عندنا مكان لمسلمي الروهينغا..
صالح لطفي : باحث ومحلل سياسي..
الروهينغا كلمة مأخوذة من روهانج اسم دولة “مملكة ” اراكان القديم حيث كانت مملكة هندوسية تتبع جغرافيا لشبه القارة الهندية، وتطلق الكلمة كذلك على المسلمين الذين سكنوا هذه المملكة من المواطنين الاصليين وتعني الكلمة في اللغة الروهينية الارض المزروعة بالرز –واشتهرت تاريخيا باسم “دهنافاتي “يعني مخزن الأرز الذي كان يصدر الأرز لكثير من دول العالم، فقد بلغت حاصلات هذا الاقليم في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن الماضي أكثر من 450.000 طن- مجموع احتياج الاقليم سنويا 200 الف طن من الرز- كما تحمل الكلمة دلالة تاريخية تنسب الى الرحمة تعود الى احداث جرت بين التجار الحضرميين وملك مملكة اراكان الهندوسية آنذاك… دخل الاسلام اراكان خلال المئة الهجرية الاولى على ثلاثة موجات 40هـ \661م ، 92هـ\711م ، 100هـ\ 719هـ وهذه الاخيرة كانت بإيعاز من القائد المسلم محمد بن قاسم الثقفي .. كانت أراكان دولة إسلامية مستقلة حرة تقع في جنوب شرق اسيا ومناخها استوائي وكان لها علمها الخاص ولها عملتها التي بقيت متداولة بين البورميين حتى اوائل القرن العشرين، وربطتها علاقات وطيدة مع العالم الاسلامي آنذاك ومن ضمن ذلك الدولة العثمانية والفارسية والبنغالية وممالك المسلمين في الغرب الافريقي واسيا الوسطى.
اقام الروهينغا مملكة انفصلت عن مملكة البنغال عام 1343م واستمرت حتى عام 1784 حيث خضعت للاحتلال البوذي البورمي بعد معارك طاحنة بين مملكة بورما واراكان وبقيت تحت الاحتلال البورمي حتى عام 1824 وخلال هذه الفترة قامت المملكة البورمية بتدمير المعالم الدينية والحضارية والثقافية لمملكة اراكان بيدَّ أنها اصطدمت بمقاومة شرسة وشديدة رفضت الاحتلال البورمي، واستمر الامر حتى عام 1824م حيث سقطت مملكة بورما كلها –كانت تسمى امبراطورية بورما حيث ضمت اللاوس والتبت واجزاء من تايلند وكمبوديا والهضاب الصينية الهندية- واقليم اراكان وكعادتها في كل دولة تستعمرها فيها اعراق وديانات تقوم بريطانيا باستعمال سياسات فرق تسد لإحكام السيطرة على من تستعمرهم فعمدت في اراكان الى اتباع سياسة فرق تسد فجلبت البوذيين من اقاليم مختلفة الى الاراضي التي فرغتها من أصحابها الشرعيين على غرار استعمارهم لفلسطين –سياسات الاخلال والإحلال– فقربت عرق الموغ البوذي في اراكان ومنحته الاراضي المصادرة من المسلمين– نفس سياسة الاحتلال في بريطانيا لفلسطين بين سنوات 1917-1947،- مما خلق شقاقا شديدا بين الروهينغا والموغ ترك اثاره الى هذه اللحظات وشكل اساسا أخلاقيا بالنسبة للبوذيين والرهبنة البوذية في حربهم على المسلمين اذ يدعون ان الارض ليست لملكا للمسلمين وأنه تم استجلابهم من البنغال وبالتالي لا حق لهم على الارض التي يحيون عليها، كما سخَّر الجنود الاتراك الذين اسرهم في الحرب العالمية الاولى للعمل في السخرة في اراكان وقد قدر الارشيف العثماني عددهم بقرابة الـ 4700 جندي مسجلة اسمائهم في السجلات العثمانية وقسم من هؤلاء العثمانيين تزوجوا من الروهينغا وأسسوا عائلات.
لقد استمرت انتفاضة الروهينغا على الاحتلال البريطاني والنفوذ البوذي حتى عام 1937 حيث ضمت بريطاني اقليم اراكان رسميا لبورما التي حصلت على استقلال لكن تحت اسم الامبراطورية البورمية وسميت آنذاك ب”بورما البريطانية ” ورفض الروهينغا هذا الاتفاق المبرم مع العسكر البورميين الذي استثناهم نهائيا، واستمرت سياسات الرفض حتى عام 1947، حيث اتفقت بريطانيا مع المجلس العسكري البورمي على منح بورما استقلالا شاملا شريطة ان تمنح الاقليات العرقية التي تريد الانفصال حق تقرير المصير خاصة الروهينغا الذين تم استبعادهم من هذه المفاوضات لكن الروهانغ لم يتوقفوا عن مواجهة هذا الاستعمار، فوافقت بورما على ذلك الا انها نكثت الاتفاق والعهد عام 1957 فبدلا من منح الروهينغا الاستقلال الذي يطلبون قام الجيش البورمي بمذبحة راح ضحيتها مئات الالاف من الروهينغا بين مهجر وشريد وقتيل، علما ان مسلمي الروهينغا تعرضوا لمذبحة مروعة عام 1942 على يد اليابانيين والبورميين ابان الحرب العالمية الاولى ووقوف الجيش البورمي الى جانب اليابانيين للخلاص من الاحتلال البريطاني.
اراكان مسلمة ولم تكن قط جزء من بورما..
مشكلة العالم اليوم انه يتعامل مع قضية الروهينغا ببعد انساني مشوه ولا يتعاطى مع القضية ببعدها السياسي واعتراف المؤسسات الدولية ان اراكان شعب له دولة تصادر.
تتكون اراكان سكانيا من: الروهنجيا: وهم يشكلون 70% من مجموع سكان ولاية أراكان وكلهم مسلمون ويقطنون بأغلبية ساحقة في المنطقة الشمالية المتاخمة لحدود بنغلاديش … الموغ: وهم يشكلون 25% من مجموع السكان، وهؤلاء كلهم بوذيون… والباقي 5% لا ديانة لهم ويبلغ تعداد سكان الاقليم الاكثر فقرا في بورما بسبب سياساتها التاريخية، 8 ملايين منهم 5.6 مليون مسلم، وقد تناقص عددهم منذ مطلع التسعينات ليصل اليوم وفقا لإحصائيات اممية الى 2 مليون مسلم لا تعترف بهم بورما، وقد هجر حتى كتابة هذه السطور منهم نصف مليون وقتل وفقا لمعطيات روهينغية 3000 مسلم وحرقت اكثر من 22 قرية.
الاحتلال البورمي لاراكان عام 1784م وتغيير اسم المملكة الى اقليم “راخين” ابان حكم العسكر في سبعينات القرن الماضي بدلا من اراكان جاء لقطع العلاقة نهائيا مع تاريخ هذه المملكة، وحتى يمنح الحق للبوذيين السيطرة على هذه البلاد وتقتيل اهلها ولعل انتفاضات الروهينغا التي لم تتوقف وادت الى تشريد الملايين منهم وقتل وحرق الملايين كذلك دليل قاطع على ان هذا الشعب يريد الحرية والاستقلال الكامل، ومن الواضح أنه لا حل لقضيتهم الا من خلال تعاضد اسلامي عالمي يساعد هذا الشعب على استعادة حقه الكامل.
اشرنا الى ان المسلمين تواجدوا مبكرا في بورما منذ عام 100هـ وفقا لكثير من التقديرات أي منذ اكثر من 1300 عام وكان لهم نشاطهم وتركوا بصماتهم في كافة انحاء بورما بل ان عملتهم التي كتب على وجهها الاول بسم الله الرحمن الرحيم والثاني اتق الله، بقيت موجودة حتى اوائل القرن العشرين في انحاء مختلفة من بورما واختفت نهائيا مع بدايات عام 1957م. ووفقا لجغرافية السكان المسلمين في بورما فهم يتواجدون في كافة الاقاليم ومنذ عام 2002 تتهددهم المليشيات البوذية المتطرفة التي احرقت عددا من مساجدهم عام 2102 وعام 2015 وهم اغلبية سنية تتكون من 93% و7% من الشيعة الاثنى عشرية والمسلمون في بورما \مانيمار يتواجدون في مختلف الاعراق والقوميات من ذلك: الروهينغا ويتعرضون لإبادة ممنهجة تقوى حينا وتفتر اخرى تبعا للظروف المحلية –الصراعات بين الرهبان والعسكر تحديدا وتقاطع المصالح بينهم – والاقليمية والدولية فمنذ عام 1942 يتعرض الروهينغا للذبح والحرق والتقتيل، بحجة انهم ليسوا من سكان البلاد بل جاءت بهم بريطانيا واستغلتهم لعمارة الاقليم على حساب البوذيين الماغ \الموغ وهو قول مناف للصحة والحقيقة التاريخية وقد قامت بورما عام 1982 بسحب الجنسية من الروهينغا وأبقتها للموغ البوذيين الذين هم ايضا من اصول هندية… الباثاي وهم مسلمو بورما الصينيون… الكاوثونغ وهم مسلمون من اصول مالاوية ومسلمو الزربادي وهم مسلمون من اصول عربية وتركية وفارسية اختلطوا بسكان بورما وجنوب اسيا عموما وتزوجوا من بورميات ويسكنون العاصمة رانغون.
عندنا مكان لمسلمي الروهينغا..
ها هي قضية الروهينغا قد أزفت على طي صفحتها الاخيرة بعد أن نجحت القوات البورمية العسكرية والمليشيات البوذية بقتل وتشريد ملايين المسلمين منهم دون أن تحرك المنظمات الاممية والدولية وحتى الاسلامية ساكنا على مدار عقود خلت بدأت مع استقلال بورما في اربعينات القرن الماضي لتنتهي فصولها هذه الايام، اللهم إلا صرخات من هنا وهناك لمنظمات خيرية اسلامية نشطت في تسعينات القرن الماضي وأوائل هذا القرن فكان عاقبة امرها الاغلاق من قبل الدول التي كانت هذه الجمعيات والمؤسسات تعمل على ارضها ثم جاءت موجة محاربة الارهاب لتمتنع الدول الاسلامية والعربية عن مساعدة هذه الاقلية المضطهدة ولو بأقل القليل، لولا صرخة صدرت من تركيا حركت المياه الراكدة ولولا هذه الصرخة التي صدرت من مكتب رئيس الجمهورية الطيب اردوغان حيث قال معاتبا العالم اجمع والعرب والمسلمون خصوصا: “عندنا مكان لمسلمي الروهينغا إذا ما ضاقت الدنيا بهم”..- وبدأنا نسمع ونشاهد معالم تحرك اسلامي وأممي لوقف هذا “الهولوكوست” ولكن بعد فوات الاوان وبعد أن تأكدت القوى العظمى أن ملف مسلمي الروهينغا قد قارب أن يطوى ليصبح حاله كحال القضية الفلسطينية والقضية الكشميرية في أحس أحواله وكحال قضايا المسلمين في بنين وانغولا وافريقيا الوسطى حيث انتهى الوجود الاسلامي على يد مجموعات من العسكر والمليشيات تحت دعاوى القومية والعرقية والديانات- ، فالولايات المتحدة وفقا لتصريحات رسمية صدرت عن وزارة خارجيتها ومتحدثيها، تتفهم موقف بورما ولا تريد الضغط عليها وتسعى لإنهاء ازمة مسلمي الروهينغا بالطرق السلمية. أما الصين الراعي الحقيقي لبورما “مانيمار” فهي لا تلق بالا لمذابح الروهينغا ذلكم انها تمارس نفس السياسة مع المسلمين على أراضيها وتربطها مصالح جمة مع بورما اقتصادية ودينية وعرقية وتطمع الصين بالبحر والارخبيل البنغالي حيث الاستثمار في ذلك البحر في اكتشاف الغاز والنفط، والهند التي تحكمها طغمة هندوسية-بوذية توجهها احقاد التاريخ والانتقام من التاريخ الاسلامي الناظم لتاريخ الهند، أما حكام العرب والمسلمين كأندونيسيا وماليزيا وبنغلادش ففقد وقفوا بقوة خلال العقود الخالية ضد دخول اللاجئين الروهينغا الى اراضيهم، بل ان بنغلادش عرضت على حكومة بورما التعاون المشترك لمحاربة الارهاب الروهينغي – أي محاربة جيش تحرير اراكان – والدول العربية تنظر بعين الرضا الى ما يقوم به البوذيون البورميون حكومة ومليشيات ضد الروهينغا ما دام الامر يتم تحت لافتة مكافحة الارهاب والفكر المتشدد، ويتفهم زعماء عالمنا العربي والاسلامي ذلك وكلنا عشنا في الاسابيع التي خلت كيف سلمت سلطات السيسي اكثر من 500 طالب مسلم صيني يدرسون في جامعاتها لأن السلطات الصينية تعتبرهم “ارهابيون اسلاميون”، وأما اسرائيل فهي تستفيد من كل ذلك ببيع الاسلحة والخبرات.
وفقا لإحصائيات بورمية –لا ندري مدى دقتها- فقد بقي من مسلمي الروهينغا في اراكان قرابة ال800 الف مسلم- بعد ان كان عددهم 2 مليون مسلم، على ان ما هجر منهم حتى كتابة هذه السطور قارب النصف مليون-، بعد ان كان عددهم مع ثمانينات القرن الماضي قرابة 5.5 مليون يقطنون ارضهم.
الهولوكوست المستمر..
لم يُحَّرق في العصر الحديث شعب على هذه الارض بسبب هويته الدينية وعرقه ولونه مثل شعب الروهينغا المسلم، ففي حين حظي اليهود بعد مجازر ومذابح ومحارق النازيين والفاشيين باهتمام أممي اعتبر ما حدث معهم عار في جبين الانسانية- وهذا حق وصحيح- أفضى الى قيام دولة لهم – بغض النظر عن ملابسات وكيفية قيام هذه الدولة- وفي حين حصل شعب البوسنة على حقوق سياسية افضت الى دولة وإن ما زالت تحت رعاية اممية، وكثيرة هي الامثلة في واقعنا السياسي المعاصر، فإن شعب الروهينغا لم يتلق أي مساعدة تذكر بل أن سياسات الحرق والقتل والاغتصاب والذبح رافقت هذا الشعب المجاهد الذي واجه الموجات البوذية المتتالية بصدره العاري وبما تيسر من ادوات مقاومة منذ عام 1784م ولم تتوقف انتفاضاته ضد الاحتلال البورمي منذ عام 1784م والى هذه اللحظات ولربما تعتبر مجاهدة وانتفاضة الشعب الروهينغي اطول انتفاضة في التاريخ.
تعتبر مأساة الروهينغا أعظم وأطول مأساة، فهم منذ عام 1784م\1198هـ يوم سقوط مملكتهم على يد البوذيين وإلى هذه اللحظات يقاومون الاحتلال البوذي كما قاوموا الاحتلال البريطاني الذي استمر منذ عام 1824 وحتى عام 1947. ومن المهم أن يعلم القارئ الكريم أن الروهينغا لم يتلقوا أي دعم يذكر من أي مجموعة دولية أو ظهير دولي اللهم الا دعم الحكومة التركية التي ابدت اهتماما ملحوظا بملف مسلم الروهينغا منذ عام 2002م. ومعلوم أنه لا توجد مجموعة سكانية تحررت من نير الاحتلال الا بظهير وقف معها بالمال والعتاد والاعلام.
لماذا يُقَتَّل مسلمو الروهينغا..
لا يخجل البورميون حكومة ومليشيات من التأكيد على أنه لا بدَّ من أن تخلو البلاد من أي بيت مسلم- شعار رفعه الشيوعيون في مانيمار ابان الانقلاب العسكري عام 1962 واستمر العمل بمقتضاه الى هذه اللحظات- مما يعني أن كافة المسلمين في مانيمار “بورما ” معرضون للقتل والذبح والتهجير. يقتل المسلمون الروهينغا وغيرهم من العرقيات المسلمة الساكنة في مختلف الاقاليم، فقط لانهم مسلمون موحدون يقولون بعقيدة “لا إله إلا الله محمد رسول الله، وقد صرح بذلك أكثر من زعيم في الرهبنة البوذية البورمية….وتحسب الرهبان البوذيين من تغلغل الاسلام في بورما ان تركت حرية التنقل والدعوة للدعاة المسلمين وهو ما يهدد وفقا لنظريتهم الهوية الدينية-القومية لبورما التي يدين 80% من سكانها بالبوذية من مختلف العرقيات والاقاليم.. الى جانب تشابك المصالح بين الرهبنة البوذية المسيطرة على المجتمع والنظام السياسي والعسكري الفاسد حيث يتم اثارة قضية المسلمين في مختلف انحاء بورما بين الحين والاخر كشماعة يتلهى بها العوام والدهماء للتغطية على فساد هذه المجموعات الباغية، ويضاف الى ذلك ما يصرح به بعض كبار الرهبان المتطرفين –امثال الراهب رير-آثو “من ان المسلمين متطرفون وارهابيون والحل معهم فقط بالقتل والحرق والطرد وهو ما تفعله امم العالم اليوم مع المسلمين– يعتبر كل المسلمين في العالم ارهابيون يجب تخليص البشرية من شرورهم – ولا يستحي اخرون من الاشارة الى “ان المسلمين الروهينغا ليسوا من اصول بورمية، وأن اراكان (راخين اليوم)، التي يملكها البورميون مغتصبة من طرف المسلمين (قارن ذلك بما يقوله المتدينون المتطرفون من تيار الصهيونية الدينية والحاريدية- الصهيونية بما يقوله رهبان بوذا في مانيمار\بورما) ويجب اعادة الحقوق الى اصحابها”، هذا الى جانب المصالح الاقتصادية للحكومة البورمية والرهبنة البوذية الفاسدة في تلكم الاراضي الخصيبة والمليئة بالخيرات…