أخبار عاجلةمقالاتومضات

كن أنت ذلك الواحد

الشيخ كمال خطيب

للذين لا يقرأون التاريخ
ما أكثرها آيات القرآن الكريم تلفت انتباهنا وتذكرنا وفي أحيان كثيرة تذهلنا لعظيم ما فيها من عظات. إنها الآيات التي تحدثنا أن القوي لا يظل قويًا إلى الأبد ولا الضعيف يظل ضعيفًا إلى الأبد، ولا العزيز يظل عزيزًا ولا الذليل يظل ذليلًا {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} آية 26 آل عمران. {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ۖ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} آية 15 سورة فصلت. {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} آية 6-14 سورة الفجر.

ولقد قال ابن الجوزي في كتابه صيد الخاطر: اعلم أن الزمان لا يثبت على حال كما قال عز وجل: {وَتِلْكَ ٱلْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ} آية 140 سورة آل عمران. ومع أن آيات القرآن الكريم تعج وتزدحم بهذه الآيات تذكر الناس بقانون الله في إقبال الأمم وإدبارها، قوتها وضعفها، عزّها وذلّها، إلا أن كثيرين يظنون أن هذا القانون الرباني يمكن أن يقع على كل الناس وكل الأمم إلا هم بمنأى عن هذا القانون، وهذا هو الغباء، بل الاستكبار بعينه.

فللذين لا يريدون قراءة التاريخ منه يعرفون أن الظروف قد تتغير، ربما تكون اليوم قويًا ولكن قد يكون من هو أقوى منك، فلا تقلل من شأن أحد. لهؤلاء أن يتمعنوا في الطيور وهي تأكل النمل تلتقطه بمنقارها الواحدة تلو الأخرى، وإذا بها عندما تُجرح أو يُكسر جناحها ولا تستطيع الطيران وإذا بالنمل يهاجمها فيأكلها فلا تستطيع الدفاع عن نفسها. وما أصدق ما قال الشاعر:
رأيت الدهر مختلفًا يدور فلا حزن يدوم ولا سرور
وقد بنت الملوك به قصورًا فلم تبق الملوك ولا القصور

فما أغباهم أولئك الذين لا يقرؤون التاريخ ولا يتّعظون، وإذا بدورة الأيام والزمان تدور عليهم ليدركوا أن القوي لن يظل قويًا إلى الأبد ولا الضعيف يظل ضعيفًا إلى الأبد، وأن حجرًا من مقلاع داوود الصغير كان كافيًا لإهلاك جالوت الكبير والقوي. وكم من الأمم من فيها داوود يرفع شأنها، وكم من الأمم من فيها جالوت تغره قوته وإذا به يسقط ويتمرغ أنفه بالتراب والوحل.

كن أنت ذاك الواحد
يقول الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: “إن الأمة الخاملة صف من الأصفار حتى إذا بعث الله لها واحدًا مؤمنًا صادق الإيمان داعيًا إلى الله، صار صف الأصفار الثلاثة مع الواحد ألفًا، وصار صف الأصفار الأربعة مع الواحد عشرة آلاف، وصار صف الأصفار الخمسة مع الواحد مئة ألف، وصار صف الأصفار الستة مع الواحد مليونًا، وصار صف الأصفار السبعة مع الواحد عشرة ملايين، وصار الأصفار الثمانية مع الواحد مئة مليون.

وسئل الخوارزمي عالم الرياضيات الشهير عن الإنسان، فقال:
إذا كان الإنسان ذا دين وأخلاق فهو يساوي الرقم واحد.
وإذا كان ذا جمال، فأضف إلى الواحد صفرًا فيساوي “10” عشرة.
وإذا كان ذا مال، فأضف صفرًا آخر فيصبح يساوي “100” مائة.
وإذا كان ذا حسب ونسب، فأضف صفرًا آخر فيصبح يساوي “1000” ألفًا.
فإذا ذهب العدد واحد وهو الأخلاق والدين ذهبت قيمة الإنسان وبقي مجرد أصفار لا قيمة لها.

إنه ذلك الواحد الذي يجعل للأصفار الكثيرة قيمة ومعنى إذا أضيف إليها، وإنه ذلك الواحد الذي إذا نُزع من بين الأصفار الكثيرة يجعلها بلا قيمة ولا معنى.

إنه الإنسان الواحد صاحب الرسالة كإبراهيم عليه السلام، يقول يومًا لزوجته سارة: “يا سارة ما على الأرض مؤمنًا إلا أنا وأنت” لكأنه يقول لها إن مهمة تحويل أهل الأرض إلى مؤمنين ودعوة الناس لرب العالمين مهمتنا ووظيفتنا، ولا بد أن ننجح بها وقد نجح، ليصبح إبراهيم عليه السلام ليس رمزًا للواحد أضيف إلى أصفار وإنما رمزًا للتوحيد، قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} آية 120 سورة النحل. أي إنه وكما قال المفسرون كان أمة وحده.

إنه الإنسان الواحد جاء من أقصى المدينة يسعى يدعو الناس لرب العالمين {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} آية 20 سورة يس. إنه رجل واحد آمن بعقيدة وسخّر نفسه لدعوة الناس إليها، ولكنه كان يعدل أمة، لقد حول الأصفار إلى أمة.

إنه الرجل الواحد صاحب المبادرة قال عنه عبد الوهاب عزام رحمه الله: “إرفع للحق راية وسيلتف حولك أخيار كثر”. إنه ذلك الرجل الذي يبادر ولا يتردد فيرفع صوته بالحق راية ورفع صوت الحق ويسبح بعكس التيار ليجد كثيرين من كانوا مجرد أصفار لكنهم كانوا بانتظار من يبادر ومن يتصدر الصفوف، قد استجابوا له وأصبح الواحد عشرة ومئة وألفًا بل دعوة بل أمة فكن أنت ذلك الواحد.
كن أنت ذلك الواحد المغناطيس الذي بحسن أخلاقه وحسن أدبه وحسن تطبيقه تعاليم دينه، فإنه يجذب أصفارًا كثيرة إليه لم تكن ذات قيمة، ولكنها بتجمعها حوله وعن يمينه فإنه يتحول إلى قوة هادرة وطاقة خارقة.

فإذا كان الواحد صاحب الخلق والدين والدعوة هكذا يصنع بالأصفار إذا أضيف إليها، فإن الأمة الكبيرة والعظيمة إذا انتزع منها الواحد الذي هو الخلق والدين فإنها تعود مجرد أصفار، بل إنها تذهب وتندثر وتمحى كما قال أحمد شوقي:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فكن أنت ذلك الواحد الذي يضاف إلى الأصفار، ولا تكن ذلك الواحد الذي ينتزع منه.

أعوان الظلمة كلاب جهنم
كان من أشهر من أدّوا دور الواحد الذي أضيف إلى جانب أصفار كثيرة فحوّلها إلى رقم صعب وقوة ذات تأثير، ومن رفع للخير وللحق راية فالتف حولها أخيار كثر، والمغناطيس الذي جذب إليه عناصر الخير كانت خاملة هو الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة والذي استحق أن يقال في التاريخ عنه: نصر الله الإسلام بأبي بكر يوم الردة وبالإمام أحمد يوم الفتنة.

بينما كان أحمد بن حنبل رحمه الله قابعًا في زنزانته يقضي حكمًا ظالمًا وقع عليه بسبب موقفه في فتنة خلق القرآن لما زعم علماء كثر ووافقهم الخليفة العباسي أن القرآن كتاب الله مخلوق، بينما كان الإمام أحمد وحيدًا في معارضته لمقولة الخليفة مؤكدًا أن القرآن الكريم كلام الله، ولما أن الله تعالى ليس مخلوقًا فإن كلامه كذلك ليس مخلوقًا.

وقف الإمام أحمد واحدًا ووحيدًا، وسُجن ولم يتراجع، وجُلد ولم يتراجع، فبينما هو في زنزانته فكان أن رفع صوته بالقول: “إن أعوان الظلمة كلاب جهنم”. سمعه حارس زنزانته، فقال له: يا إمام هل أنا من أعوان الظلمة؟ فقال له الإمام أحمد: لا، أنت لست من أعوان الظلمة، إنما أعوان الظلمة هم من يخيّطون لك ثوبك ومن يطهون لك طعامك، ومن يساعدك في كذا وكذا أما أنت فمن الظلمة أنفسهم.

فإذا كان هذا السجان ولمجرد أن مهمته هي إبقاء الإمام أحمد في الزنزانة ومنعه من الخروج منها قد جعلته من الظلمة الذين هم ولسوء فعلهم وصنيعهم والدور القذر الذي يقومون به، فإنهم سيكونون كلاب جهنم وفق وصف الإمام أحمد، فماذا سيكون إذن ذاك الذي يحمل سلاحه ويقاتل المسلمين ويقتلهم عبر قبوله، بل ومبادرته ليكون جنديًا في جيوش وأجهزة أمنية لدول وأنظمة تحارب المسلمين وتقتلهم رجالًا ونساء وأطفالًا؟ وإذا كان هذا الشخص الذي يقدم دعمًا عسكريًا قد أصبح يحمل وصف ورتبة كلب جهنم، فإنه لا يختلف عنه ذاك الذي يدعم سياسيًا وحزبيًا من يقتلون المسلمين ويشردونهم لأنه بدعمه لهم وإسناده لهم فإنه يمكنهم من قيادة المنظومة السياسية التي تتحكم بالمنظومة العسكرية وتصدر لها الأوامر فتقتل وتشرد وتنتهك حرمات المسلمين. إنه لا يُقبل من هؤلاء عذر وتبرير إنهم مجبرون أو إنهم يريدون درء المفاسد أو تحقيق مصالح لأحزابهم أو دولهم. فأي مفسدة أعظم من سفك دم مسلم، وأي مصلحة يمكن أن تكون إذا كان ثمنها دم مسلم أو عرض مسلمة؟. نعم إن أعوان الظلمة هم كلاب جهنم كما وصفهم إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.

ثق بربك
إنها الثقة بالله تعالى تجلت فيها هاجر زوج إبراهيم عليه السلام وقد تركها في واد غير ذي زرع وصحراء قاحلة وشمس ملتهبة ومعها طفلها إسماعيل، وليس معها زاد إلا قربة ماء وجراب تمر، فلما أدار ظهره سألته: يا إبراهيم لمن تركتنا؟ وأرادت بهذا السؤال أن تطمئن أن ما فعله زوجها هو أمر إلهي لأنه يتنافى مع سلوك الإنسان الطبيعي، فلما سمعت أنه كذلك قالت كلمتها الخالدة: “إذن لن يضيعنا”. إن ثقتها بربها قد جعلها وهي التي لا تملك إلا قربة ماء أن تجري تحت قدمي صغيرها بئر ماء زمزم ما زالت تسقي الناس من يومها إلى يومنا هذا وإلى أن يشاء الله غير ذلك.

إنها الثقة بالله تجلّت في أصحاب رسول الله ﷺ يوم أحد {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} آية 123 سورة آل عمران. إن ثقتهم بالله جعلتهم ينظرون إلى إمكانياتهم المادية وإن كانت أقل من إمكانيات أعدائهم إلا أنها كفيلة بإذن الله بقلب الموازين {فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} آية 174 سورة آل عمران.

إنها الثقة بالله تجلّت بإيمان أم موسى لما وضعته في صندوق الخشب وألقته في الماء امتثالًا لأمر الله تعالى {وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} آية 7 سورة القصص. إن الثقة بالله جعلت موسى يجوع وصراخه يملأ القصر ولا يقبل أي مرضع عرضت عليه، وأصبح الكل مشغولًا به امرأة العزيز، الحرس، المراضع وكل ذلك لأجل قلب امرأة من خلف النهر تتلهف مشتاقة لرضيعها، فكان لطف الله بها وبابنها لما وثقت به {فَرَدَدْنَاهُ إِلَىٰ أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} آية 13 سورة القصص.

إنها الثقة بالله رب العالمين جعلت موسى وهو يسير ليلًا متجهًا إلى النار يلتمس شهابًا قبسًا فلم يدر بخلده ولم يخطر بباله أنه يسمع صوت رب العالمين ونور السماوات والأرض. فمن سار يحمل قبسًا ينير له الطريق وإذا بالنور الرباني يتجلّى كله بين يديه.

إنها الثقة بالله تعالى جعلت نوحًا الذي دعا ربه {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ} وإذا به لم يخطر بباله أن الله سيغرق البشرية كلها لينجده هو ومن كانوا معه في السفينة.

وإنها الثقة بالله تعالى ولما أن اشتدت الهموم على رسول الله ﷺ، وما أن رفع يديه إلى السماء يقول: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي، وإذا بربه سبحانه يرفعه إليه في السماء ويريه من آياته الكبرى، وليصل إلى حيث لم يصل نبيّ مرسل ولا ملك مقرّب تطمينًا له وتثبيتًا لقلبه ﷺ.

وإنه يوسف عليه السلام لم يخرجه الله من السجن بجيش اقتحم السجن ودك حصونه وصدع جدرانه، ولا بصاعقة خلعت باب السجن، وإنما أخرجه الله برؤيا جعلها الله تتسلل إلى رأس الملك وهو نائم ليستيقظ على وقعها فيسأل من يؤولها، فلم يكن إلا يوسف عليه السلام.

فثق بربك وكن أنت ذاك الواحد وكن فارس أحلام دينك وأمتك.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.

رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة.
والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى