أخبار رئيسيةأخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

ما زلت ابن عشرين

الشيخ كمال خطيب

في زمن الترهل والقعود، في زمن الإحباط والتشاؤم، في زمن الذل والهوان، ما أحوجنا إلى أن ننفث نسائم الأمل ونشحذ سِنان العزيمة، ونمتشق حسام التحدي، ونرمي بسهام العزة، ببعضها أو بها جميعًا نستطيع أن نتجاوز المرحلة الصعبة والعقبة الكؤود في طريقنا.
ليس بلغة القرآن الكريم ولا من كلام الذي لا ينطق عن الهوى صلوات ربي وسلامه عليه، ولكن من كلام الشعراء ومما فاضت به قرائحهم نقتبس. أولئك الذين قال في أشعارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكما”. وفي رواية : “وإن من الشعر لحكمة”.

ما هو غرضك

قال الشاعر:
كلٌ له غرض ليدركه والحر يجعل إدراك العُلا غرضا
إنهم الناس يتفاوتون في اهتماماتهم وما يشغلهم، وقد قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: “سبحان من أوجد في قلب كل امرئ ما يشغله”. فمنهم من تشغله عظائم الأشياء، ومنهم من تشغله سفاسفها. والإنسان يرتفع بنفسه أو ينزل بها إلى القاع بما يشغلها به، وقد قيل “المرء حيث يجعل نفسه، إن رفعها ارتفعت وإن قصّر بها اتّضعت”.
مثلما أن المولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه وأبواه يمجّسانه وأبواه ينصّرانه وأبواه من يحافظ على صفاء فطرته فينشأ على التوحيد الخالص والإسلام الصافي، وكذلك فإن كل امرئ يقرر أن يرفع نفسه أو أن يحط من قدرها. وكل إنسان يقرر الغرض والهدف الذي يريد الوصول إليه والحر والشهم وصاحب النفس الأبية هو من لا يرضى إلا العلا غرضًا، وإلا النجوم هدفًا وإلا السماء سقفًا. وكما قال الشاعر الآخر:

إذا كنت في أمر مروم فلا تقنع بما دون النجوم

يقول الدكتور عبد الوهاب عزام: “إن في النفوس ركونًا إلى اللذيذ والهيّن، ونفورًا عن المكروه والشاق. فارفع نفسك ما استطعت إلى النافع الشاق ورضّها وسُسها على المكروه الأحسن حتى تألف جلائل الأمور وتطمح إلى معاليها، وحتى تنفر عن كل دنية وتربأ عن كل صغيرة. علّمها التحليق فإنها ستكره الإسفاف، عرّفها العز فإنها ستنفر من الذل، وأذقها اللذات الروحية العظيمة فإنها ستحتقر اللذات الحسيّة الصغيرة”. إنها النفس التواقة والتي لا تنظر إلى غرض سام ونافع إلا وصلت إليه وتطلب المزيد، كما قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: “إن لي نفسًا تواقة تاقت إلى بنت عمي فاطمة فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فنلتها، وإن نفسي تتوق إلى الجنة أسأل الله أن يبلغني إياها”. فاجعل العُلا غرضك يا ابن الأحرار وامضِ إلى حيث مضى المهاجرون والأنصار.

شكرًا لأعدائي

قال الشاعر:
عِدايَ لهم فضل عليّ ومنّة فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
همُو بحثوا عن زلتي فاجتنبتها وهمُ نافسوني فاكتسبت المعاليا

إنه الذي يرى الفضل فيما هو عليه من علو الهمة وشموخ النفس وعزتها لأعدائه الذين كانوا دائمًا يبحثون عن زلاته حتى ينشروها بين الناس ويفضحوه ويعيّروه بها ليحطوا من مكانته بين الناس، فلمّا علم منهم ذلك فإنه كان حريصًا شديد الحرص حازمًا مع نفسه، فلم يطعها فيما كانت تدعوه إليه من الزلّات والشهوات، ففوّت عليهم الفرصة عليهم وبقي في عليائه.
ولأنهم هم الذين نافسوه ليتقدموا عليه، ولأن نفسه الأبية لا ترضى أن يتقدم عليه الأعداء، فإنه ظل يأخذ بالعزيمة والجد، ويحلق في سماء المجد بينما هم يلهثون خلفه يريدون اللحاق به ولكن أنّى لهم ذلك.
إنه الذي يرجع الفضل بما حازه وناله لأعدائه ومنافسيه ولسان حاله يتمنى بقائهم في هذا السلوك ليبقى هو من جانبه في سلوك اجتناب الزلّات واكتساب المعالي.
إن المطلوب من صاحب النفس الأبية والهمة العليّة أن يظل يتقدم وأن لا يسمح بأن يوقف سيره أحد، وأن يظلّ يحلق وأن لا يجره إلى الأسفل أحد. ومن أجمل ما قرأت ما كتبه الاستاذ خليل الصقر في كتابه جند المعالي في صفحة 69: “وإن أهم ما في الأمر أن تتقدم لا أن تتوقف، وأن تسير لا أن تتراجع ولا أن تتلهى عن هدفك بالوقوف، لأنك قد تجد في الطريق الكثير من الملهيات. فإذا أرادت نفسك اللهو سبقها الآخرون ومضوا بعيدًا، واللحاق بعدها ليس بالسهل على الدوام. وفي الطريق كذلك من المغريات ما يسيل لأجلها اللعاب وهي حفر عميقة تزينت الورود في أعلاها، وقد خبأت أسفل أزهارها شوكًا، فإن أغرتك الوردة وأسلمت لها نفسك أصابك الشوك وسقطت في أعماق الكمين، وفي غاية الصعوبة سيكون خروجك منها. فإياك إياك أن تغفل برهة عن هدفك المنشود، كل ما هو مطلوب منك أن تسير ولا يضرك شيء ما دامت الحكمة تقودك، ورقود الإيمان يحركك وقوة اليقين تثبتك. فلا تهززك الرياح العاتيات وإن كنت تمشي الهوينا فإنك السابق الأول، فالعجلة في غير موضعها تبعثر الجهود وترهق السائر، ولتكن ممن قال فيهم القائل:

من لي بمثل سيرك المدلّل تمشي الهوينا وتَجي في
الأول

ما زلت ابن العشرين

قال الشاعر:
سني بروحي لا بعدّ سنيني فلأسخَرَنّ غدًا من التسعين
عمري إلى الستين يركض مسرعًا والروح ثابتة على العشرين

إنها القوانين والقواعد الخاصة التي يعتمدها لأنفسهم أصحاب الهمم العالية والأرواح الوثابة، أولئك الذين قد نذروا أنفسهم وأعمارهم وأموالهم لخدمة الأهداف السامية التي يؤمنون بها. إنهم الذين يغرقون في بحر مبادئهم وعقائدهم، ليس غرق الموت وإنما غرق من لا يعود يرى حوله إلا فكرته ومبدئه ورسالته ودينه {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له بذلك أمرت وأنا أول المسلمين}.
إنهم أولئك الذين تكبر همتهم مع كبر سنهم، وليس الذين كلما كبرت أعمارهم صغرت وتراجعت همتهم وانحسر عطاؤهم، لذلك فإن الشاعر قد جعل المقياس هو علوّ الهمة وليس امتداد السنوات. إنه الذي في الواقع قد شارف الستين من العمر، لكن روحه الوثابة وعطاؤه المتواصل وهمته العليا من يراها فإنه يجزم أن صاحبه لم يتجاوز العشرين وهي سنوات الشباب والعطاء والهمة المتوقعة.
إن الأرواح عند أصحاب الهمم لا تشيخ ولا تهرم، إنها تظل في رسم بياني متصاعد بعكس أولئك الذين مقياسهم هو الزمن، وإذا بهم كلما امتدت السنوات ليس فقط أن البصر يضعف والجسد يكلّ والسمع يثقل، وإنما هي الروح تهرم وتضعف.

ومثل شاعرنا الأول فإنه شاعرنا الثاني ابن عقيل البغدادي، وقد قال في وصف همته العالية وروحه المتوثبة:

ما شاب عزمي ولا حزمي ولا خلقي ولا ولائي ولا ديني ولا كرمي
وإنما اعتاظ شعري غير صبغته والشيب في الشعر غير الشيب في الهمم

إنه يكتب بأحرف من ذهب في بيان أن تغيير لون الشعر من الأسود إلى الأبيض وتحوله إلى الشيب ليس معناه أبدًا أن الهمة قد شابت وأن العزيمة قد شاخت، حيث يؤكد أن عزمه وحزمه ودينه وأخلاقه الفاضلة أبدًا لا تشيخ ولا تتبدل ولا تتغير.
ما أحرانا وما أجدرنا أن تكون هكذا هممنا وعطاؤنا، وأن نظلّ نعطي لديننا ورسالتنا ودعوتنا ولعناوين الخير في مجتمعنا بعطاء دائم مستمر لا ينقطع كأننا أبناء عشرين.

يا مغيث أغثنا

قال الشاعر:
أيا أكناف بيت المقدس إني أرى غيثًا يجود به الغمام
فحبل الظلم في الدنيا قصير وعقبى قاتل الشعب انهزام

إنها الكلمات والرسائل من الشاعر تريد أن توصلنا إلى حالة الأمل والتفاؤل واليقين بالفرج والنصر والتمكين بعد حالة الكرب والبلاء والظلم الذي ينزل بشعبنا الفلسطيني خصوصًا وبأمتنا عمومًا.
إنه يتحدث لأكناف بيت المقدس عن رؤيته للغيث النازل والمطر المنهمر، في إشارة إلى الرحمة وانكشاف الغمة وزوال الظلم، هذا الظلم الذي مهما طال فإنه سيكون قصيرًا، وقديمًا قيل: “إذا كانت دولة الظلم ساعة، فإن دولة الحق إلى قيام الساعة”.
إنه حبل الظلم قصير مثل حبل الكذب، وإنه سرعان ما ينكشف زيفه ويفتضح بريقه، ومهما كانت قوى الشر تملك من إمكانيات وعُدّةٍ وعدد، فإنها لن تنتصر على قوى الخير، وإذا انتصرت في جولة فإنها لن تنتصر في كل الجولات وتحديدًا في الجولة الأخيرة.
أما عقبى الظالم وعقبى قاتل الشعب فإنه إلى هزيمة وإلى بوار، وسواءً كان القاتل إسرائيليًا أو أمريكيًا أو روسيًا، وسواءً كان هو بشار قاتل الشعب السوري أو ابن سلمان قاتل الشعب السعودي أو السيسي قاتل الشعب المصري، وكل القتلة والظالمين فإنهم إلى بوار وخسران.

أيها الأخ الحبيب أيتها الأخت العزيزة انفضوا عنكم غبار اليأس والتشاؤم، واخلعوا عباءة الذل والهوان، وليكن العلا غرضكم. واحذروا أن يطّلع الأعداء على زلّات لكم واجتنبوا الوقوع فيها، ولا ترضوا إلا بتحقيق واكتساب المعالي، ولتبقى أرواحكم في عمر الشباب حتى وإن شاخت الأجساد وامتدت الأعمار، وكونوا على يقين يا أبناء بيت المقدس وأكنافها بل يا أبناء أمة الإسلام كلها أننا بين يدي غيث قادم وفرج قريب، وأننا بين يدي أن ينتصر حقنا على باطلهم، وخيرنا على شرهم. إننا بين يدي وعد الآخرة ومعركة إساءة الوجوه ونهاية العلوّ الكبير. فامضوا على بركة الله واستعينوا بالله ولا تعجزوا، وثقوا بوعد الله الآتي القريب.
فيا مغيث أغثنا.

رحم الله قارئًا دعا لنفسه ولي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى