أخبار رئيسيةمقالاتومضات

قراءة مؤقتة في قرار محكمة العدل الدولية المؤقت

الشيخ رائد صلاح

حبس العالم أنفاسه منذ ساعات صباح يوم الجمعة الموافق 26.1.2024، إذ كان الجميع ينتظرون قرار محكمة العدل الدولية في الدعوى التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا ضد المؤسسة الإسرائيلية ومواصلة حربها على غزة، وكان واضحًا لأهل الأرض أن دولة جنوب أفريقيا طالبت في سياق هذه الدعوى بإلزام المؤسسة الإسرائيلية بوقف إطلاق النار على اعتبار أنها ترتكب إبادة جماعية في غزة، فصدر القرار المؤقت في هذه الدعوى عن محكمة العدل الدولية، وقد اجتهدتُ أن أتابع ردود فعل الجميع على هذا القرار، وبناءً عليه أدون هذه الملاحظات:

1. ما صدر عن محكمة العدل الدولية والتي مقرها في لاهاي يوم الجمعة الموافق 26.1.2024، كان قرارًا مبدئيًا مؤقتًا، وهذا يعني أن هذه المحكمة ستواصل النظر في دعوى دولة جنوب أفريقيا، وستواصل النظر في الأدلة التي أرفقتها دولة جنوب أفريقيا بدعواها ضد المؤسسة الإسرائيلية.

2. من ضمن التعقيبات التي صرّحت بها دولة جنوب أفريقيا بعد صدور هذا القرار المبدئي المؤقت أن دولًا كثيرة اتصلت بها وقررت أن تنضم إلى هذه الدعوى، وهذا يعني أن هذه الدعوى لن تبقى دعوى دولة جنوب أفريقيا فقط، بل ستصبح دعوى قائمة من الدول التي سنتعرف على أسمائها في الأيام القادمة القريبة، ولا أدري كم سيكون عدد الدول العربية والمسلمة في هذه القائمة.

3. لا أدري هل ستنضم بعض دول التطبيع العربية التي انحازت إلى اتفاقية (أبراهم) أم ستجد نفسها مُلزمة بالدوران مع محور اتفاقية (أبراهم) حتى النهاية، ولو كلفها ذلك أن تُصادم ضمير شعوبها الذي لا يمكن أن يسلخ نفسه عن الامتداد الإسلامي العروبي، هذا الامتداد الذي يجعل القضية الفلسطينية هي أم القضايا والذي يجعل قضية القدس والمسجد الأقصى المباركين تاج كل القضايا.

4. صدر هذا القرار المبدئي المؤقت عن محكمة العدل الدولية بأغلبية ساحقة، وهذا يعني أنه كان هناك شبه إجماع بين قضاة محكمة العدل الدولية على هذا القرار، وهذا يعني أن دعوى دولة جنوب أفريقيا وأدلتها ومطالبها كانت واضحة كوضوح الشمس ليس دونها سحاب، وهذا يعني أنها شكلّت قناعات في ضمائر قضاة هذه المحكمة، وكانت أبعد ما يكون عن الغموض، وعن احتمال الظن، وعن قابلية تأويلها في أكثر من اتجاه، ولو كانت غامضة أو تقبل الظن والتأويل في أكثر من إتجاه لما كانت هذه الأغلبية الساحقة من قضاة محكمة العدل الدولية التي صادقت على هذا القرار المبدئي المؤقت، وهذا يعني أن محكمة العدل الدولية باتت ملزمة بالإعلان عن قرارها الأخير بعد بُرهة من الزمن بما يتوافق مع روح هذا القرار المبدئي المؤقت، إلا إذا تعرضت لضغوط بأساليب شتى قد تضع كل واحد من قضاتها في موقف مُحرج أو موقف غامض أو موقف مصيري، وهذا يعني أن محكمة العدل الدولية أصبحت في امتحان صعب، لم تقع فيه إطلاقًا منذ تاريخ تأسيسها، على الرغم من القضايا المعضلة التي حكمت فيها.

5. صدور القرار المبدئي المؤقت عن محكمة العدل الدولية في دعوى دولة جنوب أفريقيا يعني أن هذه المحكمة لم ترفض مبدئيًا ما استندت إليه دولة جنوب أفريقيا من أدلة في دعواها، بل اعتبرت أن هذه الأدلة أدلة معتبرة قانونيًا، وتستحق النظر فيها، ثم وزنها جيدًا بميزان القوانين الدولية التي تحكم محكمة العدل الدولية، ثم إصدار الحكم الأخير في هذه الأدلة، وهذا يعني أن هذه الأدلة التي تقدمت بها دولة جنوب أفريقيا هي ذات وزن قانوني لدى محكمة العدل الدولية، ويبقى السؤال الذي تطرحه الآن محكمة العدل الدولية على نفسها : ما مدى حجم الإدانة التي ستحكم بها على المؤسسة الإسرائيلية بناءً على هذه الأدلة.

6. صدور القرار المبدئي المؤقت عن محكمة العدل الدولية في دعوى دولة جنوب أفريقيا يعني رفض طلب المؤسسة الإسرائيلية بإلغاء هذه الدعوى، وهذا يعني أن الأدلة التي استندت إليها المؤسسة الإسرائيلية في طلبها لإلغاء هذه الدعوى لم ترق في ميزان قضاة محكمة العدل الدولية إلى مستوى يصدّق رفض دعوى دولة جنوب أفريقيا، وهذا ما يستنتجه كل عاقل، بل إن كل عاقل يستنتج أن محكمة العدل الدولية عندما رفضت طلب المؤسسة الإسرائيلية بإلغاء هذه الدعوى، فهذا يعني أن محكمة العدل الدولية تقول ما بين سطور هذا الرفض أنه لا دولة في الأرض فوق القانون، ولا رئيس ولا ملك ولا أمير ولا وزير ولا مشير ولا خفير فوق القانون، والكل محكوم بهذا القانون، سواء كان حاكم دولة عظمى أو صغرى، وسواء كان وزير دفاع أو وزير خارجية، وسواء كان رئيس جهاز مخابرات أو رئيس منتدى اقتصادي، وسواء كان أسود أو أبيض أو أحمر أو أصفر، وسواء كان حلف الناتو أو العالم الثالث أو دول عدم الانحياز، وبغض النظر عن نسبه وحسبه ودينه وقوميته ولغته وبطاقة شخصيته وجواز سفره، وبغض النظر عن علم الدولة التي ينتمي إليها وعن القارة التي تنتمي إليها دولته!!، فهل ستبقى محكمة العدل الدولية متمسكة بهذا الأساس الذي إن ضاع ضاع العدل، وإن ضاع العدل ضاعت محكمة العدل الدولية، وإن ضاعت محكمة العدل الدولية ضاع مجلس الأمن الدولي، وإن ضاع مجلس الأمن الدولي ضاعت هيئة الأمم المتحدة، هل ستبقى محكمة العدل الدولية مُتمسكة بهذا الأساس أم ستكون الضغوط الملونة ذات الأساليب الملونة التي ستُمارس عليها قد تكون أقوى من صمودها وتمسكها بهذا الأساس؟!، هذا يعني أن محكمة العدل الدولية يوم أن تصدر قرارها الأخير في دعوى دولة جنوب أفريقيا فإنها تصدر قرارًا يُحدد مصيرها، وشرعية وجودها، ومصداقية مستقبلها، قبل أن يُحدد قرارها مصير الكارثة الإنسانية في غزة.

7. صدور هذا القرار المبدئي المؤقت عن محكمة العدل الدولية فرض على الجميع امتحانًا سياسيًا أخلاقيًا، لأنه لم يكن مُجرد قرار يُعبر عن تعاطفه مع الضحايا الأطفال من غزة، ومع الأيتام الأطفال الذين ظلوا على قيد الحياة حتى الآن في غزة، ومع المُصابين المرضى الذين هم بعشرات الآلاف في غزة، ومع الضحايا من النساء أو الأرامل أو المُشردات التي هن بمئات الآلاف في غزة، ومع المحرومين من الغذاء والماء والدواء والوقود في غزة، بل إن القرار المبدئي المؤقت الصادر عن محكمة العدل الدولية دعا المؤسسة الإسرائيلية لاتخاذ كافة التدابير لمنع إيقاع إبادة جماعية في غزة، ودعاها لإتخاذ الإجراءات لمنع التحريض على الإبادة الجماعية في غزة، وهذا يعني أن هذا القرار المبدئي المؤقت ليس أجوفًا، بل يتضمن هذين البندين، ويتضمن بندًا ثالثًا يُطالب المؤسسة الإسرائيلية بتقديم تقارير حول الإجراءات التي ستتخذها على أرض الواقع لتنفيذ البندين السابقين، الأمر الذي دفع “غوتيرش” الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة لإحالة هذا القرار المبدئي المؤقت الصادر عن محكمة العدل الدولية إلى مجلس الأمن الدولي، لضمان تنفيذ هذا القرار وما يحمل من بنود، وهذا يعني أن هناك بنود واضحة يجب أن ترعى تنفيذها هيئة الأمم المتحدة، فهل ستكون هذه الهيئة عند حد مسؤولياتها أم سيصدق عليها قول القائل : لقد خرجت للتقاعد، وتحولت إلى بيت للمسنين، وانتهى تاريخ صلاحية دورها؟!.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى