أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الابتلاء والفتن وحيرة الحليم قبل التمكين (3-3)

حامد اغبارية
“ولكنكم تستعجلون…”
لما اشتد أذى المشركين وتعذيبهم للمسلمين المستضعفين في مكة المكرّمة، شكى خباب ابن الأرتّ- رضي الله عنه- حال المسلمين الأوائل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعل النبي عليه الصلاة والسلام يجد وسيلة للخلاص من هذا العذاب. ويروي خباب فيقول: (شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه و سلم ـ وهو متوسد بُردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا ؟، فقال ـ صلى الله عليه وسلم: كان الرجل فيمن قبلكم، يُحفر له في الأرض فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين وما يصدُّه ذلك عن دينه، ويُمشّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون). (رواه البخاري).
ويتكرر المشهد في زماننا، وفيه من مثل خباب رضي الله ملايين المسلمين، من الذين تعرضوا للأذى والتعذيب والتشريد والحرق والقتل والاغتصاب، ما لا يخطر على قلب شيطان، فتجدنا نضرع إلى الله تعالى أن يخلص الأمة مما هي فيه، وأن يعجل بخلاصها ونصرتها. لكن الجواب لا يتغير: “ولكنكم تستعجلون”.. لقد أوذي من قبلكم من المسلمين بأكثر من هذا، فصبروا وظلت قلوبهم معلقة بربهم، حتى جاءهم نصر الله تعالى في اللحظة التي قضى الله تعالى أن يقع فيها أمره سبحانه، فكان حالهم عند النصر كأنهم ما أوذوا وما عانوْا وما شقوْا، فرحين بنصر الله تعالى.
في زماننا يكثر الحديث عن مبشرات رسول الله صلى الله عليه وسلم عن انتصار الإسلام في آخر الزمان، رغم بطش وجبروت وكثرة أهل الباطل. ويتكرر السؤال: متى نصر الله؟ أين الطائفة المنصورة؟ ومن هي هذه الطائفة؟ وهل نحن في زمانها؟ هل نحن في زمن الفتن التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي تسبق ظهور المهدي عليه السلام ونزول المسيح وخروج الدجال؟ ألسنا في أشد بلاء؟ ألسنا نعاني من الفتن ما لا يطاق؟ وإذا كان النبي عليه السلام قد ذكر أن الملحمة الكبرى ستنطلق شرارتها من مكان يسمى الغوطة، فلماذا لم تقع تلك الملحمة وقد تكرر اسم الغوطة آلاف المرات في السنوات الأخيرة، أثناء الثورة السورية؟ لقد كانت قاب قوسين أو أدنى، فما الذي حدث؟
إن ما حدث هو أننا حمّلنا الأمور ما لا تحتمل، وأسقطنا أحاديث المبشرات على واقعنا، كما فعل الذين من قبلنا، فأُصِبنا بخيبة أمل كبيرة، دون أن نستوعب أن التاريخ شهد مواقف مشابهة فيما مضى من تاريخ الأمة. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الموحى إليه صلى الله عليه وسلم، وهو الذي حدّثنا عن آخر الزمان وظهور الدجال والمهدي ونزول ابن مريم عليه السلام وسائر أشراط الساعة، ومع ذلك لم يحدّد زمانا معينا لحدوث هذا. بل إنه عليه الصلاة والسلام كان له موقف مع ابن صياد، يُستفاد منه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم إلا ما علّمه الله تعالى.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر انطلق في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبل ابن صياد (وكان يهوديا) حتى وجدوه يلعب مع الغلمان عند أطم بني مغالة، وقد قارب يومئذ ابن صياد يحتلم، فلم يشعر بشيء حتى ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ظهره بيده، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ فنظر إليه ابن صياد، فقال: أشهد أنك رسول الأميين. ثم قال ابن صياد للنبي صلى الله عليه وسلم: أتشهد أني رسول الله؟ قال له النبي صلى الله عليه وسلم: آمنت بالله ورسله. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا ترى؟ قال ابن صياد: يأتيني صادق وكاذب. قال النبي صلى الله عليه وسلم خلط عليك الأمر. ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني قد خبأت لك خبيئا. قال ابن صياد: هو الدُّخ. قال النبي صلى الله عليه وسلم: اخسأ فلن تعدو قدرك. قال عمر: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن يكُنْهُ (أي الدجال) فلن تسلط عليه، وإن لم يكنه فلا خير لك في قتله. أي إن يكن هو الدجال فلن تسلط عليه حتى تكتمل فتنته. فالنبي صلى الله عليه وسلم شك أن ابن صياد ربما يكون هو الدجال. وقد قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر (طويل): “إِنْ يَخْرُجْ وَأَنَا فِيكُمْ فَأَنَا حَجِيجُهُ دُونَكُمْ”. ومعنى هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلم متى زمن الدجال إلى درجة أنه توقع أن يخرج والنبي عليه السلام حي يرزق.
وفي زمن اجتياح المغول لبلاد المسلمين، وقد فعلوا بالمسلمين الفعائل، كثر الحديث عن خروج يأجوج ومأجوج، حتى أن كثيرين أكدوا خروجهم، وأن المغول هم أولئك القوم الذين يخرجون في آخر الزمان. وتكررت التساؤلات التي نرددها نحن اليوم في أيام عمر بن عبد العزيز، لما ساد العدل بعد شدةٍ وظلمٍ، فظن الناس، ومنهم علماء معروفون أن ابن عبد العزيز هو الخليفة المهدي الذي ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يملأ الأرض عدلا وقسطا بعد أن ملئت ظلما وجورا. وتشابهت الأسئلة كذلك في أيام الصليبيين، وفي أيام صلاح الدين الأيوبي رضي الله عنه، ولا تزال المشاهد تتكرر، وكذلك الأسئلة، حتى بدا أن الناس قد تعبوا وأصابهم اليأس والقنوط والإحباط، مع إيمانهم بصدق مبشرات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم شكّهم للحظة أن ما قاله واقع لا محالة، لكن شدة البلاء الذي هم فيه جعلتهم يستعجلون النصر الذي وُعدوا به، ويستحثون الزمن لظهور المهدي، ويتوقعون نزول ابن مريم عليه السلام في كل لحظة، وهم يرون عيانا (رايات سوداء) ترتفع في سوريا والعراق، ويتوقعون أن يستيقظوا على صيحة الدجال في أية لحظة، حتى لم يبق سوى خروج يأجوج ومأجوج وخروج الشمس من مغربها. لقد أسقطوا المبشرات على واقعهم، فلمّا لم يجدوا من هذا شيئا حزنوا، وارتبكوا، وتساءلوا، وأصابتهم الحيرة، واختلطت عليهم الأمور، وكان حريًّا بنا تركُ هذا كله وتوطين أنفسنا لمواجهة ما نحن فيه من بلاء، وأن نعدّ أنفسنا لنكون حيث يجب أن نكون.
ولا بد هنا من التنبيه إلى جملة من الأمور المتعلقة بالمبشرات، لعلها تزيل اللبس، وتساعد في فهم واقعنا اليوم، وعلاقته بالأحداث التي ستقع فيما سيأتي من أزمان، نحن لا نعلمُها، اللهُ يعلمها.
أولا: لا ينبغي للمسلم أن يجعل اهتمامه في مسألة هل نحن في زمن ظهور المهدي عليه السلام؟ وإنما يجعل اهتمامه في إعداد نفسه للتعامل مع كل حدث كما يليق بالمسلم.
ثانيا: إن الأحداث التي تقع في حُقب مختلفة تتشابه، وهذا ما يوقع المرء في الحيرة والارتباك، ولذلك على المسلم أن يمحص الأمور، ويجتهد في فهم المبشرات بعمق حتى يعلم أين يقف، فلا يستعجل الأحداث، حتى إذا لم تقع أحبط وأصيب باليأس والقنوط.
ثالثا: من المؤكد أن ما تعاني منه الأمة في زماننا هو بلاء عظيم وشدة مظلمة، لكنها لا تقاس إذا ما قورنت بما حدثنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتن العظيمة التي ستكون.
رابعا: بخصوص الملحمة الكبرى التي ارتبط اسمها في الغوطة التي قرب مدينة يقال لها دمشق فإنها تقع بين المسلمين وبين الروم (أهل الغرب على الأغلب). وما شهدته الغوطة فيما مضى من أيام من أحداث عظيمة لم تكن بين المسلمين وبين الروم. فهي لم تقع بعدُ، ولا يعلم أحد متى تكون ولا كيف سيكون شكلها.
خامسا: يبدو لي أننا لسنا في الزمن الذي يسبق ظهور المهدي عليه السلام. فتلك مرحلة يسبقها وقوع فتن لم يقع منها شيء بعدُ. ويستطيع من شاء أن يراجع صحيح الأحاديث حول تلك الفتن، لأنه ليس هنا المجال لذكرها، لأن الكلام فيها يطول.
سادسا: بدلا من أن ينشغل المسلم بتحليل الأحداث، وإسقاطها على أحاديث المبشرات وآخر الزمان، ينبغي عليه أن يهتم بدينه وثباته على الحق، مهما وقع من أحداث قاسية وبلاء عظيم، وأن يعد نفسه للمواقف الفاصلة، إذ ليس المطلوب منه أن يقرر أمورا هي في علم الله تعالى، لكن المطلوب منه أن يتمسك بالحق، وأن يدور معه حيث دار، حتى لو اجتمعت الدنيا كلها على الباطل، حتى يبدو وكأن الأمور قد انتهت وحسمت لصالح ذلك الباطل.
سابعا: إن “انتصار” أو “علو” الباطل في مرحلة ما، أو في معركة ما لا يعني إطلاقا أنك لم تكن على الحق يوم نصرتَ الشعوب التي تنشد الحرية في بلاد العرب والمسلمين، بل هذا أحرى أن يدفعك دفعا إلى نصرة تلك الشعوب في قضاياها وفي مطالبها وفي أهدافها حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.
ثامنا: لقد نجح معسكر الباطل في أن يحرف بوصلة الأمة، مستعينا بعملائه من الأنظمة الجبرية التي نصّبها على عروش الأقطار العربية، بعد أن مزقوا جسد الأمة شر ممزق، بإسقاط الخلافة، وحولوها إلى خرائب وعزب وزرائب ترتع فيها أجهزة المخابرات، ليس بدءا من أللنبي، وليس انتهاء برؤوس الموساد والسي آي إيه، وسائر أجهزة مخابرات المحفل الماسوني. نجحوا في تشكيل جيوش عربية أوهمت الشعوب أنها تدافع عنها، وأن بوصلتها فلسطين، فإذا هي أكذوبة دموية بطشت بالشعوب التي سلمتها زمام أمرها، أو استسلمت لأجندتها، لتستيقظ الأمة ذات صباح على عدو جديد، ليس بعده للأمة من عدوّ، لتتجه البوصلة نحو إيران، بعد أن كانت الأمة تعتقد – واهمة- أنها متجهة إلى المشروع الصهيوني. وأصبحت حظيرة آل سعود، التي أشبعتنا كذبا ودجلا طوال سبعين سنة، تحشد الجيوش والأموال لمحاربة “المشروع الصفوي”، وتحشد الإعلام لتبييض صفحة المشروع الصهيوني. لكن هذا كلّه لن يفيد أعداء الأمة ولا الخونة من أبنائها. فهو أيضا يقع ضمن مرحلة الابتلاء والاستدراج. وعلى المسلم الفطن أن يدرك أن هذا كله إنما هو فتنة وابتلاء له على وجه الخصوص وللأمة على وجه العموم، وأن البوصلة لها اتجاه واحد، هز فلسطين وبلاد الشام. فكل حدث يقع في بلاد العرب والمسلمين إنما يدور ويدور، ويشغل الناس لفترة من الزمن، ثم يعود بالأمة إلى حيث يجب أن تكون وجهتها: إلى بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
تاسعا: اعلمْ – يرحمُك الله- أن نصر هذه الأمة آت لا محالة. ولكنَّ هذا النصر لا بد له من رجال. فهل تظنّ أن تحليل الأحداث وإسقاطها على المبشرات، وانتظار ظهور الآيات هو الذي يصنع الرجال الذين سيكونون جزءا من ذلك النصر القادم؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى