أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

الداخل الفلسطيني والعبودية  المختارة

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

لا توجد أمة على هذه الأرض استمرأت العبودية إلا وفقدت هويتها وذاتها وانتهى أمرها بعد حين وذابت فيمن تبعته وتغشته روحا ومعنى ومقابل ذلك ما من أمة نافحت عن ذاتها ورفضت العبودية أي كان نوعها ألا وكُتبت لها الحياة وشقت عباب واقعها المرُّ تمخر فيه ببطيء تارة وبسرعة تارة أخرى لا يثنيها عن ذلك صولة محتل أو فلسفات عبيدها  ممن شكلوا طابورا خامسا يسعى جاهدا بكل ما أوتي من حزم وقوة أن يحول أبناء شعبه ألى عبيد لكنَّ عقل أمته الجمعي يأبى ذلك ويرفضه فتعيش عدد سنين او قل عدد قرون وهي تناطح المحتل أو\و تناطح عملائه ألا أنها تخرج من تيهها وما قصة دول امريكا اللاتينية عنا ببعيد.

أكتب هذه المقدمة ونحن في الداخل الفلسطيني ننزف يوميا بسبب تردي الوضعين الاخلاقي والاجتماعي وقد بات واضحا أننا كمجتمع قد دخلنا جحر الضب الذي حذرنا منه الصادق المصدوق ويمكننا توصيف ما نحن فيه أننا قبِلنا العبودية المختارة وعندما أقول قبلنا فأنني لا اعمم ولكن في الإشارات مندوحة عن القول كما قالت العرب قديما وداخلنا الفلسطيني اليوم مهترئ ومهلهل عرّته انتخابات محلية وجردته جرائم القتل اليومية وفضحت عِواره الفضائح الأخلاقية وانتشار الفساد والرذيلة حتى كدنا نقارب معضلة  ولا ” ابا الحسن لها ” .وحالنا في الداخل الفلسطيني كحال كثير من الامم والشعوب التي اصطلت بنار الاستعمار فتلهت بشهواتها وما يرميه المستعمِرُ عليها من فضلات شهواته ورغباته وأفكاره فتحولنا في أقل من نصف قرن ألى شعب مُستَهلِك لا يقوى على شيء مهيض الجناح يمكن الإجهاز عليه في أي وقت وحين.

بين القابلية للاستعمار والقابلية للإستحمار..

في تاريخنا المعاصر ابتليت الامتين العربية والاسلامية بأنواع من الاستعمار ونحن في المشرق وغرب افريقيا  ابتلينا باحتلال مباشر من الفرنسيين والإنجليز والطليان، وسجلَّ المفكر الجزائري ملاحظاته القيمة حول جدل العلاقات القائم بين الاحتلال الفرنسي والشعوب العربية والبربرية المسلمة في شمال افريقيا وتنبه الى قابلية الاستعمار لدى تلكم الشعوب التي تسربلت بلباس الجهل والانبهار ويمكن تلخيص نظريته في قابلية الاستعمار بقبول المُسْتَعَمَرْ أنموذج المُستعمِر الذي يفرضه عليه  في كافة شؤون الحياة: في الفكر والحركة والاقتصاد والمعاملات والمعاش واللباس والتفكير والطعام وباختصار في كل شؤون حركة الحياة، وهو بدوره يتقبل هذا الإنزال القسري بل ويدافع عنه بعد أن يتلبسه كما يلبس أحدنا الثوب ويستحسنه وبذلك تكون قابلية الاستعمار في جوهرها رضوخ عميق للمستعمِرْ وعلته الاساس اقتناع المُستَعمَرْ بتفوق المستعمِرْ وهو ما يؤدي الى الانبهار، ومن ثم الى الدونية والاستخذاء- والإستخذاء ان يُضرَبَ الرجل حدَّ الاستغاثة- وتحقيق هذه القابلية في معاشه اليومي وقد جاء من بعده فيلسوف الثورة الإيرانية شريعتي بمصطلح أشدٌّ  مشتق من حالة القابلية تلك ، ذلكم هو الاستحمار فقد سجل مبدعا في كتابه “النباهة والاستحمار” جملة من الملاحظات التي تترجم هذه القابلية لتستحيل في حيواتنا اليومية الى نوع من الاستحمار مفلسفا هذا الاستحمار بأنه على نوعين أو قل منزلتين “الاستحمار نوعان؛ استحمار مباشر وغير مباشر. المباشر منه عبارة عن تحريك الأذهان إلى الجهل والغفلة، أو سوق الأذهان إلى الضلال. أما غير المباشر منه فهو عبارة عن إلهاء الأذهان بالحقوق الجزئية البسيطة اللا فورية لتنشغل عن المطالبة أو التفكير بالحقوق الأساسية والحياتية الكبيرة والفورية”. ويبسط الامر أشدَّ التبسيط ليدركه كل نابه فيقول” .. ماذا عمل بنا الغرب نحن المسلمين، نحن المشرقيين .لقد احتقر ديننا وأدبنا وفكرنا، ماضينا، تاريخنا وأصالتنا ولقد استصغر كل شيء لنا إلى حدِّ أخذنَا معه نهزأ بأنفسنا، أما الغربيون فقد فضلوا أنفسهم وأعزوها ورفعوها ورحنا نقلدهم في الأزياء  والأطوار والحركات والكلام والمناسبات وبلغ بنا الأمر لأنّ المثقفين عندنا صاروا يفخرون بأنهم نسَّوا لغتهم.” فهل بعد هذا التفصيل من تفصيل يقارب واقعنا المعاش نحن هنا في الداخل الفلسطيني وفي عموم الوطن العربي خاصة تلكم المسماة بالنخب ولربما يشهد المراقب تلكم الردة الحاصلة عند عديد النساء من خلع للجلباب وارتداء أزياء مختلفة وهو ما قد يساعدنا في فهم ظاهرة الاستحمار والعبودية المختارة التي تعيشها هذه النخب ومن يقاربها ويخذو حذوها. ومن قبلهم حدثنا الصادق المصدوقﷺ عن خبر عبيد المال والدرهم والخميصة والخميلة” كنايات في لغتنا عن عبودية الموضة فقال كما في صحيح البخاري (في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن لم يؤذن له وإن شفع لم يشفع له (.

وبنظرة بسيطة الى واقعنا المعاش في الداخل الفلسطيني لو أنزلنا  هذا الحديث الشريف الكريم وهذه المقالة من هذا الفيلسوف على واقع العرب عموما وواقعنا الذي نحياه  كم سينطبق علينا؟.

الوعي أولا ..

الوعي هو شرط الخروج من دوائر الاستعمار وقابلياته ومن دوائر العبودية الاختيارية التي يقع في حبالها الكثير ومنهم نحن ابناء الداخل الفلسطيني سواء بعلمنا او بغيره أذ لا يزال الوعي بمكوناته الدينية والثقافية  والسياسية أساس من أسس مواجهة هذه القابلية وهذا الاستعباد ، وهذه الميزة ليست حِكرا على العرب والمسلمين بل هي أساس في كل شعوب الار الساعية لخلع العبودية الاستعمارية وعبودية النخب المتماثلة مع الاستعمار ولقد رأينا في المغرب العربي وفلسطين وامريكا اللاتينية كيف توحد رجل الدين الحر مع رجل السياسة الحر ليشكلا معا رافعة تخرج مجتمعاتهم من ربقة الاستحمار والاستعباد فكل منا يحتاج الى هذا الوعي وهو أمر جوهري في مسيرة الشعوب ومن قبل الأفراد،  فحاجتنا ابتداء إلى الوعي السياسي بالمرحلة الدقيقة التي يمر بها حاضرنا العربي والفلسطيني وهي مرحلة دقيقة وحساسة برسم الواقع الذي نعيش فقد عادت ألينا الدول الكبرى تحط رحالها العسكرية في بلدنا ولا تنوي الرحيل. عادت ومعها فكارها وسياساتها وأجنداتها وبينما يستون على عود واحد طمعا بمقدراتنا يتغول المستبدون العرب في قتل شعوبهم ونفيهم وإبادتهم بناء على نظرية مالتوس في سياقاتها العنصرية بأنَّ الحياة للأقوى والأفضل فيتخففون من البؤساء الرافضين لبقائهم. وتزداد حساسية هذه المرحلة في ظل الفراغ الذي خلفته احداث الربيع العربي ونظرية الفراغ على قدر ما هي مخيفة على قدر ما تدغدغ آمال المستضعفين بتحقيق وعدهم وأقدارهم لذلك تملك  هذه المرحلة بعدا مصيريا إن في السياق التاريخي أو في السياق المجتمعي ولأن المُستَعمر العربي ممثلا بالطاغوت أي كان منصبه ونوع عمله وبالاحتلالات الرابضة على منطقتنا وفي مقدمتها الاحتلال الاسرائيلي فأنهم سيُفَعِلونَ مفاعيل غيهم وطوابير عملائهم ليعيثوا في الارض الفساد خاصة بعد أن يستوي عود مجموعات من المجتمعات بأنْ تُحققَ وعي هذه اللحظة وتتحمل نتائج مراغماتهم للباطل بعدئذ ملكوا وعيا كاملا لهذه اللحظة بعد أنْ استشعروا مسؤولياتهم التاريخية اتجاهها واتجاه شعوبهم فهم رائد الركب والطلائعي والمتقدم وهم من يحولون بين مخططات الاستعمار وأحذيته المحلية الصنع والاستلاب الحضاري والثقافي لشعوبهم (الاستلاب الحضاري: الاستلاب هو الاختلاس أي  اختلاس الفرد الى حضن المدنية الغربية المنافية لقيم واخلاق ثقافته ومن ثم انصهاره فيها وهو يزعم أنه ما زال عروبيا مشرقيا ومن ثم فالاستلاب الحضاري هو: انصهار الفرد أو المجموعة في الثقافة الغربية والابتعاد عن ثقافتهم الأصلية).ومن ملكا هاتان الاداتان تتكون عنده كما يقول شريعتي ملَكَةُ النباهة النفسية فردا، والمجتمعية فردا وجماعة وبهما يتكون مجتمع واع يرفع عن نفسه أغلال وأصفاد الاستعمار.

التحرر والانعتاق..

وهذا لا يتحقق في حالتنا نحن المسلمين إلا بشرطين، شرط الرقي الروحي التي أسماها أبو يعرب المرزوقي: الروحانية الإستخلافية المحققة لوجودها الأزلي الاستخلافي المتحقق بمعرفة حقيقة العلاقة بين الفرد المسلم وخالقه القائمة على ثلاثة أسس : التوحيد والعبادة والأخلاق، والتي تبني الفرد المسلم وغير المسلم ممن قبل الَّسوقَ الحضاري – والسَّوق عند العرب المهر فكأن من قبل من غير المسلمين أن يكون بين ظهرانيهم متقدما وبارزا وقائدا في ركب الحياة يمهر نفسه بأن صار همه همهم وما لهم له وما عليهم عليه وبذلك يخرج من ربقة ذاته ليكون جزء من كل-  وتتحقق شخصيتنا الرافضة للاستعمار بتحديد معالم ذاتنا بأنها حرة لا عبدة لمال ولا لشهوة ولا لسلطان وعبوديتها فقط لخالقها وبذلك تملك حريتها المطلقة التي تتعالى على الاستعمار والاستحمار وقابلياته المختلفة “وأنتم الأعلون..” وتملك ذوقا شخصيا مؤسسا على منظومة من القيم والأخلاق والمبادئ والمفاهيم والتصورات فلا تنظر الى الموضة ولأزياء وألوان الطعام وبرامجه الفضائية ودعائياته المختلفة ولا تلج المقاهي والمنتديات الليلية وما الى ذلك مما ساقته إلينا مفاعيل الأسرلة محليا والكوكلة” من نسبة لمشروب الكوكاكولا رمزا للسيطرة الامريكية شبه المطلقة”عالميا، وتملك حسا شخصيا يجردها عن التماثل السلبي مع الحضارة الوافدة سواء كانت مدنيتها اسرائيلية او غربية او امريكية فهي تتحسس الناس كافة آلامهم ومآسيهم وتهش مساعدة كل انسان كونه إنسانا وترفع من مقامه العالي المكرم” ولقد كرمنا بني آدم” ويملك ذاتا فاعلة تتواطأ مع الخير أينما كان وترفض الشر أي كان مصدره .. وأما الشرط الثاني فهو شرط الاستخلاف العملي المتمثل بالشهود الحضاري القائم على اربعة ركائز: اكتشاف الذات  الفردية والجمعية وتحقيقها ووحدة الذات الجمعية وسيادتها .وهاذان الشرطان لازبان للخلاص من الاستعمار والانعتاق من اساره الفكرية والخلقية والسلوكية فضلا عن الاجتماعية والسياسية ، سواء كان محليا او دخيلا وحينما تشرع هذه الشروط بالتحقق يباشر المستَعمِرُ بالضرب بكل ما أوتي من قوة فمؤسساته المراقبة للمجتمع تتحسس لحظات اقتراب الخلاص وتُفَّعِلُ مفاعيلها للحيلولة دون تحقق تحرره أو على الأقل تأخيره وذلك تحسبا من تحققها لأن مجرد استوائها في أمة يعني انتهاء هذا الاستعمار وانتقاله من مستَعمِرِ إلى غير ذلك قطعا.

إنَّ عملية الانتقال هذه لا تتم الا من خلال جماعة تقبل على نفسها أن تتقدم الركب وتمضي بالمجتمع قُدُما ترفض الاستكانة وتدفع ثمنا لهذا الرفض أذ ان فلسفة اللا. اللا الرافضة للخنوع والاستعباد وهذه اللا هي مؤشرها الصحيح على قوامة طريقها وسندها المتصل من لدن آدم عليه الصلاة والسلام يوم أن قال “لا” لتتحقق آدميته وتمضي بنا سنة الابتلاء نحو السيادة العملية على الارض أمرا وعدلا..

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى