أخبار رئيسيةمقالات

المجد والخلود للشهود الشهداء

الشيخ رائد صلاح

هو بيت العزاء الذي لا يزال يستقبل وفود المُعزين بمقتل الشهود الشهداء من شعبنا الفلسطيني، ومن هم هؤلاء الشهود الشهداء؟!، هم فرسان الإعلام من شعبنا الفلسطيني، وهم من أسرة فرسان إعلام مُتعددة التخصصات، ففيهم المُصور، وفيهم المُراسل، وفيهم المُعلق، وفيهم المُنتج، وفيهم المُخرج، وفيهم مُهندس الصوت، وفيهم مُهندس الإضاءة، وفيهم مُهندس الديكور، وكلهم طوّعوا كل تخصصاتهم في هذه الأسرة للبحث عن الحقيقة كما هي بلا وكس ولا شطط، ثم توثيقها، ثم كشفها لكل أهل الأرض!!

وقد أدرك أبناء هذه الأسرة البررة البارين بالحقيقة أن مهمتهم خطيرة جدًا، وقد تُكلف أحدهم أن يدفع دماءه وروحه خلال أداء هذه المهمة المُحاصرة بقصف الطائرات وقذائف المدافع وأزيز الرصاص، في كل مرة يحملون فيها كاميراتهم ويتسللون بخطاهم الحذرة كخُطا القطا وسط رائحة الموت ودُخان الأسلحة الفتاكة وغُبار الاقتحامات، وفي كل مرة يغوصون فيها تحت رُكب أقدامهم بين دمار البيوت التي كانت شاهقة كالجبال قبل ثوان ثم تحولت إلى أنقاض حجارة، وفي كل مرة يتنقلون فيها مُكرهين بين جثة بلا روح وجثة جريح مُضرج الدماء، وجثة تأن تحت الأنقاض وجثة مُقطعة الأطراف، وفي كل مرة يتصبرون فيها وهم يوثقون صرخة أرملة ودمعة يتيم واستغاثة رضيع ولوعة ثكالى وحسرة نازحين وأنين جائعين وأوجاع عطاشى ورجفة غارقين في برد ليل زمهرير، وفي كل مرة يصطادون فيها ابتسامة على شفاه المُعذبين، ورنة فرح من حناجر المُحاصرين وعذوبة دعاء من شيوخ إشتعلت رؤوسهم ولحاهم شيبًا.

ومع رحابة وعمق هذا المُحيط الإنساني الهادر المُتلاطم بأمواج المشاعر والفواجع والكوارث في المسيرة الفلسطينية إلا أن أفراد هذه الأسرة لا يزالون على العهد الذي قطعوه مع أنفسهم وهو البحث عن الحقيقة ثم توثيقها ثم كشفها لكل أهل الأرض حتى تكون حجة على ضمائرهم بعامة، وحجة بخاصة على هيئة الأمم المُتحدة وتوابعها وعلى الجامعة العربية ومُنظمة التعاون الإسلامي وعلى سائر المُنظمات الأممية التي صدّعت رؤوسنا وهي تتحدث لنا عن حقوق الإنسان وحق تقرير المصير والرفق بالحيوان وجودة البيئة ومُحاربة الفقر والجهل والأوبئة والرحمة بالطفولة والأمومة…

وكم كانت الكارثة الإنسانية في غزة ستبقى طي الكتمان لولا هذه الأسرة من فُرسان الإعلام من شعبنا الفلسطيني، فهي الأسرة التي صرخة من بيت حانون وجباليا ورفح وخانيونس والشجاعية ومن كل مستشفيات غزة ومن حول دمار كل المساجد والكنائس والمدارس المقصوفة، ومن وسط حجارة كل الأحياء السكنية المُدمرة.

ثم صاحت من قحف قلبها والموت يرقُبها في كل ثانية: يا أهل الأرض جميعًا !! اسمعوا وعوا وشاهدوا ما ننقله لكم بالبث المباشر عن الكارثة الإنسانية في غزة!!، وعن كارثة قتل الأجنة والرّضع والخُدّج والأطفال فيها!!، وعن كارثة منع الغذاء والماء والدواء والكهرباء والوقود وحليب الأطفال عنها!!، وعن رجمها بكل أصناف الصواريخ والقنابل المُدمرة التي باتت تُساوي ما قال الخبير العسكري فايز الدويري أربعة أضعاف ما ألقته أمريكا على ناغازاكي في الحرب العالمية الثانية!!، ومن يدري لولا هذا التوثيق الحافظ للحقيقة الذي قام به أفراد هذه الأسرة الإعلامية من شعبنا الفلسطيني لتحول آلاف الأطفال من ضحايا هذه الكارثة الإنسانية في غزة إلى مُتهمين بالإرهاب، ولتحولت آلاف النساء الضحايا العُزّل إلى مُدانات غيابيًا بالاعتداء على الآخر، ولتحولت قوافل الجنائز والتوابيت في شوارع غزة إلى مسيرات خارجة عن القانون، ولتحولت صرخات المرضى والمُصابين في أهلهم والجياع إلى هُتافات تحريض وبث للكراهية ولتحول دور الأطباء والطبيبات والمُمرضين والمُمرضات في مُستشفيات غزة إلى داعمين للإرهاب!!

ومن يدري لولا هذا التوثيق الدقيق المنهجي الذي بات حُجة على كل أهل الأرض لتم إلحاق الكارثة الإنسانية في غزة بقائمة قوافل الكوارث الإنسانية في كل من دير ياسين وقبيا والطنطورة وكفرقاسم وصبرا وشاتيلا وتل الزعتر، وبقية مُسميات هذه القائمة من الكوارث التي وقعت بالأمس القريب من عمر البشرية ومع ذلك نسمع عنها ولا نراها.

بل نجد من يُنكرها اليوم ويتهم راويها بالكذب، بل بات هناك خطر المُلاحقة القانونية لمن يجرأ على الكلام ويتحدث عن كوارث هذه القائمة، وكأن الذي يُنكر الهولوكوست الذي وقع على الشعب اليهودي والذي يتحدث عن كوارث الهولوكوست الذي وقع على الشعب الفلسطيني كلاهما مُدان!!، وكلاهُما مُتهم باللاسامية!!، وكلاهُما مُطارد قانونيًا!!، وكلاهُما عرضة للاعتقال والمُحاكمة والزج به في غيابة السجن بضع سنين!!

إلا أن أفراد هذه الأسرة الإعلامية من شعبنا الفلسطيني أحبطوا سلفًا مُحاولات إعدام الحقيقة ومحاولات خلط الأوراق وتحويل البريء إلى مُتهم والمُتهم إلى بريء، ومُحاولات كي الوعي وخنق أنفاس الناس وكسر أقلامهم والحجر على عقولهم وقطع ألسنتهم وحرمانهم من النطق ولو بكلمة حق في وجه مُقاولي ومُنفذي جرائم الحرب ضد الإنسانية!!، ولذلك فإن كل عاقل منا يُدرك اليوم أن رد فعل أهل الأرض اليوم على الكارثة الإنسانية في غزة يختلف عن رد فعلهم بالأمس على نكبة فلسطين بفضل أفراد هذه الأسرة الإعلامية من شعبنا الفلسطيني!!، فبالأمس وقعت نكبة فلسطين وكان ما كان فيها من كوارث إنسانية وتهجير وتدمير لأكثر من خمسمائة بلدة فلسطينية ما بين قرية ومدينة، إلا أن أهل الأرض ظلوا صامتين لأن تلك النكبة كانت في واد وأهل الأرض كانوا في واد آخر، وكأنها وقعت سرًا بليل دون أن يراها أحد من أهل الأرض، أو كأنها لم تقع أصلًا وما كان هناك شيء اسمه نكبة فلسطين، وكأن من يدّعي وقوع نكبة فلسطين هو كاذب مُضلل!!

وفي المقابل ها هي الكرة الأرضية تضج عن بِكرة أبيها اليوم، وها هم أهلها يخرجون عن صمتهم في كل قاراتها، وها هم يُنظمون المُظاهرات المليونية أو أقل من ذلك ويجوبون الشوارع ويقرعون أبواب كل مجالس البرلمانات في كل الدُنيا وهم يصرخون: أوقفوا الحرب في غزة!!، لا للكارثة الإنسانية في غزة !!، لا للتنادي بإبادة شعب في غزة!!، لا للتنادي بتهجير غزة!!، وما كان ذلك ليكون لولا دور أفراد هذه الأسرة الإعلامية من شعبنا الفلسطيني!!، ولذلك بات من الواضح أن كل من يكره الحقيقة بات يكرهُ أفراد هذه الأسرة الإعلامية الفلسطينية، وكل من يخاف من الحقيقة بات يخاف من أفراد هذه الأسرة!!

وكل من يُصر على إعدام الحقيقة بات يُصر على إعدام أفراد هذه الأسرة فردًا بعد فرد بلا توقف وعن سبق إصرار!!، ولذلك كان قتل أيقونة الإعلام الفلسطيني شيرين أبو عاقلة على أبواب مدينة جنين، ثم كان قتل تسعين أيقونة من أيقونات الإعلام الفلسطيني الذين أصروا على توثيق الكارثة الإنسانية في غزة مهما كان الثمن، وكان من ضمنهم أيقونة المُصورين الفلسطينيين سامر أبو دقة، ثم لحق بهم وانضم إلى ركبهم أيقونة المُعلقين الفلسطينيين عبد الله علوان، وهكذا كان ولا يزال بيت عزاء أسرة الإعلاميين الفلسطينيين مفتوحًا لا يُغلق!!، وها هو لا يزال يودع شاهدًا شهيدًا من هذه الأسرة الإعلامية الفلسطينية، ويستقبل شاهدًا شهيدًا آخر بلا توقف حتى لحظات كتابة هذه السطور.

فالمجد والخلود لكل أفراد هذه الأسرة الإعلامية الفلسطينية رجالًا ونساءً، ولكل شهودها الشهداء رجالًا ونساءً، حتى طلوع صباح الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس المُباركة المُحتلة بقيمها الإسلامية العروبية الفلسطينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى