أخبار رئيسيةمقالات

معركة الوعي (166) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (4)

حامد اغبارية

 عندما يُخرَجُ الكلامُ من السيّاق فإنه من السهل أنْ تجعل له معنىً آخر، أو أن تعطيَه مقصدًا آخر يختلف كليا، في أغلب الأحيان، عن المعنى المقصود في السياق. وهذا تماما ما يفعله يتسحاق رايتر في كتابه. فهو يتلقّف الجملة تلو الجملة من مواقف الإسلام حول الجهاد ومقاتلة غير المسلمين، أو موقفه من السلام والمعاهدات والصلح.

من ذلك مثلا حديثه عن “آية السيف”، وهي الآية (9) من سورة التوبة، والتي يقول الله تعالى فيها: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فهو يوردها على أنها تتناقض مع الآية (61) من سورة الأنفال والتي يقول الله تعالى فيها: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم}. ويتساءل: كيف نفُضُّ التناقض بين آيات السلام وآيات الحرب؟  زاعما أن آية التوبة (9)، تحثّ قائد المسلمين على إلغاء اتفاقية كان قد أبرمها نتيجة تغيّر ميزان القوى في غير صالحه، والذي كان قد أدى (ميزان القوى) إلى إبرامها أصلا. ثم يقول: يبدو هذا واضحًا حيث أن آية السلام نزلت عندما كان تعداد المسلمين قليلا، بينما نزلت آية السيف عندما قويت شوكة المسلمين ولم تعد لهم حاجة لوقف الحرب. كل هذا الكلام يقتبسه رايتر من زميله المستشرق الإسرائيلي أوري روبين الذي لا يقل عنه تحريفا للمعاني وإخراجا عن السياق. ويضيف أن بعض المحللين يقولون إن الجدل حول هذه الآيات لا يجري بمعزل عن السياق الذي نزلت فيه الآية. والسؤال: من هم هؤلاء “بعض المحللين” الذين يتكرر ذكرهم في الكتاب دون أن يُحيل إليهم؟

حقيقة المسألة أن رايتر يدلس على القارئ، وقد ذكرنا أنه اعترف في مقدمة الكتاب بأنه غير واثق من أنه ينتهج المنهج العلمي فيه. لذلك نقول إن آية السيف قد أجمع المفسرون وأهل العلم من المسلمين الثقات أنها نزلت في ذات سياق هدنة الحديبية. فقد جاء فتح مكة بعد أن نقض مشركو مكة الهدنة بعد سنتين من توقيعها، والحديث في الآية يشير بوضوح إلى إمهال المشركين فترة الأشهر الحرم، التي يحرم فيها القتال، وليس لأنها مجرد مهلة أربعة أشهر عادية يمنح المسلمون فيها مهلة للمشركين حتى يقرروا ما سيفعلونه. وهذا واضح يفهمه كل ذي لبّ إذا ما قرأ كل الآيات المرافقة لتلك الآية. أما قوله بأن المسلمين نقضوا العهد أو ألغوا الاتفاقية التي كانوا قد عقدوها مع المشركين (الحديبية) بسبب ضعف قوتهم، فإن هذا كلام باطل. فقد كان المسلمون في أوج قوتهم، بعد انتصارهم في غزوة بدر الكبرى. ولعلّه من المفيد أن نذكّر بأن الصحابة كانوا قد أعربوا عن استعدادهم للقتال، وأنهم ذوو منعة وقوة، وذلك عندما أبلغهم النبي صلى الله عليه وسلم بقبوله الهدنة في الحديبية مع مشركي قريش. ولكنه الوحي. فهو الوحي الذي يبدو واضحا أن رايتر وأمثاله من المستشرقين لا يمكنهم استيعابه وإدراك مكانته في تحركات المسلمين في السلم والحرب على حدّ سواء. فقد جاء عمر بن الخطاب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: ألسنا على الحق وهم على الباطل؟، قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟، قال: بلى، قال: ففيمَ نُعطي الدنيّة في أنفسنا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيّعني الله، قال: فانطلق ابن الخطاب ولم يصبر متغيظا، فأتى أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ فقال: يا أبا بكر ألسنا على الحق وهم على باطل؟، قال: بلى، قال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فعلى ما نعطي الدنية في ديننا؟، ونرجع ولمَّا يحكم الله بيننا وبينهم؟، قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله، ولن يضيعه الله أبدًا. فنزل القرآن على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه، فقال: يا رسول الله، أوَفتحٌ هو؟، قال: نعم، قال: فطابت نفسه ورجع. والشاهد هنا أن موقف عمر رضي الله عنه كان موقف قوة لا ضعف، لكنّه الوحي.

ثم ترى رايتر يقول إن آية السلم المشار إليها في سورة الأنفال قد نزلت عندما كان تعداد المسلمين قليلا. وهذا تفسير ظاهر البطلان. فسورة الأنفال تتحدث عن معركة بدر الكبرى، التي كانت الغلبة فيها للمسلمين، رغم قلة عددهم. فماذا نفعل إذا كان رايتر لا يستوعب أن الإسلام جاء أساسا بالسلم والسلام للبشرية، وما الحرب والقتال فيه إلا استثناء. فالجهاد شُرع لغايات عرّفها الشرع، وهي ألا تكون فتنة ويكون الدين لله، ولإصلاح الأرض وتطهيرها من الفساد ولنصرة المظلوم ونجدة المستضعفين والضرب على يد الظالم وردّ العدوان وحماية المسلمين وتحقيق معتنى العبوديّة لله تعالى، والتي تعني أن يقف المسلم حيث تقف العبودية الحقة لله، فإن أُمِر بالقتال فلا يقصّر ولا يتردد ويتأخر، وإن أُمر بالسلم والموادعة يفعل دون تردد. وهو- أي الجهاد- ابتلاء وتمحيص واختبار من الله تعالى لعباده، ليبيّن الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق. وهذه المعاني لا يصل أمثال رايتر إلى إدراك حقيقتها، ولذلك تراه – على سبيل المثال- يقول لك إن كلمة “جهاد” وردت في القرآن 36 مرة فقط، بينما لم يدرك أن المسألة أوسع من ورود اللفظ بأحرف (الجهاد). ففي القرآن مئات الآيات التي تشير إلى الجهاد بصيغ وألفاظ مختلفة، حتى أن من الباحثين – أمثال مجدي عمارة في كتابه القيّم “آيات الجهاد في القرآن الكريم”- قد أحصى ما بين 200- 400 آية بهذا المعنى، وهناك من ذكر أن الآيات الجهاديّة بمختلف تعبيراتها بلغت نصف القرآن المدني، مثل الباحث كامل الدقس في بحثه “آيات الجهاد في القرآن الكريم- دراسة موضوعية وتاريخية وبيانية” والباحث ناصر الخنين في كتابه “النظم القرآني في آيات الجهاد”، بينما ذكر صبحي عصر في كتابه “المعجم الموضوعي لآيات القرآن الكريم” أنه أحصى 97  آية تشير إلى الجهاد مُستثنيا آيات الجهاد التي تتحدث عن الأمم السابقة. وأحصى مروان عطية في كتابه “المعجم المفهرس لمواضيع القرآن الكريم” 400 آية. هذه آيات تتحدث عن الجهاد بمعناه الخاص، وهو القتال في سبيل الله، وعن الجهاد بمعناه العام، كجهاد النفس والشيطان وجهاد المشركين بالكلمة والدعوة، حتى أن الصبر على أذاهم هو جهاد كذلك. وإنَّ حصر رايتر آيات الجهاد بالرقم الذي أشار إليه إنما يدل على قصور في فهم القرآن ومعانيه ومراميه.

ثم تجد رايتر يعرّف مصطلح “الجهاد” ذلك التعريف الضيّق الذي يذهب إليه عموم المستشرقين، كي يُظهروا الإسلام على أنه جاء بالقتال والعنف وانتشر بقوة السيف وانتهاز الفرص؛ فيقول إنه يعني في بعض الأحيان القتال، أي فريضة الحرب ضدّ الكفار . هكذا على إطلاقه!! وهذا نوع من التلبيس. فالجهاد القتالي لا يكون فعلا إلا بين المسلمين وبين الكفار، لكن ليس كلّ كافر يُقاتَلُ، وإنما هناك ضوابط شرعية تحكم هذا القتال، ومنها السعي إلى إعلاء كلمة الله تعالى، وقتال الكافر غير ذي العهد. فإن كان ذا عهد فلا يجوز قتاله إلا بشرطين: أن ينقض هو هذا العهد أو تنتهي مدة هذا العهد. وهذا سائرٌ على جميع الأمم، قديما وحديثا، وليس خاصا بالمسلمين وحدهم. بل هو قاعدة تبنتها الدولة الحديثة في زماننا كمبدأ في العلاقات الدولية، وإن كانت أغلب الدول، خاصة القوية منها، بما فيها المؤسسة الإسرائيلية ذاتها، اعتادت نقض المعاهدات والغدر واحتلال أرض الآخرين بقوة السلاح، وفرض الهيمنة بالظلم والعدوان، رغم وجود معاهدات واتفاقيات.

وهذه الروح الفاسدة التي تسيطر على الدولة الحديثة اليوم أبعد ما تكون عن روح الإسلام وما جاء به. ولن تجد في التاريخ أمة من الأمم حفظت العهود وأنفذت الاتفاقيات كما فعل المسلمون في جميع العصور. بل لن تجد في تاريخ الإسلام من ذلك إلا فيما ندر، وكان يحدث لا كسياسة دولة ولا من منطلق مبدأ، وإنما من قرارات ميدانية اجتهد فيها قائد أو مسؤول، فلما اتضح خطأه عاد ورجع.

وعليه فإن عدم الجهاد في بداية أمر الإسلام لم يكن عن ضعف أو قلة عدد، وإنما جاء الأمر للمسلمين في بداية الدعوة (في المرحلة المكيّة) بالصبر والإعراض عن المشركين وتحمّل أذيّتهم، ثم جاء الإذن بالهجرة، فكانت تلك المرحلة مرحلة جهاد بالحجّة والبراهين لدحض أباطيل الكفر، لأن هذا أساسا ما جاء به الإسلام: إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن الظلمات إلى النور. وكنت تجد من المسلمين في العهد المكي من رفع صرخة القتال، مثل عمر بن الخطاب وحمزة بن عبد المطلب، رضي الله عنهما. غير أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن بذلك، لأن الهدف كان إعداد تلك الثُّلة المخلصة الخالية من النفاق إعدادا إيمانيًّا تربويا لحمل أعباء الرسالة في مراحلها اللاحقة. أو بتعبير عصري: “إعداد الرجال لبناء الدولة”. وقد جاء الإذن بقتال المشركين من الذين يعلم المسلمون أنهم يعتقدون وجوب قتال المسلمين وقتلهم واجتثاثهم، ثم قتال من قاتل المسلمين مع النهي عن الاعتداء، ثم جاءت مرحلة قتال المشركين كافة بالضوابط الشرعية المعروفة، وبدئهم بالقتال وغزوهم في بلادهم إذا ما حالوا دون إيصال دعوة الإسلام إلى الناس، أو رفضوها هم أنفسهم، وكان ذلك في السنتين الأخيرتين من حياة النبي صلى الله عليه وسلم، مع نزول سورة التوبة. (يتبع).

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى