قصص تاريخية تتحدث عن العفّة والمروءة والشّرف

عامر عواودة- باحث في التراث (كفر كنا)
“ليلى العفيفة”
كان البراق بن روحان من قبائل ربيعة العدنانية، من نسل عدنان، ومن أبطال العرب المشهورين، حتى قيل: “إليه ينتهي مجد ربيعة”.
وقد كان ابن عم وائل بن ربيعة (المعروف بكليب)، وعمرو بن كلثوم حفيد (الزير سالم)، بل كان أكبرهما سنًا وقدوة لهما في الفروسية والشجاعة، فلا يخرج أحدهما عن رأيه أو أمره.
في تلك الحقبة، كانت القبائل اليمنية -من همدان، ومَبحَج، وسائر القبائل السَّبئية- تفرض سيادتها على القبائل العدنانية، وتُجبرهم على دفع الجزية. وبقيت هذه الهيمنة قائمة حتى اجتمعت القبائل العدنانية من مضر، وإياد، ونزار تحت راية ربيعة بن الحارث، والد كليب والزير سالم، وقررت وضع حدٍّ لسلطان اليمنيين، فدارت بين الطرفين معركة السَّلان.
في معركة السَّلان، بزغ نجم البراق بن روحان، وأصبح فارس العرب الأول، وبعدها دانت القبائل العدنانية لربيعة، وكان البراق سيّد فرسانها.
وكان للبراق ابنة عم تُدعى “ليلى”، أحبّها حبًا عظيمًا، وهي أحبّته كذلك. فأتى إلى عمّه -والد ليلى- وقال له: “ليلى لي، فلا تُعطِها لغيري”. فأجابه عمّه: “وأين نجد لها مثلك زوجًا؟ هي لك، وأنت أحقّ بها”.
لكن عمّه، واسمه “اللكيز”، كان تاجرًا كبيرًا وصديقًا لملوك اليمن، يزورهم بقوافله التجارية سنويًا. وفي إحدى زياراته، قال له ملك اليمن: “سمعنا أن لك ابنة تُدعى ليلى، جميلة كمال الجمال”. فقال اللكيز: “صدقت، وهي كما وصفت”. فقال الملك: “أريدها زوجًا لابني، ليكون بيننا نسب”. فخجل اللكيز أن يرد طلب الملك، ولم يجرؤ على إخباره أنه قد وعد بها ابن أخيه، فوافق.
عاد اللكيز إلى نجد، وأخبر البراق بما جرى، فحاول البراق إثناءه عن قراره، ولكن اللكيز أصرّ. خرج البراق غاضبًا، وبينما هو في الطريق، التقى بليلى وقال لها: “أترضين بما قرّره والدك؟” فقالت: “لا، ولكني لا أملك من الأمر شيئًا، وقد قال والدي كلمته”. فقال لها: “إذًا، في الليل خذي حاجتك وانتظريني عند البئر، لأهرب بك، ولن يجرؤ أحد أن يلاحقنا، فالعرب كلها تخشاني”. فأجابته ليلى قائلة: “ما قاله والدي -عمّك- سيمضي عليك وعليّ، وإن كنت تحبّني حقًا، فتمنّ لي السعادة حيثما كنت، فلن أفضح أبي أمام العرب”.
منذ ذلك الحين، سُمّيت بـ “ليلى العفيفة”، لأنها رفضت الهرب مع ابن عمّها حفاظًا على شرف والدها.
غضب البراق، واعتزل قبيلته والناس، وخرج إلى الجبال هائمًا. واشتد حزنه حين رأى أن قبيلته لم تسانده في وجه عمّه، ولم يحاول أحد أن يتدخل ليثني اللكيز عن رأيه، وكأنهم لا يحتاجون البراق إلا في الحرب فقط.
ثم نشبت معارك بين ربيعة وقبيلتي طيء وقضاعة، وكان يقود ربيعة كليب والزير سالم، لكن الغلبة كانت للعدو، وقد تكاثر عدد القتلى من ربيعة واشتدّ حالهم. فأرسلوا في طلب البراق، فذهب إليه كليب والزير سالم وقالا: “يا براق، لم نعد نحتمل، أغثنا”. فرفض وطردهم.
ثم أخطأت طيء وقضاعة خطًأ كبيرًا، إذ بعثوا رسالة للبراق يشكرونه فيها على حياده، ووعدوه بالهدايا، لكنه فهم الرسالة على أنها إهانة، وكأنهم يشترونه ليسكت عن دماء أهله..
فركب فرسه “الشبوب”، وعاد إلى قومه، قائلًا:
إذا لم أقد خيلي إلى كلِّ ضيغمٍ
وآكل من لحم العداةِ وأشبعُ
فلا قدتُ من أقصى البلادِ طلائعًا
ولا عشتُ محمودًا، والعيشُ موسعُ
واصطفّ الجيشان، وصاح فرسان ربيعة:
براقُ سيدُنا وقائدُ خيلِنا
وهو المطاعُ في المذيقِ الجحفلِ
ودخل المعركة، باحثًا عن زعيم طيء “النصير” الذي كتب إليه الرسالة، وقال له: “أتُقدّم لي الهدايا لأتخلّى عن أهلي؟ سأقدّم رأسك هدية لكليب”. ثمَّ قتله وقطع رأسه وقدّمه بالفعل.
بهذا كُسرت طيء، وفرت قضاعة، وانتصر بنو ربيعة، وغنموا كثيرًا، وعيّنوا البراق زعيمًا لهم.
أما ليلى، فقد أُرسلت إلى اليمن، ولكن في طريقها خُطفت على يد فرسان من قبيلة إياد العدنانية، وقدّموها هدية لأحد أبناء الأكاسرة في بلاد فارس، فافتتن بها، وأراد الزواج منها، لكنها رفضت، فعذبها، وظلّت صامدة ترفض أن تُذل أو تُدنَّس.
ذات يوم، التقت براعٍ عربي في أطراف قصر الأكاسرة، فسألته: “هل تعرف البراق بن روحان؟” فقال: “ومن لا يعرف فارس العرب!” فقالت له: “إني سأقول لك قصيدة، فانقلها إليه”. فأنشدت:
ألا ليت للبراقِ عينًا فترى
ما أُلاقي من بلاءٍ وعنى
يا وائلًا يا سالمًا يا إخوتي
يا جسّاسًا أسعدوني بالبكى
عذّبت أُختكم يا ويلكم
بعذابٍ في الصبحِ والمسا
عذّبوني، غلّلوني، أهانوني
وضربوا العفةَ مني بالعصا
هيهاتَ الأعجميُّ أن يقربني
ومعي بعضُ حشاشةُ الحيا
أصبحتْ ليلى تُغَلُّ أكفُّها
مثلَ تغليلِ الملوكِ العُظَما
تُقيّد وتُكبَّل جورًا
وتُطالبُ بقبيحاتِ الخَنا..
وعندما وصل الراعي إلى ديار ربيعة وأنشد القصيدة، لم ينتظر الفرسان نهاية الأبيات حتى ركبوا خيولهم مسرعين نحو بلاد فارس. ولحقت بهم قبائل مضر من تميم وهوازن وغطفان وعبس.
قال كليب مخاطبًا مضر:
وإن تتركوا وائلًا للحرب يا مضرٌ
فسوف يلقاكم الذي كان لاقيها
فأبلغوا بني الفُرسَ عني حين تبلغوهم
وحيّوا كهلان إن الجندَ عافيها
قاد البراق الجيش بنفسه إلى بلاد الفرس، وبدأت المعارك الطاحنة بينهم. وفي إحدى المعارك قُتل أخوه “غرسان”، فازداد البراق ثأرًا، وجمع فرسانه، وهاجم الأعداء قائلًا:
صبرًا إلى ما ينظرون مقدمي
إني أنا البراق فوق الأدهمِ
لأرجعنّ اليوم ذات المبسمِ
بنت لُكيز الوائليّ الأرقمِ
هزم الفرس، وحرّر ليلى، وعاد منتصرًا. فزوجوه ليلى العفيفة، تلك التي رفضت الهرب معه يومًا حفاظًا على شرف أبيها، فذهب هو إليها في بلاد فارس، وأعادها عروسًا فوق جماجم الفرس.
وهكذا خُلِّدت قصتهما في التراث العربي، وسُمِّيت من يومها بـ”ليلى العفيفة”.
المصادر:
1. قصص من التراث البدوي – محمد عبيد الله.
2. الحكايات الشعبية عند العرب – أحمد رشدي صالح.
3. موسوعة التراث الشعبي العربي – عبد الحميد يونس.
4. السير الشعبية العربية – عبد الفتاح عبادة.
5. القصص الشعبية في الجزيرة العربية – عبد الكريم الجهيمان.
6. من قصص البادية – عايد عبّاس.
7. أدب البادية – نايف الجهني.


