بيع الوهم من جديد.. لن يمر
عبد الإله معلواني
منذ أكثر من سبعة عقود، تتكرر الحيلة ذاتها بثياب جديدة:
تبدّل إسرائيل وجوهها بين يمين ويسار، بين متطرّف ومعتدل، ويُقال لنا في كل مرة: “الفرق كبير، هذه الحكومة متطرفة، والأخرى ديمقراطية”.
لكن حين نفتح سجلّ الدم والتهجير والحصار، نكتشف أن هذا “الفرق الكبير” ليس سوى فارق في اللهجة لا في الجريمة، وأن المشروع واحد: مشروع السيطرة على الأرض الفلسطينية وإنكار وجود صاحبها.
اليسار الذي أسّس النكبة
حين أُعلنت الدولة العبرية عام 1948، لم يكن نتنياهو ولا بن غفير على المسرح، بل كان بن غوريون وجولدا مائير وموشيه شاريت، رموز “اليسار الصهيوني”، الذي قاد تهجير أكثر من سبعمئة ألف فلسطيني وتدمير مئات القرى.
المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه وصف تلك المرحلة بأنها “تطهير عرقي مخطّط بعقل بارد”.
ذلك “اليسار الاشتراكي” هو الذي أسّس الكيبوتسات فوق أنقاض القرى المهجّرة، ورسم حدود “الديمقراطية اليهودية” التي لا مكان فيها للعربي إلا بوصفه تابعًا أو خطرًا.
أما مجزرة كفر قاسم عام 1956، التي ارتُكبت في ظلّ حكومة يسارية، فكانت أول اختبار أخلاقي فشل فيه “اليسار الإسرائيلي” مبكرًا.
يومها، قُتل تسعة وأربعون فلسطينيًا في حظر تجوّل مفاجئ، ثم خرج الجنود والضباط بعقوبات رمزية لا تليق حتى بمخالفة سير.
من خطة ألون إلى أوسلو: الهيمنة بغطاء السلام
بعد احتلال 1967، صاغ حزب العمل خطة “ألون” لترسيخ السيطرة على القدس والأغوار والضفة الغربية.
وقاد شمعون بيريس مشاريع الاستيطان الأولى، وشرّع وجودها بقانون “الأمن”.
بهذا، لم يكن الاستيطان مشروعًا يمينيًا، بل سياسة رسمية يسارية صيغت بعناية دبلوماسية.
اليمين الذي جاء لاحقًا لم يخترع شيئًا جديدًا، بل تباهى بما بدأه اليسار.
وفي التسعينيات، حين ظنّ البعض أن رياح السلام قد هبّت، جاء اتفاق أوسلو ليؤكد أن الاحتلال يمكن أن يُدار دون أن يُزال.
قسّم الأرض إلى مناطق (A, B, C)، وأنشأ سلطة فلسطينية محدودة الصلاحيات، بينما بقيت الحدود والمعابر والمياه والمعادن بيد إسرائيل.
المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد كتب في حينه:
“أوسلو كانت استسلامًا رسميًا، حولت المقاومة إلى شرطة”.
وهكذا تحوّل اليسار من “مهندس الدولة” إلى “مهندس الاحتلال المقنّع”.
حروب اليسار: قصف ناعم… ونتائج واحدة
من قال إن الحروب حكر على اليمين؟
ففي زمن “اليسار المعتدل” خيضت أكثر الحروب دموية:
• شمعون بيريس شنّ حرب “عناقيد الغضب” عام 1996 ومجزرة قانا شاهدة.
• إيهود باراك واجه الانتفاضة الثانية بالرصاص الحيّ وقتل المئات من المتظاهرين.
• إيهود أولمرت دمّر لبنان عام 2006، ثم غزة عام 2008 في “الرصاص المصبوب”.
• بينيت – لبيد – منصور عباس أعادوا المشهد نفسه عام 2022 في “الفجر الصادق” وقصفوا غزة، بينما كان الأقصى يُقتحم تحت حراسة الشرطة.
هل يُعقل أن ننسى؟
كيف ننسى أن أولمرت، الذي بدأ أول حرب إبادة ضد غزة عام 2008 بضربة مفاجئة قتلت المئات خلال دقائق، هو نفسه الذي دمّر قرى الجنوب اللبناني والبنية التحتية لبيروت؟
واليوم نراه ضيفًا على شاشات عربية، يُقدَّم كـ”حمامة سلام” على قناة الجزيرة مباشر مع الإعلامي أحمد طه!
سبعة وسبعون عامًا من الخداع ذاته، يُباع فيها الوهم بوجه جديد وشعار مختلف، تحت عنوان “الديمقراطية الإسرائيلية”.
أكتوبر 2000: دمنا يفضح اليسار
حين خرج الفلسطينيون في الداخل في هبة القدس والأقصى عام 2000، ردّت الشرطة بالرصاص الحيّ، فاستشهد 13 شابًا عربيًا.
كان رئيس الحكومة آنذاك إيهود باراك، رمز اليسار “العقلاني”، ووزير أمنه الداخلي شلومو بن عامي، الأكاديمي الليبرالي المتأنق في خطابه.
لكنهم استخدموا ذات الذخيرة التي يستخدمها اليوم بن غفير.
والمؤلم أن باراك نفسه كان قد تلقّى دعمًا من بعض النخب العربية عام 1999، التي خرجت بمكبرات الصوت تدعو للتصويت له “لمنع فوز نتنياهو”!
لكن رصاص باراك كان أبلغ من كل الشعارات، وأثبت أن القاتل لا يتبدّل حين تتبدّل الدعاية.
الأبارتهايد… باعتراف أهله
اليوم، لم يعد ممكنًا إخفاء الحقيقة. منظمة بتسيلم قالت صراحة: “من النهر إلى البحر، هناك نظام تفوّق يهودي واحد”.
وتقارير هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية وصفت إسرائيل بأنها تمارس نظام فصل عنصري شامل.
أما خلال حرب غزة الأخيرة، فقد حذّر عالم الاجتماع البريطاني مارتن شو من “إبادة جماعية ممنهجة”، وقال إن المسؤولية لا تقع على الحكومة وحدها، بل على المعارضة والإعلام والغرب المتواطئ بصمته.
بيع الوهم من جديد
واليوم، بعد حرب غزة التي عرّت كل الأقنعة، تخرج علينا بعض الأصوات من نخب سياسية وأكاديمية في الداخل، لتعيد تكرار المسرحية نفسها:
أن هذه الحكومة متطرفة، وأن الخلاص في التصويت للكنيست، وأن المشاركة السياسية داخل “اللعبة الإسرائيلية” هي الحلّ السحري.
يتحدثون كأننا نسينا أن غانتس — الذي أوصت عليه الأحزاب العربية الأربع ليصبح رئيسًا للحكومة — هو نفسه الذي تباهى في دعايته الانتخابية بعدد الشهداء الذين قتلهم في غزة حين كان رئيس أركان الجيش!
وهو نفسه الذي أشرف على الحرب خلال هبة الكرامة عام 2021.
فهل يُعقل أن نظل نُلدغ من الجحر نفسه؟
أن نُصفّق لمن قصفنا لأن ابتسامته أهدأ؟
أن نقنع أنفسنا بأن المحتل يمكن أن يتحوّل إلى حامٍ لحقوقنا عبر صناديقه الانتخابية؟
الوعي لا يُحظر… والمشروع لا يُنسى
نحن لا نخوض صراع أحزاب، بل صراع وعي.
ولهذا السبب، تُحارَب التيارات التي حافظت على هذا الوعي
بالسجن حينًا، وبالتشويه الإعلامي حينًا آخر، وبالتحريض المستمر ضدها في الداخل والخارج.
يكفي أن نذكر الشيخ رائد صلاح والشيخ كمال خطيب، رمزين من رموز الثبات في وجه هذا المشروع، اللذين دَفعا ثمنًا باهظًا من حريتهما ومكانتهما لأنهما عبّرا عن موقفٍ وطنيٍّ مبدئيٍّ لم يساوم.
لكن الوعي لا يُحظر، والفكرة لا تُعدم.
لقد علّمنا التاريخ أن من يتمسّك بالمبدأ يُستهدف، لكن الله يحفظ عباده الصادقين الذين لم يبدّلوا ولم يبيعوا.
الحقيقة البنيوية – وحدة المشروع الصهيوني
تسلسل الأحداث من كفر قاسم (1956) إلى غزة (2025) يرسم خطًّا واحدًا واضحًا:
كل الحكومات الإسرائيلية، مهما تغيّر لونها الحزبي، استندت إلى ثلاثة ثوابت:
1. احتكار الرواية والحق التاريخي.
2. نفي الوجود الوطني الفلسطيني.
3. التحكم في الأرض والموارد عبر أدوات القوة.
إنها ليست سياسة حزب، بل بنية دولة استعمارية، توارثتها الأجيال السياسية تحت شعارات مختلفة.
يقول المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند:
“لم يوجد يسار حقيقي في إسرائيل قط، لأن أي يسار لا يخرج من عباءة الصهيونية محكومٌ بالبقاء في خدمتها”.
خلاصة القول: الوعي لا يصوّت للوهم
سبعة وسبعون عامًا من التجربة تكفينا لنفهم أن اليسار واليمين في إسرائيل شريكان في مشروع واحد.



