أخبار رئيسيةمقالات

اقطعوا النَفَسْ

الشيخ رائد صلاح

(اقطعوا النَفَسْ) هي جملة كان يقولها لنا بعض المعلمين عندما كُنا في مرحلة الابتدائية، وقد استخدم أولئك المعلمون تلك الجملة تأكيدًا منهم أن نحافظ على الصمت في الصف، صمتًا مُطبقًا لا كلام فيه، ولا همس، ولا غمز، حتى لو احتاج الأمر أن نتوقف عن التنفس، لأن دورة الزفير والشهيق في حركة التنفس قد تُصدر صوتًا خافتًا يُزعج أولئك المعلمين ويُعكر عليهم أجواء الهدوء المطلوبة لنجاح الدرس ونجاح مهمة المعلمين في رسالة التربية والتعليم.

ثم تحولت جملة (اقطعوا النَفَسْ) إلى نهج تعامل أولئك المعلمين معنا، فكم من طالب تعرض لعقوبة (الفلقة) أي ضربة بالعصا على يديه أو على قفاه لأنه شذّ عن جملة: (اقطعوا النَفَسْ)، وكم من طالب تعرض لعقوبة الوقوف الصامت على قدميه في (بيت درج المدرسة) لأنه حاد عن خط السلوك الذي رسمته هذه الجملة (اقطعوا النَفَسْ)، وكم من طالب غمرته جمل التوبيخ القاسية وقيل له (يا حمار) أو (يا جحش) أو (يا تيس) لأنه غفل لثوان معدودات عن حُرمة هذه الجملة: (اقطعوا النَفَسْ).

وها نحن في أواخر عام 2023، وكأني ببعض أذرع المؤسسة الإسرائيلية قد تبنت هذه الجملة: (اقطعوا النَفَسْ) كنهج تعامل معنا في الداخل الفلسطيني، مُصرّة عن سبق إصرار على فرض صمت مُطبق علينا كصمت أهل القبور، وكأن المطلوب منا أن نعيش خارج الزمان وخارج الأحداث، وكأن المطلوب منا أن نعيش بلا ضمائر ولا أحاسيس ولا مشاعر ولا انتماء ولا انسانية!!، وكأن لسان حال هذه الأذرع الموصولة بالمؤسسة الإسرائيلية بات يقول للجنة المتابعة العليا: (اقطعوا النَفَسْ).

وكأن لسان حالها بات يقول لكل حركاتنا السياسية في الداخل الفلسطيني: (اقطعوا النَفَسْ). وكأن لسان حالها بات يقول لأعضاء الكنيست العرب ولرؤساء السُلطات المحلية العربية: (اقطعوا النَفَسْ).

وكأنَّ لسان حالها بات يقول لكل جماهيرنا في الداخل الفلسطيني: (اقطعوا النَفَسْ)، سواء كانت هذه الجماهير خطباء جمعة في المساجد، أو طلابًا في الجامعات أو عاملين في المستشفيات، أو عاملين في مصادر رزق شتى، أو هواة مواقع تواصل، أو العاملين في عالم الفن والتمثيل والغناء!!

وهكذا بتنا كلنا مُطاردين بعصا: (اقطعوا النَفَسْ)، وكأن المطلوب اليوم أن يقول الواحد منا للآخر: (لا تنطقوا إن الجدار له أذن)، أو أن يقول مستبيحًا مسخ أمثالنا الحكيمة: (إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب)، أو أن يقول مهزومًا منبطحًا كحمر مستنفرة فرت من قسورة: (ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوّم)، وإلا فمن يخرج عن هذه الأصول، ومن يتجاوز هذه الحدود، ومن يتحدى هذه العصا (اقطعوا النَفَسْ)، فسيجد نفسه عرضة للفصل من عمله، أو عرضة لطرده من الجامعة، أو عرضة لاقتحام بيته وتفتيشه، أو عرضة لاستدعائه للتحقيق، أو عرضة لاعتقاله، أو عرضة لفرض حبس منزلي عليه، أو عرضة لتوقيفه في السجن حتى صدور الحكم الأخير عليه والذي قد يصدر بعد أشهر أو بعد سنة أو أكثر.

أو عرضة لأساليب قمع أخرى قد تصل إلى حد اطلاق الرصاص على بيته من مجهول، لدرجة أنَّ البعض منا بات يتندر من شدة الألم ويقول: يبدو أننا في أمس الحاجة اليوم إلى لغة (كليلة ودمنة)!!، لا بل إن البعض منا بات يشطح به الوجع ويقول: يبدو أننا مضطرون اليوم إلى تعلم لغة الإشارة، حتى نُخاطب بعضنا بلغة الإشارة، وحتى نكتب بلغة الإشارة، وحتى نعبّر عن مكنون صدورنا بلغة الإشارة!!، لا بل إن البعض منا ذهب إلى أبعد من كل ذلك وراح يحمد الله تعالى على أن علوم هذه المدنية العوراء لم تنجح حتى الآن برصد ماهية أحلامنا في مناماتنا، وإلا لأصبحنا نُطارد على أحلامنا!!، وأنا لا أبالغ في كل ذلك فقد ضاقت مساحة حرية التعبير علينا ولا تزال تضيق، وانتقلنا من مرحلة هزلية الادّعاء أن المؤسسة الإسرائيلية هي: (واحة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط) إلى جدية الادّعاء أنَّ بعض أذرع المؤسسة الإسرائيلية صنعت لنا: (واحة اقطعوا النَفَسْ الوحيدة في الشرق الأوسط).

وهكذا بات (رسم قلب) على صفحة تواصل قد يجر على صاحبه المُطاردة بلا حدود!!، وبات الحديث اليومي العادي على صفحة تواصل عن أكلة (الشكشوكة) وعن مكوناتها التي هي البندورة والبصل والبيض وزيت الزيتون والملح والفلفل، قد يدفع بصاحب هذه الصفحة إلى الاعتقال، ثمَّ تمديد الاعتقال، ثمّ تمديد الاعتقال إلى حين صدور الحكم!! وبات التذكير بآية قرآنية أو بدعاء نبوي على صفحة تواصل تبركًا بهذه الآية القرآنية أو هذا الدعاء النبوي قد يجر على صاحب هذه الصفحة متاعب لا حدود لها!!، وهكذا دخلنا في متاهة أيام فاقت أيام قراقوش (مع تقديري لقراقوش الشخصية المظلومة وفق التحقيق التاريخي)، ودخلنا في مهزلة (لماذا خبطت على خيالي).

وهكذا أصبح كل ما يصدر عنا مُتهمًا، فهزة رأسنا وحركة رموشنا وصعود حواجبنا أو ارتفاعها وإشارة أصابعنا وتمتمة شفاهنا وعرض خطوات أقدامنا وميل أعناقنا وانحناء ظهورنا باتت مُتهمة كلها، وإن أخشى ما أخشاه إن تمادى هذا الحال، ثم تفاقم تماديه وأسهب وأطنب، أن نجد ذواتنا متهمة، وأن نجد كلًا من لغتنا العربية والقرآن الكريم والأحاديث النبوية والشعر العربي والأمثال العربية والطبيخ العربي وأدوات الطبيخ العربي مُتهمة كلها، لا سيما ونحن نعيش أجواء محتقنة متوترة بات من السهل فيها أن يُدان البريء وأن يبرأ المُدان، وأن تُلجم أفواه وأن يُسمح لأبواب أفواه أن تُفتح مصارعها بلا ضوابط، وأن يُعتقل البعض ويُحاكم ويمكث في السجن بضع سنين ظنًا قائمًا على ادعاء باطل، أو على غباء خبير شهد في محكمة، أو على شراسة ممثل نيابة، أو على خضوع قاضٍ لتأثير الإعلام الذي نال منه قبل جلسة إصداره للحكم.

وهكذا ضاق الحال ثم ضاق، في الوقت الذي بات مسكوتًا فيه عن صدور كل عجيب وغريب، أو كل تحريض إلى حد الدعوة إلى القتل، أو كل مطلب قد يصل إلى مستوى جريمة حرب ضد الإنسانية في الوقت الذي بات مسكوتًا فيه عن صدور كل ذلك من أفواه إسرائيلية أو مواقع تواصل إسرائيلية لدرجة أن أحد من شارك في هذه الجوقات الإسرائيلية دعا لإلقاء قنبلة ذرية على غزة، وهناك من دعا إلى إيقاع كارثة إنسانية على غزة، وهناك من دعا إلى تهجير كل أهل غزة، وهناك من صفق لقطع الغذاء والماء والدواء والكهرباء والوقود وحليب الأطفال وعلف الحيوانات عن غزة، وهناك من غنّى ودعا في أغنيته لحرق غزة، وهناك من دعا في مُحصلة كلامه إلى اهدار دمائنا كما صدر ذلك عن موقع عبري أطلق على نفسه: (صيادو النازيين وأعوانهم). ولكن إزاء كل ذلك، فنحن مطالبون بالصمود في أرضنا وبيوتنا ومقدساتنا، بالله ولله وإلى الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى