعتاد وأموال.
وكنتُ دائما أتساءل: كيف يمكن للسعودية، التي أفشلت ملياراتُها وأسلحتُها ومواقفُها السياسية ثورة الشعب المصري، واحتضنت في قصورها سفاح تونس الهارب زيد العابدين بن علي، أن تساعد في دعم ثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد؟ وكيف يمكن للإمارات التي لم تترك وسيلة قذرة إلا واستخدمتها لإفشال ثورة الشعب المصري ضد نظام مبارك، أن تدعم الشعب الليبي في ثورته ضد نظام معمر القذافي؟
كان المشهد في بداياته مرتبكا، وقد عمل الإعلام (بما فيه الإعلام الإسرائيلي) على تمويه المشهد، وإيهام الرأي العام في الشارع العربي، بأن من حق الشعوب أن تختار حكامها، وأن تثور ضد الظلم والقمع والفساد، دون أن يدرك الرأي العام هذا أن ذلك الإعلام يمثل أكثر الدول على وجه الأرض فسادا وظلما وقمعا. وقد اتضح المشهد الآن للجميع، ولم يعد في الإمكان إخفاء شيء، خاصة بعد تجربة دامية استمرت سبع سنوات، ولمّا تنته بعدُ!
لقد عملت تل أبيب، وبمساعدة مباشرة من واشنطن، على صعيدين؛ الأول: تثبيت نظام الأسد، والثاني إضعاف أو عرقلة الصعود الصاروخي للسياسة التركية. فما الذي يقلق تل أبيب من زوال نظام آل السد؟ وما الذي يرعبها من صعود تركيا؟
يقيني الذي لا يتزعزع، والذي ثبتت صحته تاريخيا وواقعيا، أن السياسات الإسرائيلية، (ومعها الغربية – الأميركية والروسية)، كلها تأتي من منطلقات دينية توراتية- إنجيلية شديدة الوضوح. ودون الحاجة إلى تفصيل الأسس العقائدية التوراتية التي قامت عليها الدولة العبرية، تلك الأسس التي تقرر في نهاية المطاف مضامين سياسات هذه الدولة وبوصلتها (حتى لو أوهمت الرأي العام بأنها دولة علمانية)، فإن المسألة كلها تتلخص في مقولة يؤمن بها القوم، من أن “الشر كله يأتي من الشمال”!!
جاء في سفر إرميا: (13) وقالَ ليَ الرّبُّ ثانيةً: «ماذا ترى الآنَ؟» فقُلتُ: «أرى وِعاءً يَغلي على موقدٍ يَتَّجِهُ إلى الشِّمالِ». (14) فقالَ: «مِنَ الشِّمالِ‌ يَهُبُّ الشَّرُّ على جميعِ سُكَّانِ هذِهِ الأرضِ. (15) سأدعو جميعَ ممالِكِ الشِّمالِ، فيأتونَ وَينصُبُ كُلُّ مَلِكٍ مِنْ مُلوكِها عَرشَهُ عِندَ مَدخَلِ أبوابِ أُورُشليمَ ومُدُنِ يَهوذا. (16) وأتْلو حُكْمي على شعبـي جزاءَ جميعِ الشُّرورِ الّتي فعَلوها‌، لأنَّهُم ترَكوني وأحرَقوا البَخورَ على مذبَحِ آلهَةٍ أخرى وسجَدوا لِما صَنَعَتْهُ أيديهِم. (الإصحاح:1)
وفي تفسيرات الحاخامات لهذه الإصحاحات التوراتية فإن الخطر الذي يتهدد كيان الدولة العبرية وجودا ومستقبلا سيأتي من شمال البلاد، وليس في الشمال سوى سوريا، التي ثار شعبها ضد نظامها الفاشي، الذي عمل طوال أكثر من أربعة عقود على حماية الحدود. فهل يمكن لتل أبيب أن تسمح لنبوءة إرميا أن تتحقق؟! إن سوريا الشام، وأرض الغوطة تشكل بالنسبة لتل أبيب كابوسا مرعبا. من أجل ذلك عملت طوال الفترة الماضية ضد الوجود الإيراني في سوريا، على اعتبار أن إيران تسعى إلى إنشاء قواعد عسكرية قريبة من الحدود، تهدد الكيان الإسرائيلي، وفي ذات الوقت عملت على إفشال المشروع النووي الإيراني، وسعت إلى دفع واشنطن لإلغاء الاتفاقية حول الملف النووي الإيراني، ليس لأنها على قناعة مطلقة بأن الخطر الحقيقي الذي سيأتي من الشمال ستكون إيران هي مصدره، بل لأن تل أبيب لا تريد أية قوة ذات شأن تتمركز على الحدود الشمالية، رغم اقتناعي الشخصي بأن إيران في الحقيقة تشكل صمام أمان لهذه الحدود، ولا تشكل أي خطر حقيقي، كما توهِم تل أبيب الرأي العام الدولي. ولم تقتصر جهود تل أبيب على تحجيم الدور الإيراني في سوريا، بل عملت في الجانب الآخر مع دول الخليج على اختراق قوى الثورة السورية، التي تحولت من ثورة شعبية سلمية إلى ثورة مسلحة تلعب في ميدانها قوى مختلفة، أغلبها ذات طابع إسلامي، منها ما هو سوري محلي، ومنها ما هو إقليمي ودولي، ليتبين في مرحلة متأخرة أن قسما من هذه القوى يعمل لصالح أجندات مشبوهة لا علاقة لها بمصلحة الشعب السوري ومستقبله. وربما ستكشف الأيام القريبة القادمة تفاصيل أكثر عن الدور القذر الذي لعبته السعودية والإمارات والبحرين ومصر ودول عربية أخرى (مثل العراق والجزائر والمغرب) على الساحة السورية.
وفي ذات الوقت لعبت تل أبيب على الخط التركي، من خلال تصعيد العداء ضد تركيا، وضد الرئيس أردوغان شخصيا، والذي يشكل شخصيا كابوسا لأنظمة الخليج بشكل خاص، وكذلك لواشنطن ولتل أبيب.
ولم تكن بداية هذا العداء لتركيا من خلال دعم محاولة الانقلاب الفاشلة في منتصف تموز 2016، بل بدأت قبل ذلك بسنوات. وتبع ذلك خطة ضرب الاقتصاد التركي، وشن حملات إعلامية عربية وإسرائيلية وغربية لتشويه صورة النظام التركي، وصورة الرئيس أردوغان، ومحاولة إثارة الرأي العام التركي ضده. ويبدو لي أن اختيار تركيا موقعا لتنفيذ جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي – رحمه الله تعالى- كان جزءا من هذه الخطة، بهدف إحراج تركيا، حيث كانت الخطة، بحسب التفاصيل المعلنة حتى الآن، تقضي بقتل خاشقجي وإخفاء جثته عن العيان، ومن ثم الإعلان عن احتفاء آثاره “بعد مغادرته مبنى السفارة السعودية في اسطنبول”، لتكون تركيا هي المسؤولة عن اختفائه، ما يسبب لها حرجا شديدا، ربما يتحول إلى أزمة دبلوماسية مع السعودية، تستثمرها تل أبيب وواشنطن لتوجيه ضربة أخرى للرئيس أردوغان وحكومته. لكن السحر انقلب على الساحر، كما رأينا جميعا.
إن صعود شأن تركيا على الساحة الإقليمية والدولية يشكل مصدر قلق شديد يصل حدّ الرعب، ليس للدول العربية فحسب، وإنما لتل أبيب وواشنطن ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا. ذلك أن هذا الصعود يعني أن تركيا قد تصبح في مرحلة ما قائدة للعالم الإسلامي بلا منازع، وهذا بالضرورة سيكون على حساب الدول العربية، وخاصة السعودية، التي اعتبرت نفسها حتى الآن قائدة للعالم الإسلامي، وهو ما لا تريده كل تلك الدول مجتمعة.
وإن أكثر ما تخشاه تل أبيب وواشنطن والاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أنظمة العار العربية، أن يتمكن أردوغان من إيصال بلاده دون أزمات وقلاقل ومعوقات، إلى العام 2023، وهو العام الذي ستُفلت فيه الدولة التركية من براثن اتفاقية لوزان الثانية، التي وقعت عام 1923، والتي مدّتها مائة سنة، وحرمت تركيا خلالها من الكثير من الامتيازات السياسية والاقتصادية والجغرافية والتاريخية. ذلك أنه إذا تمكنت تركيا من تحقيق هذا الهدف، فإنه عندها لن تستطيع قوة على الأرض، مها بلغت، أن تقف في وجه التغيير الحقيقي والجارف الذي سيجتاح العالم الإسلامي، والذي ربما يشهد تتابع سقوط أنظمة الخليج واحدا تلو الآخر، تلك الأنظمة التي هي بمثابة دعائم وقواعد عسكرية للهيمنة الغربية – الإسرائيلية في بلاد الإسلام، وصمام الأمان الاقتصادي لأنظمة قمعية مثل نظام السيسي في مصر ودول شمال أفريقيا والجزائر والسودان والعراق وغيرها.
لقد استطاع الرئيس أردوغان- بقدر من الله تعالى- أن يفلت من كل الخطط والمؤامرات بحنكة وقراءة ذكية للأحداث، وتمكن في ذات الوقت من تحييد موسكو من دائرة العداء، ولو بصورة مؤقتة، من خلال التقارب الجاري حاليا بين الدولتين، والتنسيق في بعض المواقف فيما يتعلق بالموضوع السوري، بما في ذلك التعاون في ملف المفاوضات بين نظام الأسد وبين أقطاب المعارضة. فتركيا تدرك تماما أن روسيا ما دخلت سوريا إلا لتبقى هناك كقوة محتلة، من خلال “حرب مقدسة” أعلنتها الكنيسة الروسية، كيما تجلس على الحدود التركية من داخل الأرض السورية، استعدادا لمرحلة قادمة ستلعب فيه موسكو واحدا من أقذر الأدوار التي عرفها تاريخ المنطقة، وسيكون هذا الدور بطعم “الكتاب المقدس”!
وظنّي أن تركيا ستتمكن من تجاوز الأزمات والخطط والمؤامرات التي تحاك ضدها، وصولا إلى العام 2023، وستشهد المنطقة عندها تحولات كبرى، وستدخل في مرحلة ما بعد الهيمنة الغربية الإسرائيلية، لتبدأ مرحلة استعادة الأمة عافيتها، وعندها سنفهم – سويا- المعنى الحقيقي لنبوءات سفر إرميا، وماذا سيكون موقف واشنطن وتل أبيب وموسكو والاتحاد الأوروبي، ودول الخليج البترولية، التي شكلت حتى الآن دعامة أساسية في استمرار الهيمنة الغربية – الإسرائيلية، وصمام أمان اقتصادي لأنظمة قمعية فاسدة مثل نظام السيسي في مصر، والأنظمة الورقية في شمال أفريقيا، وفي السودان والعراق وغيرها؟ وما هو شكل الموقف الروسي؟ وأين ستكون فلسطين حينئذ من هذا المشهد كله؟ علما أن فلسطين هي في الحقيقة أول الأمر ومنتهاه!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى