هي حرب دينية على شعبنا الفلسطيني

الشيخ رائد صلاح
كما هو معلوم فقد نشأت (الصهيونية المسيحية) بداية في أوروبا، وكانت في مجمل معتقداتها تؤكد أنَّ واجب كل مسيحي أن يعمل على تحقيق الإرادة الإلهية بإقامة مملكته على الأرض التي هي دولة إسرائيل.
وقد سبق ظهور (الصهيونية المسيحية) ظهور (الحركة الصهيونية) بسبعين عاما، كما يوكد ذلك ستيفن سايزر!! ثم انتقلت (الصهيونية المسيحية) إلى أمريكا وتغلغلت في نسيج المجتمع الأمريكي حتى باتت تعد بعشرات الملايين، ثمَّ تغلغلت في البيت الأبيض، وأصبحت صاحبة القول الفصل بما يتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي بعامة، وبالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي بخاصة، وحول أسباب هذا التغلغل في أمريكا فإنّ الكاتب عبد التواب عبد الله حسين يعزّي ذلك إلى ما يلي:
1. الإنسان الأمريكي متدين، ويتأثر بالخطاب الديني، ويواظب 47% من المجتمع الأمريكي على الذهاب إلى الكنيسة مرة أسبوعيا على الأقل، بينما هذه النسبة 14% في أوروبا الغربية و12 % في أوروبا الشرقية.
2. القدرات الأمريكية المالية والاعلامية والعسكرية تمثل الركيزة الأساس للسيطرة على العالم والحسم في معركة هار-مجدون التي تمثل غاية أحلام الصهيونية المسيحية والتي ستمكّن اتباع هذه الحركة من دخول ما يسمونه الألفية السعيدة -وفق حساباتهم- حيث سيحكمون العالم الف عام دون أن ينازعهم أحد، وسينجحون بالقضاء المبرم على الأمة الإسلامية التي تمثل محور الشر -وفق حساباتهم- وسينجحون كذلك بإدخال كل الشعب اليهودي الى معتقداتهم (الصهيونية المسيحية).
3. صاغت حركة (الصهيونية المسيحية) كل معتقداتها على صورة نبوءات دينية وراحت تعد قطاعا واسعا من الشعب الأمريكي بقرب تحقق هذه النبوءات التي سيكون ختامها هو معركه هار- مجدون، وفي الوقت نفسه، واصلت هذه الحركة سعيها لغرس هذه النبوءات في ذهنية الادارات الامريكية المختلفة، وفي قراراتها المتعلقة تحديدا بسياسة أمريكا تجاه الأمة الإسلامية والعالم العربي والشعب الفلسطيني.
وعلى سبيل المثال هذا (بات روبرتسون) أحد قادة حركة الصهيونية المسيحية كان يشارك في اجتماعات مجلس الأمن القومي الأمريكي أيام الرئيس (ريجن)!! وهذا (جيري فالويل) من ابرز قادة هذه الحركة كان صديقا شخصيا للرئيس (جورج بوش).
باختصار، قائمة قادة هذه الحركة طويلة، وكلهم كانوا ولا يزالون يسعون للحفاظ على التوافق الدائم ما بين نبوءات هذه الحركة وقرارات السياسة الخارجية الأمريكية، وتحديدا بما يتعلق بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
4. ومع زياده نمو حركة الصهيونية- المسيحية على صعيد أملاكها وقدراتها الاقتصادية وإقامتها الاذاعات والقنوات التلفازية والمراكز التعليمية العليا فقد جذبت عشرات الملايين من الشعب الأمريكي وأصبحت ذات قوة مؤثرة في كل انتخابات أمريكية، وعلى سبيل المثال، فإن جورج بوش كان قد حصل على 40% من ضمن كل الأصوات التي حصل عليها، من اتباع الصهيونية المسيحية، وهكذا مكنته هذه الحركة من الفوز على منافسه (آل جور)، رغم أن (جورج بوش) كان مدمنا على الخمرة وكما أعدّوه لهذا المنصب نقلوه من الإدمان إلى رعاية دينية (صهيونية مسيحية) والذي اشرف على ذلك القس (جيري فالويل). وهكذا تحول جورج بوش بلمحة عين من سكير الى رئيس أمريكا، وهكذا وقع تحت هيمنة حركة الصهيونية المسيحية.
5. كان من ضمن من أفرزتهم (الصهيونية المسيحية) (جون أشكروفت) الذي شغل منصب وزير العدل الأمريكي، وكان في قمة اهتمامات هذا الوزير لمّا كان وزيرا هو مطاردة ذوي الأصول الإسلامية على الأرض الأمريكية والتضييق عليهم لإجبارهم على مغادرة أمريكا، ويبدو أن ترامب ورث هذه المهمة من هذا الوزير، فهو (ترامب) منذ أن ترشح لأول مرة للرئاسة الأمريكية كان يهدد ويتوعد بتطهير أمريكا من الأغيار، ويبدو أن هذه الشهية ضد الأغيار قد سمنت في داخل ترامب، وها هو يهدد ويتوعد أهلنا بغزة، ويدعو علانية لطردهم إلى دول عربية شتى وفي مقدمتها مصر والأردن، وها هو يدعو بجلافة الكاوبوي الأمريكي لوضع اليد على غزه وتحويلها الى عقار أمريكي، وصدق من قال: (الطبع يغلب التطبع) فيبدو أن ترامب لا يستطيع أن يتخلص من طبعه كتاجر عقارات ولا يزال يسيطر عليه هذا الطبع، ويبدو انه لا يستطيع التأقلم مع منصبه كرئيس أمريكا رغم دخوله الى البيت الأبيض، ويبدو أن شعوره بكونه تاجر عقارات يغلب على شعوره بكونه رئيس أمريكا.
6. يوم أن تغلغلت سيطرة حركه الصهيونية المسيحية في البيت الأبيض فقد تغلغلت مصطلحات هذه الحركة في خطابات البيت الأبيض، ولا تزال تبرز في خطابات البيت الابيض حتى الآن، وها نحن كما يعلم الجميع في مطلع عام 2025 فهذا القس (مايكل جارسون) من أعضاء هذه الحركة وهو كاتب خطابات الرئيس جورج بوش قد ادخل إلى خطابات الرئيس (بوش) مصطلح (محور الشر)، ويعني هذا المصطلح في حسابات هذه الحركة كل الدول التي تعمل ضد (إسرائيل) على اعتبار أن قيام إسرائيل هو نبوءة إلٰـهية وفق حسابات هذه الحركة! كما وادخل هذا القس (مايكل جارسون) مصطلح (العدالة المطلقة) إلى خطابات الرئيس (بوش) ويعني هذا المصطلح في حسابات هذه الحركة ان العدالة لن تكتمل إلا بالعودة الثانية للسيد المسيح عليه السلام، وحتى يعود السيد المسيح عليه السلام فلا بد من وقوع معركة هار- مجدون ضد (محور الشر) الذي هو الأمة الإسلامية.
وحتى يتم التعجيل بوقوع معركة هار- مجدون في حسابات هذه الحركة فلا بد من هدم المسجد الأقصى، ولابد من تهجير الشعب الفلسطيني، وهذا يعني أن محصلة مطلب ترامب بتهجير الشعب الفلسطيني من غزه إلى دول عربية شتى هو التعجيل بوقوع معركة هار- مجدون!! ولا ادري هل ثقافة ترامب العقارية تسمح له أن يدرك ذلك أم لا؟!
ولا ادري هل صرّح بهذا المطلب وهو يعني ما يقول، ويطمع بتقريب موعد معركة هار- مجدون أم تصريحه بهذا المطلب كان توافقا قدريا مع نبوءات حركة الصهيونية المسيحية؟! ومما يلفت الانتباه خلال الحرب التي وقعت على غزة والتي استمرت خمسة عشر شهرا أن نتنياهو كان يدخل في خطاباته مصطلح (محور الخير) و(محور الشر)،!! ولا ادري هل أراد بذلك تجنيد موقف حركة الصهيونية المسيحية الى صفه خلال هذه المعركة.
ثمّ يبدو من خلال كل هذه القرائن السابقة، أن هذه الحركة قد دخلت إلى البيت الأبيض منذ عقود طويلة ولم تخرج منه حتى الآن!! ويبدو أن كل رؤساء أمريكا الذين دخلوا الى البيت الأبيض قد غادروه، إلا هذه الحركة، ويبدو أنها قد قررت ألا تغادره حتى تتحقق -وفق حساباتها- كل نبوءاتها التي سيكون ختامها -وفق حساباتها- وقوع معركة هار- مجدون.
7. بدافع حرص حركة الصهيونية المسيحية على مرافقة مسيرة المؤسسة الإسرائيلية فقد رافق القس (بات روبرتسون) الجنرال موشي ديان عندما اقتحم الضفة الغربية والقدس المباركة، كما رافق القس (جيري فالويل) الجنرال (أرئيل شارون) أثناء غزوه للبنان!!
وقد تحول مشهد هذه (المرافقة) إلى نهج ثابت ودائم في مسيرة البيت الأبيض بغض النظر عن الرئيس الأمريكي الذي دخل إليه أو خرج منه، وقد شاهد كل أهل الأرض أن الدعم الأمريكي للمؤسسة الإسرائيلية خلال الحرب على غزة لم يقف عند حدّ الدعم العسكري والمالي والإعلامي والسياسي، بل إن كبار الشخصيات الرسمية الأمريكية، التي أحاطت بـبايدن لم تنقطع زياراتها المتلاحقة للمؤسسة الإسرائيلية خلال هذه الحرب، وكأنها جاءت لتقول لأهل الأرض: نحن هنا في تل – أبيب كما أننا هنا في واشنطن، ونحن هنا نرافق المؤسسة الإسرائيلية في مسيرتها خلال الحرب على غزة، كما نحن هنا نرافق المؤسسة الأمريكية في كل الولايات الأمريكية، وكأن في ذلك التأكيد أن مصير المؤسسة الإسرائيلية هو جزء من مصير المؤسسة الأمريكية، ليس من منظار سياسي، بل من منظار ديني، يقوم على معتقدات حركة الصهيونية المسيحية، التي أحكمت قبضتها على قرارات البيت الأبيض المتعلقة بالأمة الإسلامية والعالم العربي والشعب الفلسطيني.
ولذلك فإنَّ حرص هذه الحركة لا يقف عند حد إلصاق تهمة الإرهاب بالمشهد الفلسطيني ولا عند حد إلصاق هذه التهمة بمدارس الصحوة الإسلامية المعاصرة، بل إن هذه الحركة تعتبر أن كل الحاضر الإسلامي العربي الفلسطيني هو مزرعة إرهاب عالمية، ولا يمكن القضاء على هذا الإرهاب إلا بتفتيت هذه المزرعة العالمية إلى ضيعات صغيرة متنافرة ومتناحرة، ولا يجمع بينها إلا الصراع العرقي أو المذهبي مما يدفعها أن تصرف كل وقتها وكل قدراتها على هذه الصراعات الداخلية بلا نهاية!!
وكشاهد على ذلك هذا الدكتور محمد السماك وخلال حوار في برنامج (بلا حدود) الذي يديره الإعلامي اللامع احمد منصور، يقول في هذا الحوار بتاريخ 25 كانون الأول/ ديسمبر 2002 نقلا عن مجلة (إجونيم): (ان العالم العربي والإسلامي من باكستان حتى المغرب سيبقى مصدرا للمشاكل في العالم، لأنّ الخريطة السياسية فيه لا تراعي التنوع المذهبي والطائفي، لذلك فانه لكي يستقر العالم وتنتهي مشاكله، يجب إعادة النظر في الخريطة السياسية لهذه المنطقة، بحيث يكون لكل مجموعة دينية أو عرقية أو مذهبية كيان خاص بها)!!
وهذا يعني أن التعديل القهري الذي يريد ترامب أن يفرضه على غزة وشعبها لا يقف عند غزة فقط، بل هو مخطط يسعى إلى فرض تعديل قهري عالمي على الحاضر الإسلامي العربي الفلسطيني، بدافع رؤية دينية تحددها حركة الصهيونية المسيحية ذات النفوذ المقرر في البيت الأبيض.
8. لكل ذلك استطيع أن أقول إنّ ما يقع على غزة الآن، وما يتوعد به ترامب غزة الآن وما يقع على الضفة الغربية الآن، ليس مجرد برنامج سياسي للحزب الجمهوري الأمريكي ولا مجرد هلوسات شخصية لترامب، بل هو حرب دينية تقف من ورائها حركة الصهيونية المسيحية، ويواصل تنفيذها البيت الأبيض، الذي كان ولا يزال يسعى طوال الوقت أن يفرض على المؤسسة الإسرائيلية دورا وظيفيا في هذه الحرب الدينية طمعا من حركة الصهيونية المسيحية أن تعجل هذه الحرب الدينية بمعركة هار مجدون وكل توابع هذه المعركة وفق معتقدات هذه الحركة.