أخبار رئيسيةمقالاتومضات

معركة الوعي (164) في مناقشة كتاب يتسحاق رايتر “الحرب والسلام في العلاقات الدولية في الإسلام المعاصر-  فتاوى في موضوع السلام مع إسرائيل” (2)

حامد اغبارية

يُفاضِل يتسحاق رايتر بين موقفين في العالم الإسلاميّ فيما يخصّ العِلاقة بالمؤسّسة الإسرائيليّة؛ موقفِ من يسمّيها “الأطراف المتشدّدة الدّاعية إلى المواجهة مع إسرائيل بين الجهاد والمقاومة من جهة، والهُدنة والتهدئة من جهة أخرى، وبين موقف المؤسّسات السياسية العربية (الأنظمة العربية) الّتي تؤيد المساعيَ المبذولة من أجل التّوصّل إلى سلام مع إسرائيل بشروط معينة”. ويضرب مثالًا على ذلك ما يعرف بـ “مبادرة السّلام العربيّة” أو المبادرة السعوديّة من عام 2002؛ تلك المبادرة الّتي ردّ عليها أريئيل شارون ردًّا عمليًّا داميًا بشنّ عملية “السّور الوالي” الإرهابيّة ضدّ مخيّم جنين, ثم يقول: “يتناقض هذا الخيار (يقصد خيار الأنظمة العربيّة) ظاهريًّا مع قواعد الشّريعة الإسلاميّة الّتي تقضي بأنّه ينبغي على الإسلام مواصلة العمل على توسيع رقعة سيطرته وانتشاره في العالم عن طريق الجهاد، وأن التّوقُّف عن القتال جائز لفترات زمنيّة قصيرة ومحدودة من أجل حشد القوّة ومن ثمّ معاودة القتال” (ص 8)!!

هكذا بجرّة قلم صهيونيّ مُفترٍ يقرّر رايتر أنَّ قواعد الشّريعة الإسلاميّة تقضي بمواصلة الجهاد لتوسيع رقعة السّيطرة الإسلاميّة، وأنَّ التّوقّف عن القتال يكون فقط لزمن قصير بهدف حشد القوّة من أجل مواصلة القتال.

وهذا تشويه للحقيقة وتزوير للتّاريخ الإسلاميّ وكذبٌ وافتراء على الشّريعة الإسلاميّة:

– إنَّ تعطيل الأنظمة العربيّة والإسلاميّة المعاصرة لفريضة الجهاد لا يلغي كون هذه الفريضة ذروة سنام الإسلام، وأنّها لا تُلغى مبدئيًّا لرغبة هذا النّظام أو تلك الدّولة أو الفئة، سواء كانت هذه الرّغبة نابعة من النّظام لأنه يعتقد ذلك، أو لضعف فيه ولرضوخه وتبعيّته للغرب المهيمن أو الشّرق المسيطر، أو جراء استبعاد تلك الأنظمة والدّول للإسلام من حياتها، واستبدالها بنظام حكم مستورد من الغرب الرأسمالي أو الشرق الاشتراكي أو غير ذلك مما لا علاقة له بالشّريعة الإسلاميّة.

– إنّ كون الجهاد فريضة لا يعني أنّه الوسيلة لنشر الإسلام، ذلك أنّ الأصل في الإسلام هو الدّعوة إلى دين الله بالّتي هي أحسن، وهذا يوضّحه القرآن في قوله تعالى: {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (النحل: 125).

– يسعى رايتر إلى إظهار الإسلام بأنّه انتشر بالسّيف، كما تذهب نظريّة الاستشراق، وهذا ليس عليه دليل، وهو محض افتراء. بل إنّك تجد من أهل الإنصاف من الباحثين والمفكّرين الغربيّين مَن ينفون عن الإسلام هذه الفرية. ومنهم على سبيل المثال الكاتب الأمريكي خوان كول صاحب كتاب “محمد: نبيّ السّلام في زمن صراع الإمبراطوريّات” نفى فيه بالدّليل مقولة إنّ الإسلام سعى إلى توسيع رقعته بقوّة السّيف (الجهاد)، واصفًا النبيَّ عليه الصّلاة والسّلام بأنَه رجلُ سِلمٍ سعى لنشر عقيدته التّوحيديّة وحاول إقامة بيئة متناغمة متعددّة الثّقافات.

– إنّ معظم الفتوحات الّتي خاضها المسلمون منذ عصر النبوّة كانت جهادَ دفْع لا جهاد طلَب، ذلك أنَّ فريضة الجهاد متعلّقة بشكل مباشر بوجود طرف معتدٍ وليس بوجود طرف مخالف في الدّين أو العقيدة. لذلك فإنّ الجهاد في الإسلام كان في جوهره وحقيقته دفعًا للظّلم ونصرة للمظلوم وسعيا إلى نشر العدل والقسط؛ استجابة لأمر الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} (الحديد: 25). ولم يسجّل التاريخُ أنّ المسلمين قاتلوا أهل الكفر كونهم كفّارًا، أو مخالفين لهم في الدّين والعقيدة، لأنَّ هذا مخالفٌ لصريح القرآن، وصحيح الحديث.

– بعث الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بالرّحمة كافّة إلى الأمم كافّة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء: 107). وقد حمل المسلمون رسالة الإسلام إلى بقاع الأرض لتتَّسع رقعتُه دعويا قبل أن تتّسع رقعته جغرافيّا بقوّة السّيف وبالإكراه، كما يحاول رايتر تصوير المسألة، وهو موقف يتناقض تماما مع واقع الحقائق التاريخيّة. وكم من بلادٍ دخلت الإسلام لمّا سمعت بصدقه وعدله وسماحته قبل أن يصل إليها الفاتحون، بل هناك أقوام وبلاد دخلت الإسلام ولم يصلْها مقاتل واحد. ولو صحّت مقولة رايتر ومذهبه هذا فماذا يقول في الّذين وصلهم الإسلام بحدّ السّيف وبالجهاد القتالّي وقد ثبتوا على دينهم وتشبّثوا به رغم ضعف المسلمين وانحسار دولتهم وانقضاض الأمم عليهم؟ وماذا يقول في الآلاف المؤلّفة الّتي تعتنق الإسلام اليوم في شتى أنحاء كوكب الأرض، برغم ما يتعرض له الإسلام من تشويه وشيطنة، ورغم أنّه لا جهاد ولا قتال ولا حتى دولة إسلامية تحكم بالشريعة؟!!

– يقول الشيخ علي الطنطاوي في كتابه “فصول في الدعوة والإصلاح”؛ ص 136: “إنَّ الّذين يحسبون الجهاد عدواناً مسلحاً، لا يدرون ما الجهاد، الجهاد ليس حرباً هجوميَّة نعتدي فيها على النَّاس، الإسلام إنَّما جاء لإقرار العدل وتحريم العدوان”.

– ويقول د. محمد مختار الشنقيطي في مقال له بعنوان “الجهاد على بصيرة” : (لم يجعل الإسلام اختلافَ الدّين مسوّغا شرعيًّا للقتال، فالجهاد في الإسلام ليس قتال الكافر، بل هو قتال الظالم مسلمًا كان أو كافرًا، فهو موقف أخلاقيّ مع العدل والحريّة ضدّ الظلم والقهر. فالمجاهد يقاتل الظّالم لظلمه، لا لعقيدته أو مذهبه). وقتالُ الظّالم مسلمًا كان أو كافرًا تؤكّده الآية الكريمة: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ۚ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات: 9).

– لم أقرأ أكثرَ سُخفا من قول رايتر: “إنّ التّوقّف عن القتال جائز لفترات زمنية قصيرة ومحدودة من أجل حشد القوّة ومن ثَمّ معاودة القتال”. فهو يوهم القارئ وكأنّ المسلم موجود فقط لحمل السّيف، وأنّ همّه الوحيد هو القتال وشنّ الحروب على الآخرين، وأنّه يمكنه أنْ يتوقف فقط لفترة وجيزة حتى يستجمع قوته ويحشد الحشود لمواصلة شنّ الحروب!! وهذا كلام باطل مناقض لمعنى الجهاد، كما هو مناقض للوقائع وللتاريخ، وهو حرفٌ متعمّد للمقاصد.

– والسّؤال الكبير الّذي ينتج عن هذه الحالة هو: هل زرعُ المشروع الصهيونيّ في بلاد المسلمين، وما نتج عنه من تأسيس دولة على أرض المسلمين هو عدل أم ظلم؟ هذا الذي على رايتر أن يجيب عليه، ولم يفعله في كتابه هذا، بل إنَّه يسعى إلى الحصول على شرعية (إسلامية) ليس فقط بخصوص ما يسميه هو (وغيره) “السّلام مع إسرائيل”، بل إلى الحصول على شرعيّة للمشروع الصهيونيّ وآثاره في فلسطين وأهدافه في المنطقة العربيّة والجغرافيا الإسلاميّة. (يتبع).

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى