الأخذ بالأسباب: من أعظم دروس الهجرة النبوية

هناك أحداث في التاريخ تغيّر مجراه وتترك دروسًا خالدة. ومن أعظم هذه الأحداث الهجرة النبوية، التي تعلمنا مبدأً إسلاميًا عظيمًا: الأخذ بالأسباب. مع أن النبي محمد ﷺ كان مؤيدًا بالوحي، إلا أنه لم يترك شيئًا للصدفة، بل أسّس عمليًا لأهمية التخطيط كجزء لا يتجزأ من الإيمان.
في هذا المقال، نستلهم من هجرته صلى الله عليه وسلم، كيف نوازن بين السعي الدؤوب والتوكل العميق على الله.
تفاصيل الأخذ بالأسباب في رحلة الهجرة
من الأسباب التي أخذ بها النبي ﷺ في الهجرة:
– الاختفاء عن أعين الأعداء المتربصين به.
– اختيار الصاحب الذي يهون مشقة الرحلة، وهو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
– اختيار دليلٍ خبير بالطريق بين مكة والمدينة؛ نظرًا لما تحمله هذه الرحلة من مخاطر.
– اختيار مكان الإيواء المؤقت وهو غار ثور، ليضلل بحث قريش.
– تحديد من يحمل المؤونة ومن ينقل الأخبار، مثل أسماء بنت أبي بكر وعبد الله بن أبي بكر.
كل هذه التدابير اتخذها نبي مؤيد بالوحي، وهو يقوم بأمر إلهي لنصرة الدين، ومع ذلك لم يُغفل الأخذ بالأسباب، بل بذل كل ما في وسعه لنجاح الهجرة.
الفرق بين أخذ المؤمن بالأسباب وغيره
العقلاء يأخذون بالأسباب من تخطيط وتنفيذ ومتابعة. فما الفارق بين أخذ الأنبياء والصالحين للأسباب، وبين عموم الناس؟
الفرق أن أخذهم بالأسباب عبادة، يتقربون بها إلى الله، ويسألونه أن يهيّئ لهم أفضلها. ويعلمون أن كل سبب قد ينجح أو يفشل، بل قد ينقلب إلى ضده.
مثال واقعي
قد يسعى الإنسان لزوجةٍ تُسعد قلبه، ويُرزق بأولادٍ يكونون عزوته، لكن قد ينقلب ذلك إلى مصدر شقاء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ﴾ [التغابن: 14]
وفي المقابل، قد تكون أسباب السعادة عند غير المؤمنين مصدر عذاب: ﴿فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ…﴾ [التوبة: 55]
المؤمن يعلم أن السبب مجرد وسيلة، وأن الله تعالى قادر أن يسخّر جنود السماوات والأرض لما فيه الخير له: ﴿وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ﴾ [المدثر: 31]
عندما تنقطع الأسباب: درس غار ثور
حينما لجأ النبي ﷺ وأبو بكر إلى غار ثور، وصل المشركون إلى فوهة الغار، فقال الصديق: “لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا”، فرد عليه النبي ﷺ: “ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟”.
رغم انقطاع الأسباب المادية، لم يفقد النبي ﷺ يقينه بالله، فنزلت السكينة، وأيده الله بجنودٍ لم تُرَ: ﴿فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا…﴾ [التوبة: 40]
تقويم الأسباب وتقييم التوكل
كثيرون يعتمدون على علاقات الحب أو المصالح، فإذا فشلت الأسباب، انهارت آمالهم. أما المؤمن فيُعيد تقييم توكله على الله، ويُراجع الأسباب التي اتخذها، ويبحث عن الوقت المناسب للإقدام أو التريث.
يُعلّمنا النبي ﷺ أن نأخذ بالأسباب ضمن الطاقة: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286].
دروس من مواقف أخرى: مريم، وغزوة بدر
عند وضع مريم لعيسى عليهما السلام، جاءها الأمر: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ…﴾ [مريم: 25]
رغم ضعفها، أُمرت بفعل سببٍ بسيط، يُبين لنا أن الله يعطي القوة للمستضعفين.
وفي غزوة بدر، بعد إعداد النبي ﷺ جيشه، أخذ حفنة من التراب ورماها، وقال: “شَاهَتْ الوجوه! اللهم أرعب قلوبهم…”. فانهزم أعداء الله، وانتصرت القلوب المؤمنة.
أسباب البركة والتنمية الخاصة بالمسلمين
الإسلام لا يكتفي بالأسباب الدنيوية، بل يمنح المؤمنين أسبابًا روحية وأخلاقية. قال النبي ﷺ: “صلة الرحم، وحسن الخلق، وحسن الجوار، يعمرن الديار، ويزدن في الأعمار” [رواه أحمد].
صلة الرحم تولد الثقة والنمو المشترك.
حسن الخلق يشمل العدالة، والتعاون، والدعم المجتمعي.
العفة تعني الاستغناء عن سؤال الناس، مما يقوي المجتمع.
تحصين العمران والاستعانة بالضعفاء
يأمرنا الله بالأخذ بكل أسباب القوة: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ…﴾ [الأنفال: 60]
وقال ﷺ: “هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم؟” [رواه البخاري].
الضعفاء قد لا يملكون السلاح، لكنهم يملكون الدعاء الصادق، والمشورة النافعة، والعمل المتفاني.
الاستعانة بالله وتجاوز العجز
كلما استضاء المؤمن بنور اليقين، ودعا: “اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل”،
واستعان بالله، استُجيب له، كما قال ﷺ: “واستعن بالله ولا تعجز” [رواه مسلم]
تسخير الله للأسباب غير المتوقعة
حين حوصر المسلمون في شِعب أبي طالب، سخر الله لهم من غير المسلمين من خفف عنهم الحصار، كأمثال المطعم بن عدي، فدلّ ذلك على أن الله يسخّر من يشاء من خلقه لنصرة دينه.
ختامًا
الهجرة النبوية درس خالد في العمل المتقن، والتخطيط الواع، والتوكل الصادق. فالمؤمن لا يتواكل، بل يسعى ويعمل، ثم يُفوّض أمره لله. وبهذا الفهم العميق، تتوازن الروح والمادة، والدين والدنيا، والعبادة والعمل في حياة المسلم.