أخبار رئيسيةمقالات

معركة الوعي (167) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (5)

حامد اغبارية

استكمالا للحديث عن الحكمةِ من منع القتال في بداية الدعوة الإسلامية في مكة، وبعيدًا عما يدّعيه رايتر وغيره من أنَّ سببه هو ضعفُ المسلمين وقلةُ عددهم، لا بدَّ من تّنبيه الغافل إلى أن الإسلامَ رسالةُ رحمةٍ من الله تعالى، جاءت لدعوة الناس إلى دين الله وليس لقتالهم. وقد ذكر سيد قطب، رحمه الله، أن المرحلة المكيّة كانت مرحلةَ تربيةٍ وإعداد، ومنها تربيةُ النفس كي تصبرَ على ما لا تصبر عليه عادة في الظلم، وتربيةُ المسلم على ضبط أعصابه. كذلك فإن الدعوة السلميّة أشدُّ أثرًا وأنفذُ في مثل بيئة قريش التي تميّزت بالكِبر والعنجهية، وقتالُها في هذه الحالة قد يدفعُها إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية كثارات العرب قبل الإسلام، وليس لهذا شُرع الجهاد.

ويضيف سيد رحمه الله: كان من حكمةِ عدمِ بدء القتال في مكة اجتنابُ مقتلةٍ في كلّ بيت، إذ لم تكن هناك سلطةٌ نظاميّة عامة (حكم مركزي) هي التي تعذّب المؤمنين وتفتنهم عن دينهم، بل كان الأمر مَوكولا إلى أولياء كلّ فرد (دخل الإسلام) هم يعذبونه ويفتنونه. ومعنى الإذن بالقتال في مثل هذه البيئة أنْ تقعَ مقتلةٌ في كل بيت، ثم يقال: هذا هو الإسلام!!

ومن أجمل ما قاله سيد قطب في هذا أيضا إن الله تعالى سبق في علمه أنه سيدخل الإسلامَ مِن المعانِدين كثيرون، مثل عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وغيرهم. كذلك لم تكن هناك ضرورة مُلحّة وقاهرة لتجاوز هذه الأمور كلها من خلال الأمر بالقتال ودفع الأذى عن المسلمين، ذلك أن الأمر الأساس في هذه الدعوة كان مُحقّقًا وقتها، وهو وجودُ الدّعوة في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، الذي حمتهُ سيوف بني هاشم، فلأي شيء يكون القتال في هذه الحالة؟

إن الذي يفهم مقاصد الشريعة الإسلامية، ويستوعب حقيقة الرسالة التي جاء بها الإسلام، لا بدَّ أنْ يدرك أنّ فريضة الجهاد ليست عدوانا على أحد، وإنما على العكس من ذلك: فهو الوسيلة الأخيرة، بعد استنفاذ الوسائل السلمية، لرد العدوان ورفع الظلم ومواجهة الظالم بهدف ردعه، وإزالة كلّ عقبة تقف في طريق إيصال دعوة الإسلام إلى الناس كافة. وهذا الفهم والإدراك لن تجده في كتاب يتسحاق رايتر، مع يقيني بأنه يعرف هذه الحقيقة، لكنّه يحيد عنها لغرض في نفسه، وهو البحث عن مبرر شرعي ليس فقط لما يسمّيه “السلام مع إسرائيل”، وإنما لشرعنة وجود المشروع الصهيوني وكل ما نتج عنه منذ 1917 ولغاية اليوم.

وهكذا تستطيع أن تفهم أن الجهاد له شروط فيمن يجوز قتاله من الكفار. فهُم يقاتَلون لا لكفرهم وإنما لظلمهم وعدوانهم. لذلك يقاتَلُ من كان من أهل القتال، ليس بصبي أو امرأة أو شيخ كبير أو متعبد في صومعته، كما لا يجوز قتالُ مَن كان ذميًّا أو معاهِدًا أو مستأمِنًا، ولا مَن انقطع عن الناس وترك القتال، وأن تكون قد بلغته دعوة الإسلام. لذلك فإن الجهاد بمفهومه العام دائمٌ لا ينقطع، أما القتالُ فقد اقتضت الشريعة أن يكون لقتال الكفار غايةٌ يتوقَّفُ عندها؛ توقُّفا دائما أو مؤقتا. ومن أسباب توقف القتال دخوله في الإسلام أو في ذمة الإسلام أو عقد معاهدة يلتزم بها ويفي بعهده فيها. وينتهي وجوب الالتزام بالمعاهدات بشروط منها: انتهاء مدتها أو نقض المعاهِد لشرط أو أكثر من شروطها، أو مناصرةُ المعاهِد لعدوّ يحارب المسلمين، كما أن على المسلمين إعلام المعاهِد بأن مدة المعاهدة قد انتهت. وهذه مبادئ سامية لن تجد من يعمل بها من دول العالم “المتحضّر” في زماننا.

في صفحة (27) من كتابه، وفي سياق افتراءاته يقول رايتر ما يلي: (يبدو أن الواقع العسكري والسياسي، الذي رافق الفتوحات الإسلامية، هو الذي جعل فقهاء المسلمين يميلون إلى تبني فكرة الهدنة إلى أجل غير مسمّى، ولكن ومن أجل عدم الانحراف عن فكرة الجهاد، أقرّ الفقهاء بجواز إلغاء تلك الهُدن إذا تبدّلت الظروف. ومن أمثلة ذلك الهدنة التي عُقدت عام 637 بين المسلمين ومصر البيزنطية. مكّنت الهدنة المسلمين من التركيز على حربهم بين النهرين، ولكن عندما كان النصر حليفَهم في تلك الحرب عادوا وأعلنوا الحرب على مصر حتى قبل انتهاء فترة الهدنة). هذا الكلام يقتبسه رايتر من كتاب “فهم الإرهاب الإسلامي- عقيدة الحرب الإسلامية” للمستشرق باتريك سوخْدِيو، الذي يحمل في قلبه حقدا على الإسلام ويعتبره دين إرهاب. وسوخْدِيو هذا من أصل باكستاني هندوسي، اعتنق أبوه الإسلام ليتزوج من مسلمة. وقد ارتدَّ باتريك واعتنق المسيحية وأصبح من أشد الكهنة عداء للإسلام، وقد أهَّله هذا ليصبح مستشارا للقوات الأمريكية والبريطانية للشؤون الإسلامية. وإن كان لا يكفيك هذا فاعلم أن باتريك هذا أُدين في بريطانيا عام 2015 بالاعتداء الجنسي على فتاة (16 سنة). ومن أدلة حقده على الإسلام ما كتبه في مقال له عام 2005، بعنوان “خرافة الإسلام المعتدل” والذي يقول فيه: “إن على المسلمين الالتزام بالصدق والإقرار بالعنف الذى يصبُغ تاريخَهم، وإن هؤلاء الإرهابيين يمثلون الإسلام حقَّا، وعلينا أنْ نصدّقهم إذا قالوا إنهم يفعلون ذلك باسم الإسلام”. ونحن هنا لا نناقش سوخْدِيو هذا، بل نناقش رايتر الذي يختار من المصادر ما يدعّم وجهة نظره ويسُوقها على أنها الحقيقة، حتى لو اتضح أن سوخْدِيو، الذي يقتبس منه، يكذب على التاريخ.

 

 كيف ذلك؟

يقول في الفقرة التي اقتبسناها من كتاب رايتر إن المسلمين نقضوا هدنة بينهم وبين مصر البيزنطية عقدوها عام 637 بسبب انشغالهم بالحرب في العراق (بين النهرين). وهذه من أفعال التضليل. فلم تكن هناك هدنة أصلا بين المسلمين وبين مصر البيزنطية عام 637 حتّى ينقضوها، لأن المسلمين لم يكونوا قد وصلوا إلى مصر في تلك السنة، ولم يفكروا أصلا في فتحها في تلك السنة. فقد فتحها عمرو بن العاص عام 640، أي بعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ الذي يذكره رايتر اقتباسا من سوخْدِيو.

وحتى تتّضح الصورة أكثر فإن المسلمين خرجوا في آن واحد بقيادة خالد بن الوليد لفتح الشام، وبقيادة سعد بن أبي وقاص لفتح العراق، وكان ذلك سنة 636، وقد استغرقت معركة القادسية بقيادة سعد رضي الله عنه أربعة أيام، واليرموك بقيادة خالد رضي الله عنه خمسة أيام، وكان لكل منهما جيشُه وقواتُه وعتادُه، ولو أراد المسلمون عقد هدنة كي يتمكنوا من فتح بلدٍ مَا لكان أولى أن تكون الهدنة إما مع الفرس في العراق وإما مع البيزنطيين في الشام، وليس مع مصر البيزنطية كما يدعي رايتر نقلا عن سوخْدِيو! فلأي شيء تُعقد هدنة مع مصر البيزنطية، التي لم يكن المسلمون قد اتّخذوا قرارًا بفتحها بعدُ؟ ولأي شيء تكون الهدنة وقد استغرقت معركة فتح العراق أربعة أيام ومعركة فتح الشام خمسة أيام؟

إنما اختلق سوخْدِيو هذه (الحادثة) ليُظهر المسلمين بمظهر ناقضي العهود والاتفاقيات.

أمّا قوله إن الفقهاء المسلمين أجازوا إلغاء الهدنة إذا تبدلت الظروف فهذا حرف للكلام عن معناه، والهدف منه إلصاق صفة الغدر بالمسلمين. فقد اتفقت المذاهب على أنه إذا عوهد المشركون فعلى المسلمين إمضاءُ العهد إلى مدّته والإيفاء به. واستثنى أبو حنيفة ذلك بشرط بقاء المصلحة، فإذا اقتضت المصلحة إلغاء المعاهدة فلا بدّ أولًا النبذُ إليهم قبل فسخ العهد. والنبذُ في الشرع هو إبلاغ المعاهد بأن هناك نية لإلغاء العهد. وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز نقض العهد إلا بعد نبذه. إذ أجازت الشريعة الإسلامية للحاكم المسلم أن يتحلل من المعاهدات المبرمة مع الآخر بما يسمى فقها (نبذ المعاهدات)، ولكنَّه تحلُّلٌ مقيّدٌ بقواعد وضوابط، ومنها أن تكون المدةُ كافيةً للمعاهَد للإعداد والعودة إلى وضع ما قبل المعاهدة. وقد أوضح صاحب “المصباح المنير” (أحمد الفيومي الحموي) النّبذ في قوله: “إذا هادنتَ قومًا فعلمتَ منهمُ النقض للعهد فلا تُوقِع بهم سابقًا إلى النّقض حتى تُعلمَهم أنك نقضتَ العهد فتكونوا في علم النّقض مستوين”.

ولا بدّ من توضيح مسألة “إذا تبدلت الظروف”، وما هي المصلحة التي يشير إليها أبو حنيفة. فالمصلحة تتوقف عند إلحاق الضرر بالمسلمين. ولهذا ضوابط لا يجوز تجاوزها: أن تكون مدّة النبذ كافيةً للعدوّ حتى يتحصّن ويستعد للحرب، وإلا كان ذلك غدرا. وقد ذكر ابن عابدين في “رد المحتار على الدر المختار” أنه لا يجوز قتالُ العدو حتى يمضيَ عليه زمانٌ يتمكن فيه ملِكُهم من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته، وحتى لو كانوا خرّبوا حصونهم للأمان وتفرقوا في البلاد فلا بدّ أن يعودوا إلى مأمنهم ويعمّروا حصونهم كما كانت توقّيا للغدر”. وهو ما لنْ تجده اليوم في المعاهدات الدولية ولا في القانون الدولي. وهذا يُعطي الشريعة الإسلامية ميزة أخرى تتوافق مع مفاهيم العصر والفطرة الإنسانية السليمة، تتمثل في تعاملها مع الآخر بمنظومة أخلاقية متكاملة وثابتة، تقوم على إحقاق الحق والبُعد عن كل مظهر من مظاهر الخداع والخيانة (انظر: نبذ المعاهدات في الفقه الإسلامي: دراسة مقارنة بالقانون الدولي، لمحمد الشرمان). (يتبع).

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى