أخبار رئيسيةمقالات

معركة الوعي (165) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر- فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (3)

حامد اغبارية

في الفصل الأول من الكتاب يتحدث يتسحاق رايتر عن إلقاء ياسر عرفات خطابا في مسجد جوهانسبرغ في جنوب أفريقيا برر من خلاله اتفاقيّة “أوسلو” بحادثة ما يعرف تاريخيا بـ “صلح الحديبيّة” الذي عقده النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش في العام السادس للهجرة (627 ميلادية). وبطبيعة الحال فإن رايتر أفرد مساحة كبيرة للحديبية في فصول لاحقة، وسوف نناقش ما جاء فيها في مقالات قادمة. ولكن من الآن أقول إن المقارنة بين “أوسلو” و “الحديبية” هي مقارنة باطلة من أصلها، ولا تصح، لأنها لا تنسحب على الحالة الفلسطينية.

أولا: إن اتفاقيّة الحديبيّة، كانت في حقيقتها بمثابة هدنة مؤقتة لعشر سنوات، ولم تكن صُلحا دائمًا بين المسلمين وبين مشركي قريش.

ثانيا: الحديبية كانت بين أبناء البلد الواحد و “الشعب الواحد”، فالمهاجرون المسلمون، وفي مقدمتهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، هم من أبناء مكة المكرمة، كانوا مواطنين أصليين فيها، ولهم فيها أملاك ومساكن. وكذلك الأمر بالنسبة لمشركي مكة الذين اتخذوا موقف العداء من رسول الله عليه الصلاة والسلام ومن الذين اتّبعوه لسبب ديني عقائدي، إذ رفضوا رسالته وما جاء به من وحي السماء، وقد أخرجوه من بلده لهذا السبب، وليس لأنهم ادّعوْا أن الأرض أرضهم، وأن الآلهة منحتها لهم ووعدتهم بها، ولذلك فإن مكة وطنهم وحدهم، وليس للمسلمين حق المواطنة فيها، لأنهم مجرّد طارئين استولوْا على بلد ليس من حقّهم، ولذلك يجب اقتلاعهم منها واستعادة أرض آبائهم وأجدادهم من أيدي المسلمين!! بل إن مشركي قريش لم ينكروا أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن معه أصحابُ حق في وطنهم (مكة)، ولم يدّعوا لأنفسهم الحق الديني والتاريخي للبلد دون غيرهم، ولم يقولوا للمسلمين مثلا، عند عقد تلك الهدنة: سنعطيكم رُبع البلد لتعيشوا فيها، أو سيكون من حقنا بناء بيوت لنا في أحيائكم…  فأين هذه من تلك؟

أين أسباب الصراع بين المسلمين وبين مشركي قريش من أسباب وتداعيات وظروف وحيثيات وخلفيات الصراع على فلسطين بين الفلسطينيين (ومِن ورائهم الأمة كلها) وبين اليهود الذي جاءوا وسيطروا على الأرض بقوة السلاح، زاعمين أن الأرض كلها أرضهم، وأن الفلسطيني لا حق له فيها، ويجب إخراجه منها ألبتّة، لأنه يعيش في وطن ليس من حقّه العيش فيه؟

ثالثا: كانت الحديبية هدنة مؤقتة لعشر سنوات، كما ذكرتُ آنفا، ولم تكن اتفاقية سلام دائمة. أما “أوسلو” فهي اتفاقية تؤسس لحلّ نهائي ظالم، ومع ذلك لم يتحقق منه شيء، سوى التأسيس لسلطة تخدم أهداف الاحتلال بالدرجة الأولى، رغم مرور أكثر من ربع قرن.

ومعلوم أن كفار قريش نقضوا هدنة الحديبية بعد أقل من سنتين، فأصبح المسلمون في حِلّ من شروطها، وجاء بعدها فتح مكة. أما “أوسلو” فقد نقض الاحتلال كل شيء فيها على مدار ربع قرن، ومع ذلك تصر قيادات المقاطعة على “الإخلاص الشديد” لبنود “أوسلو”، بل وتدافع عنها دفاع المستميت، إلى درجة معاداة واعتقال وسحل وشبح من ينتقدها أو يطالب بإلغائها.

في مكان آخر من الفصل الأول في الكتاب يزعم رايتر أن “القرآن يتضمن آيات ذات معان تبدو متناقضة أحيانا، ولذلك حاول بعض المفسرين تفسير هذا التناقض بالتوجه إلى الترتيب التاريخي لنزول الآيات. وبحسب هذا التوجه فإن الآية الناسخة تلغي الآية المنسوخة وفقا للترتيب الزمني لنزول الآيات. كذلك هو الحال في الحديث الشريف، حيث يشمل أحاديث مذكورة بصيغ مختلفة وقد تكون متناقضة أيضا في بعض الأحيان”. إلى هنا الاقتباس.

إن دعوى وجود تناقض في آيات القرآن هي محض افتراء وبدعة معاصرة ابتدعها المستشرقون، ثم وجدوا من بين ملحدي العرب من يرقص على أنغامهم ويروج لأفكارهم. إذ من المستحيل أن يكون هناك تناقض لا في الآيات ولا في معانيها، وقضية الناسخ والمنسوخ ليست دليلا على وجود تناقض، لأن الناسخ لم يأت بآية فيها نقيض آية نُسخت، وإنما هي عملية تطوّر في أحكام شرعية تبعا لظروف الزمان والمكان، مثل قضية تحريم الخمر على سبيل المثال. فالقرآن كلام الله تعالى ليس فيه تناقض إطلاقاً، ولو كان فيه شيء من ذلك أو حتى مجرد شبهة لأثاره أعداء الإسلام والمشركون قديماً، فقد نزل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، والعرب أهل لغة وبلاغة فلم يجدوا في القرآن مطعناً رغم رفضهم لرسالة التوحيد. لذلك كان مشركو العرب المتقدمون أكثر احتراماً لعقولهم وعقول من يخاطبونهم من هؤلاء السفهاء الذين أطلوا برؤوسهم في زماننا من الذين لا يعرفون شيئا عن العربيّة ولا دهاليزها ولا رقيّ تعبيراتها. وفي هذا يقول الله عز وجلّ في القرآن الذي يزعم رايتر (وغيره) وجود تناقض فيه: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} (النساء/ 82 ). لذلك فإن رايتر وأمثاله يحتاجون إلى مليون سنة ضوئية ليصلوا إلى أدنى درجات فهم آيِ القرآن ومعانيه وبلاغته.

وفي سياق حديثه المبطن عن الحديث الشريف يشير إلى ظهور المذاهب الفقهية الأربعة ويقول: (عادة ما يعود الفرق بين المذاهب إلى المكان الجغرافي لنشوئها). وهذا كلام باطل من أساسه. فالفرق، أو بالأحرى الاختلاف بين المذاهب في مسائل فقهية، يكاد العادُّ يحصيها لقلّتها، يعود إلى ثلاثة أسباب ليس بينها مكان نشوء المذهب:

– أسباب تعود إلى رواية السنن، من ذلك عدم الاطّلاع على الحديث، والشك في ثبوت الحديث، ونسيان الحديث.

– أسباب تعود إلى فهم النص، وتفاوت عقول المجتهدين، ومن ذلك: اختلاف المجتهدين في فهم النصوص، واختلاف المجتهدين في استنباط الأحكام فيما لا نصّ فيه، واختلاف المجتهدين في الجمع والترجيح بين النصوص، واختلاف المجتهدين في القواعد الأصوليّة.

– أسباب تعود إلى اللغة، وأهمها: الاشتراك اللفظي، وتردد اللفظ بين الحقيقة والمجاز، واختلاف القراءات.

وهذه الأسباب لا تنسحب على مؤسسي المذاهب وحسب، بل تنسحب كذلك على من تمذهب بمذهب كل منهم من علماء أجلاء.

كذلك من المهمّ التنبيه إلى أنّ هذه الاختلافات ليست مقصورة على الحقبة المتأخرة التي ظهرت فيها المذاهب، (القرنين الثاني والثالث للهجرة) بل كانت في عصر الصحابة رضوان الله عليهم، وأمثلة ذلك كثيرة لا تُحصى. إلى ذلك فإن كان المذهب المالكي قد نشأ في المدينة المنورة فإن المذهب الحنفي والمذهب الشافعي والمذهب الحنبلي نشأت في العراق (بين بغداد والكوفة)، فكيف نشأت الفروق بينها إذًا وهي في موقع جغرافيّ واحد؟ علما أن هذه الفروق ليست كثيرة وهي فروق فرعية لا تمسّ أصول الفقه. هذا إضافة إلى أن كل واحد من هذه المذاهب انتشر في بقاع أرض الإسلام من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها.

في سياق حديثه عن آيات القتال في القرآن، يقتبس رايتر رأي المستشرق الإسرائيلي أوري روبين فيما يتعلق بتلك الآيات، ومن ذلك قوله إن الآية 36 من سورة التّوبة {وقاتلوا المشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة} هي هدرٌ لدم جميع الكفار على مدار أيام السنة، دون استثناء الشهر الحرم. وهذه محاولة لإظهار المسلمين بأنهم يستحلون القتال في الأشهر الحرم، وهذا ليس دقيقا. وكان على رايتر، ومن قبله روبين توضيح المسألة، لو كانت نيتهما البحث العلمي البحت.

فالآية، على الأغلب، منقطعة في السياق عما سبقها من آيات، وقد جاءت من باب حض المسلمين على الاستعداد للقتال في حالة اجتمع المشركون لقتالهم، وأن يقاتلوهم نظير ما يقاتلونهم. ومع ذلك فإن الآية تحتمل أن تكون إذنًا للمسلمين بقتال المشركين في الشهر الحرم، بشرط أن يكون المشركون هم من بدأوا الحرب، وليس كما حاول رايتر أن يصوّر المسألة بأنها إذن مفتوح على إطلاقه. ناهيك عن المسلم لا يمكن أن يكون معتديا بشن الحرب، لا في الأشهر الحرم ولا في غيرها. وقد أشرتُ إلى ذلك في المقال السابق، لدى الحديث عن دوافع الجهاد. وهذا واضح وضوح الشمس في قوله تعالى: {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} (البقرة/ 191)، وفي قوله سبحانه: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة/ 194).  وهذا المعنى ينطبق على حادثة قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم لهوازن وحلفائهم من ثقيف (الطائف)، الذين بدأوا المسلمين القتال، فخرج النبيّ إلى قتالهم في شهر شوال الذي يلي رمضان، وهو شهر حلال، فتحصّن المشركون في الطائف، وحاصرهم المسلمون ما يزيد على أربعين يوما، دخل خلالها الشهر الحرام (ذو القعدة)، فكانت هذه تتمة قتال بدأ في شهر حلال، ولم تكن بدء قتال في شهر حرام. وقد رجع المسلمون عن الحصار بعد بضعة أيام من دخول الشهر الحرام وفكّوا الحصار عن الطائف. وهناك قاعدة فقهية تقول: “يُغتفر في الدّوام ما لا يُغتفر في الابتداء”.

(يتبع)…

 

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى